السبت، أبريل 27، 2013

القضاء الشامخ 5



(5)

قاضي القضاة
أبو يوسف(1)

يروي لنا قاضى القضاة ( أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة النعمان رحمهما الله) قصته  فيقول: " توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار( خياط)، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار( الخياط)، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.
فقال لها: اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج.
فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.
قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي (الخليفة الرابع في الدولة العباسية ولد سنة 144 هـ / 766 م وتوفي سنة 170 هـ/ 787م ) وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.
قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد (هارون الرشيد) إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.
وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا الفالوذج.
قال: فتبسمت، فقال: مالك تتبسم؟
فقلت: لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.
ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المشهور بأبى يوسف،  ولد في مدينة الكوفة سنة 113هـ، وتطلع إلى العلم والدراسة فلم يجد خيرًا من مجلس الفقيه الكبير أبى حنيفة النعمان فتتلمذ على يديه، ودرس عنده أصول الدين والحديث والفقه.  ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول: كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي حنيفة، وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة، فجاءني أبي يومًا فانصرفت معه، فقال لي: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة ( أي لا تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك ولا تنقطع للعلم)، فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخرى عنه؛ فقال لي: ما شغلك عنا ؟ قلت: الشغل بالناس وطاعة والدي، وجلست حتى انصرف الناس، ثم دفع لي صرة وقال: استمتع بها. فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال: الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت.
(2) ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء العاشر

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق