الأحد، فبراير 05، 2017

ألمانيا تلعب

(جزء من كتابي "لونا تستحق" بمناسبة وصول مصر لنهائي كأس الأمم الإفريقية)

عدت إلى لونا فرأيتها وقد أخذت زخرفها وازينت، كانت الأعلام الألمانية ترفرف بطول الشوارع وعرضها، بدءا من محطة القطار وحتى الكنيسة الكبيرة في وسط المدينة، سألت سباستيان فأخبرني بأن كأس الاتحاد الأوروبي لكرة القدم على الأبواب، وأنه جرت العادة في مثل هذه المناسبات أن يجتمع أهالي لونا لمشاهدة المباريات على شاشة عرض كبيرة بجوار الكنيسة.

كان سباستيان يتحدث بحماس زائد، يزداد حماس سباستيان عند الحديث عن الأعياد والاحتفالات، وخاصة تلك التي تدور فيها كؤوس البيرة دورتها. كثيرا ما تحدث أمامي عما فعله في الأعوام الماضية في احتفالات مدينة لونا بعيد يسمونه (الشوتسينفيست)، وكثيرا ما أطلعني على صوره وهو يرتدي الزي التقليدي، وصوره مع أصدقائه وهم يشربون البيرة.
لكرة القدم شعبيتها الكبيرة في ألمانيا، كنت محظوظا وقت أن حضرت كأس العالم الذي نظمته ألمانيا سنة 2006، كانت الأعلام الألمانية ترفرف على معظم البيوت، وعلى السيارات، وفي الطرقات، وحتى داخل وخارج المصالح الحكومية، كان الجميع في حالة نشوة وزهو شديدتين، وبعد أن انتهت المسابقة التى لم تحصل فيها ألمانيا على كأس العالم، صار هناك جدل واسع ونقاشات حادة ليس عن خسارة ألمانيا للكأس ولكن عن الطريقة التي عبر بها الألمان عن فرحتهم بتنظيم المسابقة، وأضحى ظهور الأعلام الألمانية بهذه الطريقة باعثا على القلق لدى قطاع عريض من المثقفين الألمان خوفا من زيادة الشعور الوطني لديهم والذي غالبا ما يذكرهم بالحقبة النازية. وأعتقد أن قلة ظهور الأعلام الألمانية هذه المرة مقارنة بسنة 2006 يرجع لتلك النقاشات ولتلك التخوفات.
في هذا الأمر تحديدا دارت بيني وبين أصدقاء ألمان عدة نقاشات، كانت أغربها تلك التي سألت فيها أحدهم عن فريقه الذي سيشجعة في هذه الدورة، كانت إجابته أنه سيشجع فريق انجلترا. سألته في استنكار: أتشجع بلدا غير بلدك في مسابقة تلعب فيها بلدك؟
أجاب صاحبي بأريحية تامة: نعم، ثم واصل: وما الغريب في ذلك؟
إن ذلك كله لغريب!  كانت إجابتي هذه مصحوبة بعلامات استفهام وتعجب واستنكار تملأ عدة صفحات، وكانت مدعاة لفتح حوار استمر لأكثر من ساعة، أخبرته فيها بأنه وعلى الرغم من حنق كثير من الشباب المصري على تدني المستوى المعيشي لبلدهم إلا إنهم حريصون أشد الحرص على تشجيع منتخبهم الوطني.
وحده دانيال ماير استطاع أن يشرح لي السر وراء إحجام الكثير من الألمان عن رفع علم بلادهم في هذه المسابقة، حجته لم تقنعني بقدر ما أثارت بعض الشكوك بداخلي، كان يرى أن أمريكا نجحت في سلب هوية المجتمع الألماني وتركته بلا هوية، أو على الأقل جعلت هويته مشوهة، فثقافة الشباب معظمها مصنوع في أمريكا؛ أفلامهم التي يشاهدونها تنتجها هوليود الأمريكية، وأغانيهم التي يسمعونها يغنيها مطربون أمريكيون، وحتى طعامهم وشرابهم وأزياءهم كلها تخضع للذوق الأمريكي.
ولكن هل حقا تتحكم أمريكا في كل شئ؟ هل لديها القدرة على نزع الهويات بهذه السهولة وبتلك السرعة، أم أن الألمان وبعد خسارتهم الحرب كان لديهم الاستعداد نفسه؟
في المقابل كان دانيال ماير وصديقته تينا وكلبهم الصغير "بيلا" شديدي التعصب لألمانيا، جاءوا جميعا إلى بيتنا لمشاهدة مباراة بلادهم الأولى في هذه البطولة، أحضروا لى تيشرت المنتخب الألماني هدية، الجميع كان يرتدي التيشرت الأبيض المكتوب عليه ألمانيا يعلوها أربعة نجوم ذهبية في إشارة إلى عدد المرات التي حصل فيها المنتخب الألماني على كأس العالم، حتى الكلب الصغير "بيلا" ألبسوه نفس التيشرت. التفت إلى دانيال ماير ممازحا: أخشى من عودة الروح النازية إلى ألمانيا على يد الكلاب!
انتهت المباراة الأولى بفوز المنتخب الألماني على نظيره الأوكراني بهدفين مقابل لا شيئ، كان الفوز متوقعا، وكانت النتيجة بالنسبة لدانيال وتينا وكلبهم عبارة عن تحصيل حاصل؛ فقد اعتادوا رؤية فريقهم منتصرا، وكان أداء الفريق الألماني الضعيف على الرغم من فوزه محط انتقاد من الجميع، وكانت صيحات المشجعين السكارى تأتينا من خارج البيت، كانوا لا يعبئون بالأمطار التي تتساقط فوق رؤسهم، فقد كانت نشوة الفوز أكبر تأثيرا من رخات المطر أو ربما الخمر التى لعبت في رؤوسهم.
لقد تحولت كرة القدم من مجرد لعبة هدفها في المقام الأول المتعة والتسلية إلى صناعة تدر أموالا ضخمة تقوم عليها اقتصادات دولية، كنت في الماضي لا أهتم سوى بمعرفة أخبار فريقى المفضل وأقوم فقط بتشجيع منتخب بلادي، وكنت لا أعرف من أمر الفرق الأخرى شيئاً، اللهم إلا إذا دارت بطولة كأس العالم دورتها كل أربع سنوات، ووجدت متسعا من الوقت لمشاهدتها. واليوم وبعد التطور الرهيب في طرق البث الدولي المباشر، والقنوات الفضائية المتخصصة، ووسائل التواصل الاجتماعي المختلفة تخطى الأمر عند البعض من تشجيع الفرق المحلية إلى تشجيع الفرق العالمية، وصرنا نسمع عن أن هذا برشلوني، وذاك مدريدي، والآخر أرسنالي، وثالث بايرميونخي، وأصبح الناس ينفقون من أموالهم ووقتهم وصحتهم أضعاف أضعاف ما ينفقونه على ماكلهم ومشربهم.
في لونا كانت الشرطة تغلق جميع الطرقات المؤدية إلى شاشة العرض الكبيرة، وكان على الجميع أن يترك زجاجات البيرة والخمرة قبل أن يدخل الساحة المخصصة لذلك. مرة واحدة شاهدت فيها إحدى المباريات داخل هذه الساحة، كانت ممتلئة عن آخرها، معظم الحضور من الشباب والفتيات، كل يحمل في يديه أكواب البيرة التي تباع داخل الساحة بأسعار مرتفعة، لمشاهدة المباراة وسط الجموع الغفيرة مذاق خاص يصعب وصفه، حالة مختلفة، مشاعر متأرجحة، متأهبة أحيانا، ومستثارة أحيانا أخرى. مشاعر غاضبة بصيحات متأففة وقت ضياع فرصة أكيدة، ومشاعر فرحة بتصفيق وتصفير وصياح وقت إحراز هدف أو عند الاقتراب من تحقيقه، لكرة القدم متعة لا يعرفها إلا المهتمون.
كانت أكثر المباريات إثارة بالنسبة لي هي تلك التي قابل فيها الفريق الألماني نظيرة الإيطالي والتي انتهت بفوز المنتخب الألماني بضربات الجزاء. كنا قد قررنا مشاهدة شوط المباراة الأول في البيت ومشاهدة الشوط الثاني في الساحة الكبيرة، ولكن هطول الأمطار حال بيننا وبين الخروج. كانت المباراة غاية في الإثارة، فرص ضائعة بالجملة، وتحكم ملحوظ في الكرة من جانب الطليان، ولكن المنتخب الألماني عنيد ومنظم، استطاع أن يستدرج الفريق الإيطالي حتى أوصله إلى ضربات الترجيح.
لم يكن وحدهم اللاعبون هم من تخفق قلوبهم من ضربات الترجيح، كنا نحن أيضا، كانت قلوبنا تخفق قبل التسديد وبعده، لو كنت أشاهد المباراة وحدي لما خفق قلبي هكذا. القلق عدوى كما الفرح أيضا، مخطئ من يظن أن الإنسان يستطيع العيش بمفرده، ومخطئ أيضا من يظن أن الإنسان بلا مشاعر.