الأحد، أغسطس 28، 2016

علي شاهين يكتب: ملخص كتاب الإسلام بين الشرق والغرب لمؤلفه علي عزت بيجوفتش


 ولد على عزت بيجوفتش فى البوسنة والهرسك عام 1928 وتوفي عام 2003، وكان أول رئيس للبوسنة والهرسك في الفترة من 1990 وحتى 1996 بعدها اعتزل العمل السياسي بسبب تدهور حالته الصحية وخاصة النوبات القلبية التى تفاقمت فى أواخر أيامه وألحقته بالسابقين في عام 2003.
يُمكن أن نعتبر هذا الكتاب  ـ دون أن نكون قد وقعنا فى دائرة المبالغة والتهويل المُفرط ــ رحلة فكرية تبلورت تعاريجها ومنحنيتها وأضوائها المنعكسة فى الأراء التى نظّم لها بيجوفتش فى كتابه السابح فى أيات الجمال والحكمة؛ فالرجل فى كتابه قد تجاوز الأسم المطبوع على غلافه ولم يتحدث عن الإسلام وتعاليمه إلا فى أخر ثمانين صفحة فى الكتاب البالغ عدد صفحاته أربعمائة صفحة من القطع المتوسط، وما قبل الصفحات الثمانين قسّم علي عزت بيجوفتش كتابه إلى شقين، الأول أسماه ( نظرات حول الدين)  وهو ينقسم إلى ستة فصول تناول فيهم طبيعة الدين بشكل عام، وجوهره، والأساطير الدينية المختلفة التى تناولت مجيئ الإنسان، ثم ـ وبشكل أكثر من رائع بل وحقيقي مُثير للأعجاب ـ استطاع أن ينظر لنظرية داروين فى سياقها الخاص بها وتقاطعها مع فكرة الخلق فى الأديان الإبراهيمية حيث تناولها بشكل حياديي فلم يلفظها ولم ينكرها  بل استطاع أن يوفّق بين مفهوم الخلق من حيث هو (نفثة) إلاهية وروح من الله سماوية أودعها الله فى جسد الإنسان وهى في نظره التجسيد الحقيقي للخلق حيث ارتفع الإنسان من رتبة حيوان تم تطويره وشحذه بملكات من قبل الطبيعة إلى شئ مختلف راقي عن جميع الموجودات الحية بفضل الإسباغ الإلهي عليه عن طريق (الروح) ومن هنا يمكن تفهم العنصر المميز للإنسان عن غيره ممن يمشي أو يطير على الأرض.
كذلك تناول الكاتب الفن بكل أنواعه ( مسرح، رواية، موسيقى، نحت، فن تشكيلي، شِعر وغيرها من الفنون) وعلاقة ذلك بالدين وربطها بالنفثة الإلهية التي تحث الإنسان للتشوق إلى الكمال وتجاوز غرائزه البيولوجية التي تطورت وفق الرؤية الداروينيه داعما كلامه بالأمثلة والشواهد من مختلف الحضارات على غريزة السعي للكمال والإيمان بالقيم والمُثل والفنون والتي تبدو غير منطقية لو نظرنا إليها بالمنظار الدارويني والبقاء للأصلح والأكثر تكيفاَ، ثم تناول بعد ذلك الأخلاق وطرح سؤالا حول إمكانية وجود إلحاد أخلاقي؟ بعد ذلك تحدث بإسهاب ــ لا تفوح منه أى رائحة حشو أو فيضان الإطناب ــ حول إشكالية أسبقية الأخلاق على الدين، قائلا بأسلوب ذكي وسلس رغم إيجازه:  
" لايوجد إلحاد أخلاقي ولكن يوجد ملحدين على أخلاق فحتى أخلاق الملحد نفسها تعود فى جذورها للدين، دين مضي قديماً واختفى لكن ظهرت بقاياه فى الطُرز المعمارية والسلوك والفنون، كما الفحم هو حصاد قرون سابقة، وكما الشمس التى تغرب ولكنها تترك أثار الدفء والحرارة على الأماكن التى أفترشتها بالضوء".
تناول علي عزت بيجوفتش كذلك قضية الأخلاق والسياسة ولأيهم يتشيع الفرد؟ هل يتشيع للمصلحة أم  يتشيع للأخلاق؟ ولعلي بيجوفتش عبارة رائعة تقول: "يحتاج الفرد إلي دين هو فى الوقت نفسه سياسة، وسياسة هي فى الوقت نفسه أخلاق"، حيث يرفض الكاتب فكرة فصل السياسة عن الأخلاق وأن الغاية تُبرر الوسيلة ويتناول مفهوم الإلحاد وعلاقته بصياغة سياسة الدول التي ترفض أى مساس للأخلاق بالسياسة.
فى أخر فصلين من الجزء الأول من الكتاب يتناول الكاتب مبحث النشأة الأولى للجامعة البشرية وعلاقة ذلك بالطوبيا وتأثر الأخيرة بالدين حيث المجتمع المثالي الخالي من الألم والصراع والجميع يعيش فيه سعداء وإنعكاس الدين بما يحمله من فكرة الجنة حيث الجميع سعداء والأمور بسيطة والمجتمع خالي من الشحناء والتباغض ليخلُص بعد ذلك لإستحالة فصل الفن والأخلاق والقيم عن الدين، حيث أن جميعهم قد خرجوا من مشكاة واحدة، وعقم محاولة فصل الإيمان والأخلاق عن الدين لوصلها بالإلحاد حيث لا مرجعية ولا يمكن فهم التضحية والقيم بطريقة منطقية فى منهج إلحادى يرفع شعار (اغتنم اليوم) إن جاز لنا إستعارة هذه المقوله من الشاعر الروماني هوراس.
فى القسم الأخير من الكتاب يُظهر الكاتب الإسلام على أنه توليفة فريدة من نوعه تجمع بين القيم والمُثل الروحية وسعي الإنسان لبلوغ الكمال وكيف أعطى الإسلام الضوء الأخضر لإشباع رغبة الإسان الروحية من عبادة وحب وفن وصيام ومحرمات وفى نفس الوقت وضع له شريعة عملية واقعية، أو كما يقول بيجوفتش: "الإسلام دين فريد من نوعه فهو يجمع بين مادية وصرامة العهد القديم ومثالية العهد الجديد" هذا الأمتزاج و"وحدة الأضداد" ـ إن جاز استخدام تعبير الطاوـ وهذا التلاحم الذى تبدو على سيمائه التنافر هو ما يُكثف عليه علي عزت بيجوفتش التركيز والتحليل وإظهار بِنيته العميقة، مانحا أركان الإسلام الخمسة رؤية لايسعك إلا التفكير طويلا كيف لم يخطر على بالك فى يوم ما أن تلك الأركان عميقة بهذا الشكل وبتلك الروعة التى تظهر فى تأويل استثنائي دون تكلف وليّ عُنق الوصف.
 ويُنهي المُناضل البوسني كتابه بالإسلام كبديل لاشتراكية الأتحاد السوفيتى (المعسكر الشرقي) وحل واقعي بدلا من الرأسمالية ( المعسكر الغربي و الأمريكي)؛ فالإسلام وسط بين هؤلاء بكل ماتشمل عليه كلمة وسطية من فضيلة وحل وأسلوب.
وفى النهاية، فالكتاب مكتوب بحبر البلاغة على ورق من الوضوح وبأسطر من المنطقية بهوامش من الإبداع ومتون من التأمل وحواشي تبلغ من الصدق ما يدفع القارئ لتحية (محمد يوسف عدس) ليس فقط للترجمة  ووضوح حاشيته بل لإصراره على الترجمة والنشر رغم الصِعاب التى وجدها آنذاك، ولهذا فلا عجب أن نجد قامة كبيرة مثل الدكتور عبد الوهاب المسيري يُقدم الكتاب بتصدير يعكس عمق العاطفة التى هزت كيانه حين انتهى من آخر ورقة فى الكتاب.
 بيجوفتش يا سادة فيلسوف على قدر كبير من الحكمة وشخص قلما تجد مثيل له فى نزعته الموسوعية ورجل عظيم جمع بين علوم ومعارف المكتبة فلم ينسى الشارع السياسي، وأنخرط فى الحروب والسياسة دون أن تحرمه معركة الرصاص من معركة الفكرة ونقيضها ـ فمزج بين صرامة التفكير العلمي وبين ليونة السياسة، ولم تعزله مائدة الكتب عن طاولة المُفاوضات، إنه شئ نادر أن نرى فى زماننا المعاصر رجل كهذا فى عصر من مبادئ سوأته الإنعزال فى (كهف التخصص) ورفض النزعة الموسوعية والإحاطة والدراية بجميع العلوم ومزج الفكر بالعمل والعقل بالعضلات.
الكتاب انتصار وكأى انتصار الحفل والاحتفاء به ينتظر قارئه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق