الخميس، يونيو 26، 2014

المملكة 18


والتفت حولى فلم أر السيدة، وأصابتنى حيرة شديدة شككتنى في قدراتى العقلية، يا إلهى، لقد كانت هنا، وهي من أتت بي إلى هنا، لقد تحدثنا منذ قليل، إنها امرأة أربعينة أو يزيد، ترتدى زيا رياضيا، هل أنا أنا أم أننى  لست أنا؟!
ولم تدم دهشتى طويلا حتى رأيتها تخرج من بين الأشجار كثيفة الأوراق، متدلية الأغصان فلما رأتنى لوحت بيدها وصاحت: تعالى أنا هنا. ذهبت إليها بعدما تيقنت أننى لم أكن أحلم، وأننى مازلت بكامل قواي العقلية، وأن ما حدث لم يكن سوى أننى انشغلت بقراءة اللافتة فذهبت هي لتتريض حتى أنتهى، قالت:
-        ها.. عرفت الآن كل شئ عن صومعة حسان؟
-   ليس بعد، فما تزال لدي أسئلة عديدة، منها لماذا  تسمون المأذنة بالصومعة؟ ولماذا هي بهذا الشكل المربع؟ ولماذا سميت هذه الصومعة بصومعة حسان، أريد أن أعرف من هو حسان هذا؟
-         هذه المنطقة تسمى منطقة حسان!
ولم تقنعنى إجابتها، فحتى لو كانت هذه المنطقة تسمى من قبل بحسان، فإن هذا يزيد الأمرغموضا، ولا يجيب عن السؤال، فمن يكون حسان هذا؟ [1] وتوقفت أمامنا سيارة سوداء صناعة يابانية، نزل منها عروسان، وبقى السائق في مكانه. توجه العروسان ليقتربا من سور الصومعة، ثم نادى العريس على السائق كي يتبعهما، نزل السائق متكاسلا فاقترب من العريس الذي أعطاه هاتفه ليلتقط لهما صورة، في حين كان النوم يداهم عين العروس بشده!
قالت لي السيدة بصوت منخفض بعد أن ابتعدنا عنهم بخطوات:
-        العروس صغيرة!
-        كم عمرها؟
-        حوالى 28 سنة
-        28 سنة وصغيرة؟
-        هنا البنات يتزوجن في سن الثلاثين!
-        في مصر لو وصلت الفتاة لهذا السن من دون زواج فهي عانس!
-        تقصد بيرة!
-   آه، تقولون على المرأة العانس، بيرة؟ نحن نطلق عليها كذلك ولكن هذه الكلمة لم تعد مستساغة!
-   في المدن تتزوج الفتاة في سن متأخرة عن القرى والبداوي، بنتى تزوجت في سن الثلاثين!
-        لك بنت، ومتزوجة، وفي سن الثلاثين؟
-        نعم
جاءت كلماتها صادمة، مزلزلة،  فقد تخيلتها في الأربعين من عمرها أو يزيد، ما كنت أتوقع أبدا أنها في عمر والدتي، إن للرياضة لسحر، لا بل إن لراحة البال وكثرة الأموال لسحر! واصلت:
-        بنتى تزوجت زميلها في العمل، الدراسة الجامعية تجبر الفتاة على الانتظار!
-   سمعت أن الرجل المغربي يشترى كل شئ حتى ملابس العروس، ولذلك فلا يتزوج إلا الأغنياء!
-   صحيح، ولكنى وزوجى ساهمنا في تجهير ابنتنا الوحيدة، وتكفلنا بمصروفات حفل الزفاف!
-        20 ألف درهم؟
-        لا، أكثر
-        40 ألف درهم!
-        لا، أكثر بكثير!
-        مائة ألف!
-        خمسة ملايين درهم؟!
أوبااااا


[1]  عدت إلى الفندق فبحثت في جوجل عن سبب تسمية المسجد بهذا الاسم فوجدت مايلى:
1- هناك من المصادر التاريخية التي تقول أنه سمي بهدا الاسم نسبة الى المهندس الدي وضع تصميمه ويسمى حسان الأندلسي، وهو الدي اشرف على ما بني منه.
2- يبدو أن اسم المسجد مستمدٌ من قبيلة تسمى (بنو الحسان) التي تقيم في إقليم الرباط.

الأربعاء، يونيو 25، 2014

المملكة 17

وقفت أسترق النظر من خلال السور الحديدي حتى مرت أمامي سيدة بزي رياضي، فهمت من فورى أنها ما أتت إلى هذا المكان في هذه الساعة إلا لتتريض، لوحت إليها فاقتربت:
-        صباح الخير!
-        صباح الخير، مصرى!
-        أيوه ، وانتى.. مغربية!
-        نعم!
وحمدت الله أنها لم تسألنى السؤال الذي سئمت من سماعه ( مرسي ولا سيسي) وسألتها:
-        متى تفتح الصومعة أبوابها للجمهور!
ولم يكن سؤالى إياها عن جهل بالمواعيد، بقدر ما كان فاتحا لحديث استمر لأكثر من ساعة!
سألتنى:
-        أول مرة تيجي المغرب!
-        أيوه
وسألتها:
-        مين حسان ده؟!
صدمها سؤالى، فانعقدت حواجبها وزاغ بصرها ثم قالت:
-        حسان..أأأأ... صومعة حسان.
-        نعم، من هو حسان، وما معنى صومعة؟!
كانت أسئلتى هذه المرة عن جهل وتحتاج إلى جواب، لا سيما وأننى كنت  أفهم تحت كلمة صومعة معنيان،  ففي اللهجة المصرية تعنى كلمة صومعة مخزن القمح، وفي اللغة العربية وبالتحديد في القران الكريم تعنى بيت الراهب قال تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم لبعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا)
واحتارت السيدة في الجواب، فأخذتنى من يدى وقالت تعالى، سأوريك شيئا، سرت معها حتى وصلنا إلى لافتة زجاجية كبيرة  استوقفتنى أمامها  ثم قالت: اقرأ، فقرأت ما يلى:
" صومعة حسان من المباني التاريخية المتميزة بالعاصمة المغربية الرباط والتى شيدت في عصر دولة الموحدين. تم تأسيس جامع حسان بناء على أمر يعقوب المنصور سنة 643 هجرية (1197-1198 ميلادية) اضافت منظمة اليونسكو للتراث العالمي هذا الموقع إلى  قائمة الثقافة"
وما أن انتهيت من هذه اللافتة حتى أخذتنى من يدى إلى لافتة أخرى ثم  أشارت إليها بقولها: واقرأ هذه أيضا، فنظرت إلى اللافتة فإذا بها كبيرة، تحمل كثيرا من  التفاصيل، وقرأت:


" لمحة تاريخية
شيد من طرف السلطان يعقوب المنصور الموحدى، وكان يعد من أكبر المساجد في عهده. لكن هذا المشروع الطموح توقف بعد وفاته سنة 1199، كما تعرض للاندثار بسبب الزلزال الذي ضرب الرباط سنة 1755م. وتشهد أثاره على مدى ضخامة البناية الأصلية للمسجد، حيث يصل طوله 180مترا وعرضه 140 مترا، كما تشهد الصومعة التى تعد إحدى الشقيقات الثلاث لصومعة الكتيبة بمراكش، والخيرالدا بإشبيلية على وجود المسجد وضخامته.
ويرى مؤرخون أن اختيار هذا المسجد الذي تتجاوز مساحتة 2550م2 بمدينة الرباط ليكون أكبر مساجد المغرب وليدانى أكبر مساجد الشرق مساحة وفخامة، يدل على أن الموحدين كانوا يرغبون في أن يتخذوا من الرباط مدينة كبيرة تخلف في أهميتها مدينتى فاس ومراكش، وبالرغم من العناية التى بذلها كل من أبي يعقوب وأبي يوسف في إنشاء مدينة كبيرة بكل مرافقها لتخلد بذلك اسم الدولة الموحدية، فإن الرباط في الواقع لم تعمر بقدر ما كان يأمله منها أبو يوسف وخلفه. وهذا الأمر قد يكون من أهم الأسباب التى أوقفت حركة البناء في هذا الجامع بالاضافة إلى موت أبو يوسف المنصور قبل إكمال بنائه، كما أنه كان يستنفذ موارد الدولة مع المرافق الأخرى بالرباط.
في عهد الدولة الموحدية نفسها وفي فترة احتضارها عمد السعيد الموحدي إلى أخشاب المسجد وأبوابه، فصنع منها أجفانا سنة 641هـ  فما لبث أن احترقت بنهر أم ربيع، وبذلك فسح للعامة مجال النهب والسلب ليسطوا على بقية هذه الأخشاب التى كانت من أشجار الأرز. وتوالى السطو أيام المرينيين ثم السعديين بل حتى أيام العلويين عهد السلطان عبد الله بن اسماعيل حيث صنع القراصنة من سلا والرباط سفينة من أخشاب الجامع المذكور وسموها بسفينة الكراكجية ثم انتزعها منهم السلطان محمد بن عبدالله. ولم تكن أحداث الطبيعة بأرحم من الناس على هذا الأثر، فقد كان هناك زلزال لشبونة سنة 1169 (1755م) الذي عم أثره بعض أنحاء المغرب خاصة مكناس والرباط، سببا في سقوط عدة أعمدة وأطراف من السور والمنار، كما تهدمت عدة منازل من الرباط ثم تلا هذا الزلزال حريق عظيم أتى على ما تبقى من أخشاب المسجد التى تحولت رمادا، وكان للأمطار ورطوبة البحر وتقلبات الجو أثرها أيضا على هذا البناء الأثرى حتى استحال الجانب المطل على نهر أبي رقراق ومن المنار رماديا كما يبدو ذلك حتى الآن.
والتفت حولى فلم أر السيدة، وأصابتنى حيرة شديدة شككتنى في قدراتى العقلية، يا إلهى، لقد كانت هنا، وهي من أتت بي إلى هنا، لقد تحدثنا منذ قليل، إنها امرأة أربعينة أو يزيد، ترتدى زيا رياضيا، هل أنا أنا أم أننى  لست أنا؟!

الثلاثاء، يونيو 24، 2014

المملكة 16



(8)
صومعة حسان
في صباح اليوم التالى- ثاني أيام المؤتمر- استيقظت في السادسة من دون منبه، فتحسست طريقى إلى الهاتف لأتصل-حسب الاتفاق- بصاحبي التونسى، إلا أنه أغلق الهاتف في أذنى، فعاودت الاتصال به مرة أخرى فعاود هو غلق الهاتف، وكررت المحاولة للمرة الثالثة من دون مجيب، وتعجبت، فلقد اتفقنا أمس أن أوقظة لنخرج سويا، ترى هل  نسى وعده أم أنه تناسى، أم ترانى أخطأت في رقم غرفته؟! واتصلت بموظف الاستقبال فأكد لى صحة الرقم، ولم أشأ أن أعاود الاتصال به مرة أخرى، وخرجت وحدى أصنع مثل ما صنعت صباح أمس، ووليت وجهى شطر مشرق الشمس عسى أن أرى جديدا، وسرت بمحاذاة شريط الترام مستمتعا بخلو الشارع من المارة وبقلة عدد السيارات، ومنتشيا بهواء منقى جعلنى أتأنى في سيرى، حتى وقعت عيناي على لافته تشير إلى محطة ترام تسمى (صومعة حسان)، فتقدمت بضع خطوات حتى اقتربت من عامل نظافة فسألته:
-        كيف لي أن أصل إلى صومعة حسان؟
أشار الرجل بيمينه إلى نهاية الشارع فواصلت السير ثم عبرت الطريق حتى اقتربت من مبنى أبيض كبير محاط  بسور حديدي معلق عليه لافته تشير إلى ضريح الملك محمد الخامس، وعن شمالها انبسطت ساحة كبيرة تناثرت فيها بقايا أعمدة قديمة تنتهى إلى مأذنة مربعة لم تكتمل بعد، تسمى صومعة حسان!
وقفت أسترق النظر من خلال السور الحديدي حتى مرت أمامي سيدة بزي رياضي، فهمت من فورى أنها ما أتت إلى هذا المكان في هذه الساعة إلا لتتريض، لوحت إليها فاقتربت:
-        صباح الخير!
-        صباح الخير، مصرى!
-        أيوه ، وانتى.. مغربية!
-        نعم!
وحمدت الله أنها لم تسألنى السؤال الذي سئمت من سماعه ( مرسي ولا سيسي) وسألتها:
-        متى تفتح الصومعة أبوابها للجمهور!
ولم يكن سؤالى إياها عن جهل بالمواعيد، بقدر ما كان فتاحا لحديث استمر لأكثر من ساعة!

الاثنين، يونيو 23، 2014

المملكة 15



في المؤتمر عرض كل واحد منا  بضاعته، فقد كان المؤتمر أشبه بسوق امتلأ بالبضائع، أجاد فيه تاجر بعرض بضاعته، ولم يستطع آخر أن يقدر بضاعته حق قدرها، وفيه من جاء ليشترى!  وتخلل المؤتمر ساعة غداء، أكلنا فيها طعاما فرنسيا بنكهة مغربية ، وودت لو كان طعاما مغربيا خالصا! واستمر المؤتمر حتى غربت الشمس فخرجنا لمطعم قريب تحققت فيه أمنيتى بعشاء مغربي خالص!

وبعد العشاء الدسم  كان لا بد وأن نمشى قليلا لنهضم ما أكلناه، تطبيقا للمثل الشعبي الذي ما انفتأ جدي يوما من تكراره على مسامعى عندما كان الزمان يجود علينا بعشاء: "اتعشى واتمشى ولو نصف ساعة، واتغدى واتمدى ولو في أركان القاعة"!
 واقترح الأخوة الجزائريون، وهم ثلاثة - شابين وفتاة- أن نعود سريعا إلى الفندق، فنصلى العشاء ونغير من ملابسنا ثم نخرج فنتجول في شوارع المدينة، وعندما هممت بتغيير ملابسي تذكرت حقيبة رفيقى التى ما تزال عالقة في المطار، فسألته عنها فأجاب بأنه اتصل بمكتب الحقائب المفقودة، فأخبروه بأنها ستأتى في الغد! ما أصعب لحظات الانتظار!

لم نجد أمامنا سوى شارع محمد الخامس لنسلكه، فهو أشهر شوارع المدينة، وأكثرها حركة ونشاطا وازدحاما، إلا أن الوقت قد تأخر فتراجعت معه أعداد الناس، وقلت حركتهم، وبدأت المحلات تغلق أبوابها، فخفتت الأنوار، وحطت السكينة. وانتهى النصف الأول من شارع محمد الخامس فعبرنا شريط الترام متجهين نحو المدينة القديمة، وكانت ما تزال مفعمة بحركة صاخبة من الباعة الجائلين، وأكثرهم ممن يبيعون الأطعمة الخفيفة والعصائر. وتوقفنا كثيرا أمام محلات العطارة ومحلات الملابس آملين أن نشترى شيئا من المعروض بداخلها، ولولا مبالغة الباعة في أسعار سلعهم لاشترينا منهم كل ما نريد، وتحلينا بالصبر، وأجلنا الشراء ليوم آخر!
في طريق العودة إلى الفندق كان عمال النظافة يعملون بجد ونشاط، يجمعون القمامة، ثم يغسلون صناديقها بخراطيم المياه، فيخيل إليك أنها خارجة لتوها من المصنع، أو أنها لم تستعمل من قبل! ترى متى نرى مثل هذه النظافة في مصر!

حكى لى أستاذي ذات مرة أنه عندما انتقل إلى القاهرة ليدرس في الجامعة كان يرى عمال النظافة ينشطون بالليل فيغسلون شوارعها بالماء والصابون، وكانت القاهرة وقتها تضاهى عواصم العالم وتفوق عليها في الجمال والنظافة، ترى متى ستعود تلك الأيام، أم أن الماضى لا يعود؟!
وعدنا إلى الفندق لنودع يوما كان طويلا، وأبى النوم أن يأتى دون أن نعرف آخر التطورات في القاهرة، وكانت معظم الأخبار وبرامج الرغى تشير إلى تدنى التصويت في اليوم الأوللانتخابات الرئاسية! ترى لماذا عزف الناس عن حضور العرس الديموقراطي،أم تراهم قد سئمو من حضور الأعراس، وتذكرت الوعد الذي أخذته على نفسى من قبل، فاستعذت بالله من السياسة الرجيمة ونمت!

الأحد، يونيو 22، 2014

المملكة 14


ونظرت في ساعتى فوجدتنى قد تأخرت، ورأيتها قد تجاوزت الثامنة، فتمنيت أن لو كان أمامي مزيد وقت لأبقى، فهدوء المكان وصمته، وجمال شواهد المقابر ولغتها المعبرة، وسحر الطبيعة وصفائها، تدعوني للبقاء ؛ إلا أننى وعدت الشواهد أن أعود إليها يوما ، بشرط أن يسمح الوقت وأن يأذن لى ربي، ووجدت أمامي أتوبيس نقل عام، فلوحت لسائقه فتوقف على الفور فسألته:
- البرلمان؟
-        لا
-        الأخ مصرى؟
-        نعم
-        سيسي ولا مرسي؟
وأجبته بما أجبت به سابقيه، فعرض على أن أركب معه إلى أقرب نقطة، وكان ودودا.
عدت أدراجي حيث أتيت، فمررت من نفس الشوارع، ولم يتغير منها شئ سوى ازدياد حركة الناس والمركبات، وحكيت لزملائى في المؤتمر ما رأيت، وتمنى بعضهم لو كان معى، وطلب الآخر أن يرى الصور التى التقطها، وأبدى آخرون استعدادهم الكامل ليستيقظوا معى مبكرا في  اليوم التالى!


عند باب انعقاد المؤتمر التقيت سفيان، وكان لا يزال أطول منى قليلا، وأصغر منى سنا، وأكثر منى ابتسامة وتفاؤلا. التقيته بعناق بعد غياب دام ما يقرب من عامين، قبلها كنا نلتقى كل يوم في برلين لمدة شهر كامل، ليعود كل واحد منا إلى بلده، فتشغله الدنيا بأفراحها وأطراحها، تم تصفو لتجمع الشتات، وتبتسم لتعود الذكريات، وتضحك ليتجدد الأمل! ترى متى ستضحك لي الدنيا، أم تراها قد ضحكت عندما سمحت لى بزيارة المملكة؟!
 في المؤتمر عرض كل واحد منا  بضاعته، فقد كان المؤتمر أشبه بسوق امتلأ بالبضائع، أجاد فيه تاجر بعرض بضاعته، ولم يستطع آخر أن يقدر بضاعته حق قدرها، وفيه من جاء ليشترى!  وتخلل المؤتمر ساعة غداء، أكلنا فيها طعاما فرنسيا بنكهة مغربية ، وودت لو كان طعاما مغربيا خالصا! واستمر المؤتمر حتى غروب الشمس فخرجنا لمطعم قريب تحققت في أمنيتى بعشاء مغربي خالص!

الخميس، يونيو 19، 2014

المملكة 13

(7)

كل من عليها فان

 وواصلت السير يمينا فيسارا حتى انسد أمامي الطريق دون أن أرى الأطلسى، غير أنى سمعت أمواجه تتلاطم، وشممت رائحة مياهه، فأيقنت أننى قد اقتربت كثيرا منه، وبدأت أبحث عن مخرج، فصوب لى أحد عمال النظافة الطريق، وهنا ملاحظة وجب على ألا أتركها، فعلى امتداد طريق محمد الخامس، بل وقبله، فمنذ أن خرجت من الفندق وأنا أرى عمال النظافة يمسحون الشوارع النظيفة بمعدات بدائية جدا، سعف النخيل على سبيل المثال، ولا أدرى أهو من ضعف الإمكانيات أم لأن الأرض لا تحتاج أكثر من ذلك!
وعندما اقتربت من نهاية الطريق الذي وصفه لي عامل النظافة، يطلقون عليه هنا في المغرب (الكناس)، رأيت مياه الأطلسى تغازلها أشعة الشمس، فبدت وكأنها ذهبا يتلألأ، واقتربت منها أكثر فأكثر، إلا أننى رأيت شيئا سرعان ما لفت انتباهي وغير من وجهتى، رأيت بابا صغيرا انفتح على مصرعيه دخلت منه قطة سوداء كبيرة، خطت خطوات واثقة مطمئنة، فانتبهت فإذا بى أعبر الشارع كي أدنو منها -فضولاـ فنظرت داخل الباب فرأيت ساحة كبيرة بدت منها شواهد رخامية وضعت على مدافن قديمة، ولم أر القطة، وتحسست قدمى فرأيتنى أتقدم داخل ساحة المقبرة، ورأيت مدافن كثيرة على مد البصر وآخره، حتى انتهيت بنظرى إلى مياه الأطلسى. ما هذا، مقابر على المحيط؟!
وأما شواهد المدافن فجاءت متناسقة، جميلة، وغريبة، بطريقة الاطناب تارة وبالإيجاز تارة أخرى، كل على حسب أهميته، فمثلا هذا شاهد قبر لرجل يبدو أنه كان مهما ذات يوم، كتب عليه ما يلى:
"شاء القدر أن يستشهد هذا الرجل الشاب العظيم السيد المصطفى بن جَ عبد العزيز الحنصالى الذي كرس حياته في الدفاع عن المتعاونيين وتأسيس كثيرا من التعاونيات على العموم وخاصة منها المنبثقة من الصناعة التقليدية وبعبارة أوسع زعيم الصناعة التقليدية والمتعاونيين التقليديين، الرجل الذي التقى بالرفيق الأعلى مشغولا بالتربية والتوعية في شؤون الصناع التقليديين والعمال العاطلين، وفاه الأجل إثر حادثة سيارة يوم الإثنين 29 ربيع ثان 1384 الموافق 7 ((غير واضح) عام 1964 ودفن يوم (غير واضح) تغمده الله برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته"
ترى ما الذي أحب أن يكتب على قبرى؟! لا أريد ان يكون لقبري شاهد، أريد أن يكون قبرى في قلوب الناس، فلأن تحملنى القلوب خير لى من أن تحملنى القبور! سئل روائي أرجنتيني ، بدين الجسم : ماذا تتمنى أن يكتب على شاهد قبرك ؟ فَكَّر للحظة وأجاب، أتمنى أن يكتب على شاهد قبري : مات نحيلا! و توقفت أمام شاهد آخر كان هذا نص ما كتب عليه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
هذا قبر المرحوم بكرم الله السيد عبد الرحمن بوقاع الذي وافاه الأجل بمدينة باريس يوم 15 مايو سنة 1975 على إثر سكتة قلبية وهو في السنة 38 من عمره، قضى حياته القصيرة – رحمه الله- في الجد والنزاهة والعمل من أجل الصالح العام، وحبه للخير والإحسان، تغمده الله برحمته، وأسكنه فسيح جناته. و "إنا لله وإنا إليه راجعون"
لا أحب أن يكتب على قبري في أي مكان مات، فما لذلك عند الناس من قيمة!
أما الشاهدين الثالث والرابع اللذان توقفت أمامهما فكانا شاهدين على قبر سيدتين، الأول جاء موجزا والثاني كان أكثر إيجازا:
"بسم الله الرحمن الرحيم
كل نفس ذائقة الموت
هذا قبر المرحومة السيدة زينب بنت الحاج عبد الرحمن السرايرى توفيت يوم الخميس ربيع I 1384 هجرية موافق 13 غشت 1964 تغمدها الله برحمته الواسعة آمين"، و "هذا قبر السيدة شامة النهيمة رحمها الله"
أما أجمل شواهد المقبرة فكان مايلى:
الحمد لله الواحد الصمد، الذي كتب الموت على كل أحد، والصلاة والسلام على عبده محمد
هنا الزهرة التى اقتطفتها يد المنية من روض الأسرة المشرفية بعدما فاح أريجها وكان ذلك القطف المفجع اثر حادث بالديارالأندلسية ذهب ضحيتها ضجيع هذا القبر الشاب التقى عدنان المشرفي الذي لقي ربه يوم السبت 19 رجب 1396، 17 يوليوز 1976، تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته، وجعل منزلته في المقربين والمخلصين"
رحم الله الجميع!









الأربعاء، يونيو 18، 2014

المملكة 12




وعند نهاية الشارع استوقفتنى لافتة غريبة عجيبة مكونة من كلمتين (مخدع الهاتف)، وكلمة الهاتف أعرفها جيدا، أما كلمة مخدع فليس هنا مكانها ، هكذا ظننت، وجائتنى – بعد ذلك - أجوبة عديدة، كان أولها ما بحثت عنه في معاجم ( الغنى، الوسيط، لسان العرب، المحيط، مختار الصحاح، المغرب في ترتيب المعرب، معجم لغة الفقهاء، ومعجم الأصوات) وكلها أفصحت عن أن الكلمة أصلها من خْدَعٌ ومنها مَخْدَعُ النَّوْمِ:  حَجَرَةٌ صَغيرَةٌ دَاخِلَ الغُرْفَةِ الكَبِيرَةِ و مَخْدَعُ الهَاتِفِ: كِشْكٌ صَغِيرٌ لِلْهَاتِفِ. وسألت بعضا من أصدقائى المغاربة عن سبب الإبقاء على هذه التسمية الغير دارجة، فأجاب أحدهم بأنها التسمية الأنسب والأوفي والأدق، وعلل ذلك بأن الجميع يخدعون في الهاتف، كيف! وأجاب بأن أسعار المكالمات المبالغ فيها ما هى إلا خدعة كبيرة، فعقبت، بل هي سرقة كبيرة، ولو كان الأمر هكذا، فيا حبذا لو تغير الاسم ليصبح ( مسرق الهاتف، أو منهب الهاتف)! أما أطرف التفسيرات لمعنى مخدع الهاتف فكانت لأن المراهقين من الشباب والفتيات حين يتصلون ببعضهم فإنهم يطيلون فترة الاتصال حتى يظن المرء أنهم قد دخلوا مخدعهم فناموا!


وبعد مخدع الهاتف مباشرة رأيت ثلاث لافتات تشير إلى النظافة، أولها: الوقاية علاج والنظافة واجب، وثانيها: الوقاية أساس العلاج، وهما أقرب بما يقال عندنا في مصر ( الوقاية خير من العلاج) إلا أننا لا نرى مثل هذه اللافتات في شوارعنا، بل نراها وبكثرة في المستشفيات وبعد أن يكون قد فات الأوان! أما اللافتة الثالثة فلم تكن سوى أربع كلمات وسهم يشير إلى صندوق قمامة، والكلمات الأربعة هي ( ممنوع في الأرض يا إنسان ) وكلمة إنسان ذكرتنى بشيئيين أولهما صديقى المغربي، الذي سأقابله بعد ساعات، "سفيان"، فقد كان لى معه موقفا مضحكا بسبب أغنية ( هلك الإنسان)، إذ أننا كنا سويا في برلين عندما سمعته يدندن بكلمات لم أفهم منها سوى هلك الإنسان، فقلت له، ما هذا يا سفيان، أتتغنى بأغنية تبدأ بهلك الإنسان، فماذا بعد أن يهلك؟! وانفجر سفيان ساعتها من الضحك وانفجر معه آخرون، وتبين لى فيما بعد أنها لم تكن "هلك الإنسان" بل كانت "أيا ذاك الإنسان"!! أما الشئ الثاني الذي تذكرته عندما قرأت (ممنوع في الأرض يا إنسان) هو أننا في مصر لا نذكر الإنسان في مثل هذه المواقف أبدا، بل نكون أكثر صراحة ووقاحة، فلو رأيت هذه اللافتة عندنا لقرأت كلمة حيوان بدلا من كلمة إنسان!! ( ممنوع في الأرض يا حيوان)

الثلاثاء، يونيو 17، 2014

المملكة 11



على بعد خطوات من البرلمان المغربي استوقفتنى عدة لافتات، كان أولها تلك التى تشير إلى " زنقة القاهرة" نظرت حولى فلم أجد زنقة، بل وجدت شارعا كبيرا متفرع من شارع محمد الخامس، وأعجبتنى اللافته، ففتحت كاميرتي والتقطت لها صورة سريعة وسط نظرات استغراب من المارة، ثم واصلت سيرى حتى توقفت أمام لافتة أخرى كتب عليها "مرآب عمومي" ولم أفهم كلمة مرآب إلا عندما قرأت الترجمة أسفل الكلمة " Parking Public" ففهمت أنه جراج عمومي، من أين أتوا بكلمة مرآب، لعن الله ترجمة جوجل!
 وضحكت بصوت مسموع عندما وقعت عيناي على لافته وضعت على بوابة مبنى سكنى كبير:  "مدرسة كالين للحلاقة رجال ونساء"، عرفت بعد ذلك أنهم يطلقون على مصفف الشعر النسائي " حلاق نسائي"، أما أكثر اللافتات التى أظهرت لى أنهم يستندون في ترجمتهم للعربية على موقع جوجل كانت تلك اللافتة التى كتب عليها " منطقة وقوف مؤدى عنه، منطقة منظمة الوقوف، خذوا تذكرتكم من الآلة": يا إلهى، خذوا تذكرتكم من الآله!
كانت هذه اللافته تقع في نهاية شارع محمد الخامس، هكذا اعتقدت، فقد كنت أقف على شريط آخر للترام ونظرت خلفى فإذا بالعمائر العالية الارتفاع، الحديثة البناء، الأوروبية الطراز قد انتهت، ونظرت أمامي فإذا ببيوت من طابق أو طابقين انبسطت فيما يشبة قرية كبيرة أو مدينة صغيرة للصيادين، وإذا بالشمس تكشف بنورها أروقة المكان ومنحنياته الكثيرة، وإذا بحركة الناس تبدو بطيئة هادئة، وإذا بالباعة الجائلين يعدون بضائعهم للعرض، وسألت أحدهم عن موقع المحيط الأطلسى، فأشار أن أقطع شارع محمد الخامس لنهايته!
- ألم ينتهى شارع محمد الخامس بعد؟
ولم يجب الرجل ولم أنتظر منه جوابا، ودخلت الشارع وكان ضيقا، وأحسست أننى عبرت إلى زمن مختلف، زمن يرجع إلى عهد المرابطين، أول مؤسسى المدينة القديمة، وهذا هو أكبر شوارعها، ومنه تتفرع أزقة ضيقة رائعة الجمال، أطلقت عليها أسماء قديمة، لشخصيات مجهولة لشخصي، معلومة بالطبع لأصحاب المكان، وعلى جانبي الشارع محلات صغيرة متراصة في تناسق جيد، معظمها كان مغلقا، فلم يحن بعد موعد فتحها، ولفت انتباهي لافتات المحلات، فمعظمها يبدأ ب كلمة "عند":-
عند محسن... بيع وكراء وخياطة الملابس التقليدية
عند رشيد.... الزي التقليدي وفن الخياطة
عند المختار.... ملابس جاهزة للنساء الحوامل والمحجبات
وهنا قفز إلى خاطري ما يقال عندنا في مصر عندما يدور الحديث عن شئ مستحيل حدوثه، لتخرج كلمة عند أم ترتر، أوعند أم إبراهيم، أو عند امه يا أدهم، لتسد الباب أمام الممكن، ولتتهكم على المتكلم، أو لتثبط من عزيمته، وقد يتطور الأمر للسب والشتيمة، فيصبح مصطلح عند أمه أو عند أمك، أوعند مامتك قذفا وسبا! ولم أكد أنتهى من عقد تلك المقارنة بين "عند" المغربية والتى يستهل بها أصحاب المحلات لافتاتهم وبين "عند" المصرية التى يستهل بها الناس سبابهم وقذفهم، حتى وقعت عيناي على لافتة تقول "عند أمى مباركة"، آه لو رآها المصريون!



الاثنين، يونيو 16، 2014

المملكة 10



(6)

زنقة القاهرة


عادة تلازمنى كلما زرت مدينة جديدة، أستيقط مبكرا، ألبس ملابسا مريحة، تساعد على المشى لساعات، أنسل خارجا لأستكشف ما حولى، أترك لقدمى العنان، أحرص على أن أحفظ الشوراع التى قطعتها، حتى أتمكن من العودة، أصطحب معى كاميرتى!
في هذا الصباح لم أكن أتخيل أن الجو سيكون باردا بهذه الطريقة، جو أوروبي ساحلى جاف، اضطرنى لارتداء ملابس شتوية لا رغبة لدى في ارتدائها، وهيج معه سوائل كانت نائمة في أنفى، دعوت الله أن تكون عارضة لا تحمل معها بداية برد، حتى لا تفسد عندى متعة الاستمتاع بمدينة بدت لى هادئة وديعة. سرت بضعة خطوات، التفت يمينا وشمالا، درت دورة كاملة ثم لمحت لافته تشير إلى شارع محمد الخامس، فمعلومة عارضة بالأمس عرفت منها أن شارع محمد الخامس هو الشارع الرئيسي للمدينة،  في بداية الشارع مررت بمحطة القطار الرئيسية وبجوارها رأيت شريطا للترام، ويسمونه الطرامواي بالطاء، ويبدو أن التاء لديهم تكتب طاءً، فبالأمس قرأت طاكسي، والآن  طرامواي، ولاحقا أوطيل بمعنى فندق .
 واجتزت محطة القطار ببضع خطوات ثم انتبهت لمبنى أحمر اللون يرفرف فوقة  العلم المغربي، ومكتوب على واجهته كلمة واحده " البرلمان"، هل يوجد في المملكة برلمانا؟ لا شأن لي بالسياسة، ودعتها منذ زمن، متجنبا اللامعقول، حتى أن ردي بالأمس على ضابط الجوازات جاء مباغتا عندما سألنى، وهو يقلب جواز سفري بين يديه:
-        سيسي ولا مرسي؟
-        لا سيسي ولا مرسي، أنا بشجع عبد الحليم حافظ!
-        يعنى.... سواح!
-        لأ... موعود!
ترى لو كان حليم بيننا، مع من سيكون؟ ولم أجهد نفسي في التفكير، فالجواب محسوم! وطارت أمامي حمامتان ، فانتبهت لرجل يلقى ما بيده من فتات خبز إلى مجموعة من الحمام الوديع الذي لا يهاب المارة! يا ليتنى كنت حمامة لا أحمل هم يومى ولا هم غدى، أطير وأحلق، أنظر في عيون الناس، أبادلهم المشاعر، وأبث إليهم روح الأمل! ترى ما الأفضل لي أن أكون مثل هذا الحمام أم أن أكون خال البال مثل هذا العجوز الذي استيقط مبكرا ليطعمه! مازلت أفكر في هذا الأمر.
على بعد خطوات من البرلمان استوقفتنى عدة لافتات، كان أولها تلك التى تشير إلى " زنقة القاهرة" نظرت حولى فلم أجد زنقة، بل وجدت شارعا كبيرا متفرع من شارع محمد الخامس، وأعجبتنى اللافته، ففتحت كاميرتي والتقطت لها صورة سريعة وسط نظرات استغراب من المارة، ثم واصلت سيرى حتى توقفت أمام لافتة أخرى

الأحد، يونيو 15، 2014

المملكة 9



في الطائرة كنا على موعد جديد مع الإثارة، فالطائرة قديمة، وشكلها غريب، وهي قريبة الشبه بالطائرات المروحية، إذا رأيتها من بعيد خلتها مركب شراعى، وإذا اقتربت منها أحسست أنها من مخلفات الحرب العالمية الأولى، يدخلها المسافرون من باب خلفى، ولم أر بها حمام، ولا يقدم على متنها مأكولات ولا مشروبات، وأكثر من نصف مقاعدها خال من الركاب، وكانت هذه هي الميزة الوحيدة، حيث أتاحت لى حرية الجلوس في المكان الذي أردت، واخترت المنتصف. وعندما ارتفعت بنا في الهواء أحسست أنها تطير بجناح واحد، فأخذت أردد الشهادتين حتى تيقنت أننا هبطنا بسلام على أرض الرباط!

ولم تنته الإثارة بعد، ففي مطار الرباط كانت هناك إثارة من نوع جديد، إذ أن جميع حقائبنا قد وصلت بسلام، ما عدا حقيبة رفيقى من مصر، الأمر الذي أربك معه جميع الحسابات، وخصوصا حسابات رفيقى صاحب الحقيبة المفقودة، فأنى له الآن بملابس ينام بها، وأنى له غدا بملابس يحضر بها المؤتمر، وأنى له بأوراقه، وأدواته الشخصية، وخلت نفسى مكانه فوجدت الأمر لا يطاق، وزاد من صعوبة احتمالة المعاملة الباردة التى عاملتنا بها موظفة الحقائب المفقودة، فقد تعللت ببطئ الإنترنت على جهازها، وحتى تعالج الأمر أخذتنا إلى غرفة أخرى، ثم ثالثة، ثم رابعة،  ثم انتهى بها الأمر أن تركتنا وذهبت بأوراق رفيقى ومعها أوراق من فقدت حقائبهم، وكانوا خمسة، واختفت لبضع دقائق، أشعلت في قلوبنا مزيدا من الحنق والغيظ، وفي النهاية أعطت رفيقى رقم تليفون وطلبت منه أن يتصل في الغد ليعلم إذا ما كانت حقيبته وصلت أم لا!
عبث بمتعلقات الناس، واستخفاف شديد بحاجياتهم! لابد وأن يكون هناك بديل يوفروه لمن تفقد حقائبهم، إنهم يحصلون منا على أموال كبيرة، يستنفزوننا، ووقت حدوث المشكلة يتجاهلوننا. أعرف أن هذا يحدث من دون قصد، وأنه قدر محتوم، وتجربة جديرة أن تؤخذ باهتمام، منها يتعلم الإنسان ألا يضع جميع بيضه في سله واحدة، وأن يكون صبورا!

في الفندق عرضت عليه أن يقتسم معى ملابسي التى لاتقبل القسمة على اثنين، فقد اقتصدت هذه المرة كثيرا- وعلى غير العادة- وحملت في حقيبتى الصغيرة ما يكفى بالكاد لأربع ليال وثلاثة أيام. عبثا حاولت التسرية عنه بكلمات تتكرر كثيرا في مثل هذه المواقف: " خير، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" ، " بتحصل في أحسن العائلات" وحاولت أن أستذكر موقفا مشابها حصل معى فلم أجد، فاقترحت عليه أن ننزل لنشترى ما يحتاجه من ملابس مؤقتة حتى يسترد حقيبته، فتعلل بتأخر الوقت وحتمية إغلاق المحلات أبوابها وأضاف:  وأنا مجهد وتعبان!
... وأنا أيضا! ولم يبق أمامنا من هذا اليوم الطويل سوى أن نضغط على زر الكهروباء فنطفئ  الأنوار ليحل الظلام على الغرفة الثنائة بالطابق الثالث من فندق " لا بترى"، وتذكرنا الصلاة، واحترنا في معرفة مكان القبلة، وزالت الحيرة عندما اتصلنا بموظف الاستقبال الذي بعث إلينا بمن يحدد لنا الاتجاهات!

السبت، يونيو 14، 2014

المملكة 8



(5)
ع المغربية أم الخدود السندسية ... أم الرجال زي الجبال الأطلسية
والدار البيضاء هي العاصمة الاقتصادية للمغرب؛ ففيها حوالى 60 بالمائة من الشركات العاملة بالمملكة، وهي أشبه ما تكون بمدينة الإسكندرية، إلا أنها قد تتفوق عليها  في الجمال والنظافة وقلة عدد السكان، حوالى 4 مليون نسمة، ولكن تبقى روح الإسكندرية عندى أفضل من روح الدار البيضاء. وانطلق بنا التاكسي يقطع طريق الكورنيش إلى منتهاه فمررنا بمئات من أشجار النخيل الزينة، شاهقة الارتفاع، ودل ذلك على أنها أشجار ضاربة في العمر، وممررنا كذلك بعشرات من إشارات المرور التى التزم السائق باتباع تعاليمها، وبمئات من الأعلام المغربية، ثم اقتربنا من قصر كبير له سور مرتفع، فلما سألت السائق عنه أجاب : قصر الملك السعودي! وعلق أحدنا: ملوك مع بعضهم!


 ثم وصلنا أخيرا إلى مول يسمى ( IMAX) أو (موروكو مول) وهو أكبر مول تجاري في المغرب وشمال إفريقيا، يقع على شاطئ الأطلسى، ضخم، له طابع غربي، حتى الأغانى التى تذاع بداخلة أغان غربية فرنسية، وفيه محلات عالمية من أمثال "غاليري لافاييت، وبه نافورة موسيقية كبيرة، يقال أنها الثالثة في العالم من حيث الحجم، وتقع على مساحة 6000 متر مربع، وبه أيضا حوض أسطواني كبير للأسماك، يصنف الثالث عالميا بعد حوضي واشنطن وبرلين، وفيه أيضا قاعة للسينما شيدت على مساحة ألف متر مربع، و به إحدى أكبر حلبات التزحلق على الجليد في المغرب، وتقدر تكلفة المول بحوالى 2 مليار درهم!
 ولم نعبأ بكل هذا، واتجهت وصديقى مباشرة إلى محل لبيع الكتب، وأخذنا نتجول فيه إلى أن دخلنا ركن الكتب الدينية، ووقع بصرى على مصحف مغربي، فحملته في يدى وفتحته، فقد سمعت من قبل أن المغاربة المسلمون يتميزون عن غيرهم بشيئين: بقراءة القرآن برواية ورش، وباتباعهم المذهب المالكي في الفقه. أما اختصاص المغاربة بقراءة القرآن برواية ورش فيقال أن سببه هو قابلية رواية ورش للتلاؤم مع نطق الحروف القريبة سواء من اللهجة المغربية أو الغات البربرية المنتشرة في المغرب، وطريقة المغاربة في ضبط المصحف تختلف نسبيا عن طريقة ضبط المشارقة، فمثلا حرف القاف لدى المشارقة بنقطتين أعلى الحرف، بينما عند المغاربة بنقطة واحدة، مما يجعل المشارقة يقرؤون كلمة مثل (القرآن) من مصاحف المغاربة بطريقة خاطئة (الفرآن) بسب اختلاف النقط بينهما!
 وأراد صاحبي أن يشترى نسخة من المصحف المغربي، وخصوصا بعدما أظهرت له أن هناك فرقا كبيرا بين  المصحف المشرقى والمصحف المغربي من حيث الكتابة، وعقدت له مقارنة بين سورة الفاتحة عندهم وعندنا، فالفاتحة عندنا سبع آيات بالبسملة، أما عندهم فهي سبع آيات من دون البسملة، ثم إنهم يقرؤن قوله تعالى:  مالك يوم الدين بدون الألف (ملك يوم الدين).

وانتهى الوقت المحدد لتجوالنا في المول، وما كان لنا أن نبلغ منتهاه، و كان السؤال الوحيد الذي بادرنا به بعضنا بعضا هو:  ما الذي اشتريت؟ وجاء الجواب متطابقا: لا شئ! ولضيق الوقت لم نستطع أن ندخل من وسط المدينة، هكذا أخبرنا السائق، ولا أدرى أكان صادقا أم أنه أراد أن ينتهى من مهمته سريعا، وطلبت منه أن يدخل بنا من طريق غير الذي جئنا منه، وفعل، ومررنا بمساكن ذات طوابق، أشبه بما عندنا في المدن الجديدة، وتظل الدار البيضاء متفوقة على مدننا بالنظافة!
في المطار بدأنا حلقة جديدة من الإثارة، كدنا معها أن نتخلف عن الطائرة، فما أن وصلنا إلى مكتب البوردنج حتى وجدنا فتاة حديثة السن، بطيئة الفهم، مشتتة الفكر، طلبنا منها أن تعطينا البوردنج، فأبت، وعللت رفضها بأنها ليست مختصة بالرحلات الداخلية، ونظرنا فوقنا فإذا بلافتة تشيرعلى أننا في المكان الصحيح، وواجهناها باللافته فأصرت على الرفض، وأرسلتنا إلى طابق آخر، ولما وصلنا إليه وتحدثنا مع موظفته لم تفهم مقصودنا، وطلبت منا أن نتحدث إليها بالعربية الفصحى؛ فهى لاتفهم العامية المصرية، ونحن لا نحسن اللهجة المغربية. وتقدمت لهذه المهمة، وأخذت نفسا عميقا ثم أخرجته وأطلقت العنان للساني، قلت لها:
-   سيدتى، جئنا من القاهرة على متن إحدى خطوط مصر للطيران، وكان يفصل بيننا وبين الطائرة المتجهة إلى الرباط أكثر من 6 ساعات فسألنا ضابط الجوازات عن إمكانية خروجنا إلى الدار البيضاء، فوافق، ولما عدنا توجهنا مباشرة نحو مكتب الخطوط الداخلية كي نحصل على البوردنج، إلا أن الموظفة أبت، وأرسلتنا إلي هنا، مفهوم؟!"
-   مفهوم، أنتم هنا في مكتب للطيران الخارجي، عودوا حيث كنتم وأخبروها بذلك، مفهوم!
-        لا، لن نتحرك من هنا، مفهوم!
-        لا، لن أستطيع فعل شئ لكم، وستتخلفون عن طائرتكم، مفهوم!
-        اتصلى إذن بالطائرة وأخبريهم أننا في المطار وأنكم سبب تأخرنا!
-        ههههههه، أنت تمزح!
وهنا جذبنى رفيقى أن هيا بنا فلا داعى للمماطلة، وعدنا حيث كنا، ووجدت شابا يجلس بالقرب من تلك الفتاة، حديثة السن، بطيئة الفهم، مشتتة الفكر، فأخبرته بما حدث، فأدخل بياناتنا على الكمبيوتر، بينما راح ينظر إلى زميلته بنظرة عتاب، وينظر إلينا بنظرة اعتذار! وكنا ننظر إلى زميلته بنظرة غيظ، وننظر إليه بنظرة شكر، ثم سألناه:
-        هل سنلحق بالطائرة؟ فأجاب وهو يتكتك باصابعة على لوحة المفاتيح:
-        هيا أسرعوا، فلم يبق أمامكم سوى نصف ساعة!