السبت، أبريل 27، 2013

القضاء الشامخ 5



(5)

قاضي القضاة
أبو يوسف(1)

يروي لنا قاضى القضاة ( أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة النعمان رحمهما الله) قصته  فيقول: " توفي أبي وأنا صغير فأسلمتني أمي إلى قصار( خياط)، فكنت أمرُّ على حلقة أبي حنيفة فأجلس فيها، فكانت أمي تتبعني فتأخذ بيدي من الحلقة وتذهب بي إلى القصار( الخياط)، ثم كنت أخالفها في ذلك وأذهب إلى أبي حنيفة، فلما طال ذلك عليها قالت لأبي حنيفة: إن هذا صبي يتيم ليس له شيء إلا ما أطعمه من مغزلي، وإنك قد أفسدته علي.
فقال لها: اسكتي يا رعناء، هاهوذا يتعلم العلم وسيأكل الفالوذج بدهن الفستق في صحون الفيروزج.
فقالت له: إنك شيخ قد خرفت.
قال أبو يوسف: فلما وليت القضاء - وكان أول من ولاه القضاء الهادي (الخليفة الرابع في الدولة العباسية ولد سنة 144 هـ / 766 م وتوفي سنة 170 هـ/ 787م ) وهو أول من لقب قاضي القضاة، وكان يقال له: قاضي قضاة الدنيا، لأنه كان يستنيب في سائر الأقاليم التي يحكم فيها الخليفة -.
قال أبو يوسف: فبينا أنا ذات يوم عند الرشيد (هارون الرشيد) إذ أتي بفالوذج في صحن فيروزج فقال لي: كل من هذا، فإنه لا يصنع لنا في كل وقت.
وقلت: وما هذا يا أمير المؤمنين؟
فقال: هذا الفالوذج.
قال: فتبسمت، فقال: مالك تتبسم؟
فقلت: لاشيء أبقى الله أمير المؤمنين.
فقال: لتخبرني.
فقصصت عليه القصة فقال: إن العلم ينفع ويرفع في الدنيا والآخرة.
ثم قال: رحم الله أبا حنيفة، فلقد كان ينظر بعين عقله ما لا ينظر بعين رأسه.(2)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أبو يوسف هو: يعقوب بن إبراهيم الأنصاري المشهور بأبى يوسف،  ولد في مدينة الكوفة سنة 113هـ، وتطلع إلى العلم والدراسة فلم يجد خيرًا من مجلس الفقيه الكبير أبى حنيفة النعمان فتتلمذ على يديه، ودرس عنده أصول الدين والحديث والفقه.  ولصحبته لأبي حنيفة قصة يرويها لنا (أبو يوسف) فيقول: كنت أطلب الحديث والفقه عند أبي حنيفة، وأنا مقل (يعني قليل المال) رث الحال والهيئة، فجاءني أبي يومًا فانصرفت معه، فقال لي: يا بني، لا تمد رجلك مع أبي حنيفة ( أي لا تذهب إليه) فإن أبا حنيفة خبزه مشوي (يقصد أنه غني وقادر على أن يعيش عيشة كريمة) وأنت تحتاج إلى معاش (عمل حتى تنفق على نفسك ولا تنقطع للعلم)، فقصرت عن كثير من الطلب (أي طلب العلم) وآثرت طاعة أبي، فتفقدني أبو حنيفة وسأل عني، فلما كان أول يوم أتيته بعد تأخرى عنه؛ فقال لي: ما شغلك عنا ؟ قلت: الشغل بالناس وطاعة والدي، وجلست حتى انصرف الناس، ثم دفع لي صرة وقال: استمتع بها. فنظرت فإذا فيها مائة درهم وقال: الزم الحلقة وإذا أفرغت هذه (إذا أنفقتها) فأعلمني، فلزمت الحلقة، فلما قضيت مدة يسيرة، دفع إليَّ مائة أخرى، ثم كان يتعهدني (يرعاني) وما أعلمته بقلة قط، ولا أخبرته بنفاد شيء، وكأنه يخبر بنفادها وظل كذلك حتى استغنيت.
(2) ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء العاشر

الجمعة، أبريل 26، 2013

القضاء الشامخ 4



 (4)

أمر السلطان (محمد الفاتح) ببناء أحد الجوامع في مدينة (اسطنبول)، وكلف أحد المعمارين الروم واسمه (إبسلانتي) بالإشراف على بناء هذا الجامع، إذ كان هذا الرومي معمارياً بارعاً.
وكان من بين أوامر السلطان: أن تكون أعمدة هذا الجامع من المرمر، وأن تكون هذه الأعمدة مرتفعة ليبدو الجامع فخماً، وحدد هذا الارتفاع لهذا المعماري.
ولكن هذا المعماري الرومي – لسبب من الأسباب – أمر بقص هذه الأعمدة، وتقصير طولها دون أن يخبر السلطان، أو يستشيره في ذلك، وعندما سمع السلطان (محمد الفاتح) بذلك، استشاط غضباً، إذ أن هذه الأعمدة التي جلبت من مكان بعيد، لم تعد ذات فائدة في نظره، وفي ثورة غضبه هذا، أمر بقطع يد هذا المعماري. ومع أنه ندم على ذلك إلا أنه كان ندماً بعد فوات الأوان.
ولم يسكت المعماري عن الظلم الذي لحقه، بل راجع قاضي اسطنبول الشيخ ( صاري خضر جلبي) الذي كان صيت عدالته قد ذاع وانتشر في جميع أنحاء الإمبراطورية، واشتكى إليه ما لحقه من ظلم من قبل السلطان (محمد الفاتح.
ولم يتردد القاضي في قبول هذه الشكوى، بل أرسل من فوره رسولاً إلى السلطان يستدعيه للمثول أمامه في المحكمة، لوجود شكوى ضده من أحد الرعايا.
ولم يتردد السلطان كذلك في قبول دعوة القاضي، فالحق والعدل يجب أن يكون فوق كل سلطان.
وفي اليوم المحدد حضر السلطان إلى المحكمة، وتوجه للجلوس على المقعد قال له القاضي : لا يجوز لك الجلوس يا سيدي … بل عليك الوقوف بجانب خصمك.
وقف السلطان (محمد الفاتح) بجانب خصمه الرومي، الذي شرح مظلمته للقاضي، وعندما جاء دور السلطان في الكلام، أيد ما قاله الرومى.
وبعد انتهاء كلامه وقف ينتظر حكم القاضي، الذي فكر برهة ثم توجه إليه قائلاَ: حسب الأوامر الشرعية، يجب قطع يدك أيها السلطان قصاصاً لك !
ذهل المعماري الرومي، وارتجف دهشة من هذا الحكم الذي نطق به القاضي، والذي ما كان يدور بخلده، أو بخياله لا من قريب ولا من بعيد، فقد كان أقصى ما يتوقعه أن يحكم له القاضي بتعويض مالي. أما أن يحكم له القاضي بقطع يد السلطان (محمد الفاتح) فاتح (القسطنطينية) الذي كانت دول أوروبا كلها ترتجف منه رعباً، فكان أمراً وراء الخيال … وبصوت ذاهل، وبعبارات متعثرة قال الرومي للقاضي، بأنه يتنازل عن دعواه، وأن ما يرجوه منه هو الحكم له بتعويض مالي فقط، لأن قطع يد السلطان لن يفيده شيئاً، فحكم له القاضي بعشر قطع نقدية، لكل يوم طوال حياته، تعويضاً له عن الضرر البالغ الذي لحق به.
ولكن السلطان (محمد الفاتح) قرر أن يعطيه عشرين قطعة نقدية، كل يوم تعبيراً عن فرحه لخلاصه من حكم القصاص، وتعبيراً عن ندمه كذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر: كتاب روائع من التاريخ العثماني ، لأورخان محمد علي

القضاء الشامخ 3



(3)
وبدأت المحاكمة

 
نادى الغلام: ياقتيبة ( هكذا بلا لقب)

فجاء قتيبة وجلس هو وكبير الكهنة أمام القاضي جُميْع
ثم قال القاضي : ما دعواك يا سمرقندي ؟

قال : إجتاحنا قتيبة بجيشه ولم يدعنا إلى الإسلام ويمهلنا حتى ننظر في أمرنا.

التفت القاضي إلى قتيبة وقال : وما تقول في هذا يا قتيبة ؟
قال قتيبة : الحرب خدعة، وهذا بلد عظيم، وكل البلدان من حوله كانوا يقاومون ولم يدخلوا الإسلام، ولم يقبلوا بالجزية .

قال القاضي : يا قتيبة هل دعوتهم للإسلام أو الجزية أو الحرب ؟
قال قتيبة : لا إنما باغتناهم لما ذكرت لك.

قال القاضي : أراك قد أقررت، وإذا أقر المدعي عليه انتهت المحاكمة ، يا قتيبة ما نصر الله هذه الأمة إلا بالدين واجتناب الغدر وإقامة العدل.

ثم قال : قضينا بإخراج جميع المسلمين من أرض سمرقند من حكام وجيوش ورجال وأطفال ونساء وأن تترك الدكاكين والدور ، وأنْ لا يبق في سمرقند أحد ، على أنْ ينذرهم المسلمون بعد ذلك !!

لم يصدق الكهنة ما شاهدوه وسمعوه، فلا شهود ولا أدلة، ولم تدم المحاكمة إلا دقائق معدودة، ولم يشعروا إلا والقاضي والغلام وقتيبة ينصرفون أمامهم، وبعد ساعات قليلة سمع أهل سمرقند بجلبة تعلو وأصوات ترتفع وغبار يعم الجنبات، ورايات تلوح خلال الغبار، فسألوا، فقيل لهم: إنَّ الحكم قد نُفِذَ وأنَّ الجيش قد انسحب، في مشهدٍ تقشعر منه جلود الذين شاهدوه أو سمعوا به.


وما إنْ غرُبت شمس ذلك اليوم إلا والكلاب تتجول بطرق سمرقند الخالية، وصوت بكاءٍ يُسمع في كل بيتٍ على خروج تلك الأمة العادلة الرحيمة من بلدهم، ولم يتمالك الكهنة وأهل سمرقند أنفسهم لساعات أكثر، حتى خرجوا أفواجاً وكبير الكهنة أمامهم باتجاه معسكر المسلمين وهم يرددون شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله.

حدثت هذه الحادثة في عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبدالعزيز، حيث أرسل أهل سمرقند رسولهم إليه بعد دخول الجيش الإسلامي لأراضيهم دون إنذار أو دعوة، فأرسل  فبعث بالرسول إلى لقاضي "جميع" أن احكم بينهم فكانت هذه القصة.


المصدر:  كتاب (قصص من التاريخ) للشيخ الأديب علي الطنطاوي، وأصلها التاريخي في الصفحة 411 من ( فتوح البلدان ) للبلاذري، طبعة مصر سنة 1932م

الأربعاء، أبريل 24، 2013

القضاء الشامخ 2



(2)

وفي كتابه الموسوعى عن القضاء (نظام القضاء في الشريعة الإسلامية) تساءل  الدكتور عبد الكريم زيدان(3)  هل القضاء ضرورى للناس؟ ثم أجاب بقوله: نعم بكل تأكيد، ولذلك لم يخل مجتع قط من جهة تقضى بين الناس على أي نحو من أنحاء الحكم والقضاء، وسبب ذلك " أن الظلم في الطباع، فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم"(4) ، ثم عرّف زيدان القضاء لغة بأنه يعنى الحكم والفصل والقطع، وأن لفظة القضاء تأتى على وجوه كثيرة منها:
1-   الوجوب والوقوع مثل قوله تعالى: " قُضى الأمر الذي فيه تستفيان"
2- الاتمام والاكمال، مثل قوله تعالى: " فلما قضى موسى الأجل" وقوله: " أيما الأجلين قضيت"
3-   العهد والإيصاء مثل قوله تعالى: " إذ قضينا إلى موسى الأمر"
4-    الأمر مثل قولة تعالى: " وقضي ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانا"
5-    الخلق والتقدير، قال تعالى: " فقضاهن سبع سماوات".
6-   العمل، مثل قوله تعالى : " فاقض ما أنت قاضٍ"
7-   الأداء، يقال: قضى الدائن دينه، أى أدى دينه.(5)

ثم اختار له تعريفا اصطلاحيا واحدا من بين خمسة تعريفات وضعها علماء الاصطلاح من قبل، فذكر أن القضاء اصطلاحا هو:" الحكم بين الخصوم بالقانون الإسلامي بكيفية مخصوصة" (6)

 ثم تحدث عن فضل القضاء، فذكر أنه أي القضاء إذا كان مشروعا وهو من فروض الكفايات فلا بد أن يكون من القربات في الإسلام وذا فضل غير منكور، بل وله فضل عظيم كما صرح الفقهاء، إذ قالوا أن للقضاء فضلا عظيما معللين ذلك بأن القضاء وسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة المظلوم، وردع الظالم عن ظلمه، وإيصال الحق إلى أهله، وإصلاح بين الناس وحكم بالحق، والله يحب من يقضى بالحق. قال تعالى : " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين"(7) سورة المائدة الآية رقم 5

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(3) ولد الدكتور عبد الكريم زيدان بهيج العاني ببغداد سنة 1917 ونشأ فيها وتدرج.  تعلم قراءة القرآن الكريم في مكاتب تعليم القرآن الأهلية.  أكمل دراسته الابتدائية والثانوية في الجامعة ببغداد حيث درس الحقوق وتخرج فيها. ثم التحق بعد ذلك بمعهد الشريعة الإسلامية من جامعة القاهرة وتخرج سنة 1962 برتبة الشرف الأولى.
تخصص الدكتور عبد الكريم في الفقه الإسلامي واطلع على مراجعه المهمة وبخاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، كما دارس وناقش شيخ العلم في مسائل فقهية عديدة قبل وبعد التحاقه بمعهد الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة.
تولى أستاذية الشريعة الإسلامية ورئيس قسمها بكلية الحقوق، ثم أستاد الشريعة الإسلامية ورئيس قسم الدين بكلية الآداب جامعة بغداد سابقاً. كما  تولى أستاذية الشريعة الإسلامية بكلية الدراسات الإسلامية ببغداد.
تولى عمادة هذه الكلية كذلك وهو الآن أستاذ الشريعة الإسلامية بقسم الدراسات الإسلامية ودراسة الماجستير بجامعة صنعاء وبغداد.  وهو عضو في لجنة تحكيم لنيل جائزة المرحوم هائل سعيد للعلوم والآداب.
وقد نال جائزة الملك فيصل على أثر ظهور كتابه الموسوعة "المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم" تناول فيه الفقه على المذاهب الإسلامية المتعددة أورده في أحد عشر مجلداً. وله عدة مؤلفات أخرى أهمها " الفرد والدولة في الشريعة الإسلامية" و" أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام".
(4) زيدان، عبد الكريم، نظام القضاء في الشريعة الإسلامية، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية 1989، ص 7
(5) المصدر السابق ص 11
(6) المصدر السابق ص 13
(7) المصدر السابق ص 15

الثلاثاء، أبريل 23، 2013

القضاء الشامخ 1




في كتابة الرائع (السياسة الشرعية والفقة الإسلامى) أورد الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشيخ عبد الرحمن تاج (1896-1975م) عدة أمثلة أراد بها أن يدلل على أن القضاء صورة من صور السياسة الشرعية التى لا تكون جديرة بهذا الإسم إلا من خلال تحقيق مصالح الأمة ، وتتمشى مع أسباب نهوضها ومراحل تطورها من غير إفراط أو تفريط.
فالتفريط فيها نقص وجمود والإفراط فيها ظلم وجور.
فمن التفريط في الأخذ بالسياسة، والجمود الذي يقوم به العدل، ولا يستقر معه الأمن أن يقصر القاضي في إثبات الدعاوى على الشهادة أو إقرار المدعى عليه أو نكوله عن اليمين، فلا يأخذبالقرائن ودلالات الحال، مع أنها قد تكون أظهر دلالة على الحق، وأقوى في إقامة ميزان العدل، ولا سيما في الأوقات التى يكثر فيها الكذب والتدليس وشهادة الزور.
فإن من يرى قتيلا يتخبط في دمه، ورجلا آخر يقوم على رأسه أو يعدو يريد الهرب وفي يده سكين يقطر منه الدم، فإنه لا يكاد يشك في أنه هو القاتل، ولا سيما إذا كان معروفا من قبل بعداوته للقتيل. وعلى هذا يكون من الجمود والتهاون في تحقيق مقاصد الشريعة ألا يؤخذ بهذه القرائن والأمارات وأن يمكن ذلك المتهم صاحب السكين من الإفلات من العقوبة، اعتمادا على إنكاره وعدم قيام شهو يشهدون بالقتل عن رؤية وعيان.
وكذلك من رأى رجلا من أهل السمت والمروة عارى الرأس، وليس ذلك من عادته، وآخر يعدو أمامه، وعلى رأسه عمامة، وفي يده أخرى فإنه يكاد يجزم بأن صاحب العمامتين قد اغتصب إحداهما من صاحبه، وإذا لا يصح أن يخلى سبيله اتكالا على أنه صاحب يد، أو أنه ينكر الغصب ولم تقم عليه شهادة المعاينه.(1)  
ومن التفريط في الأخذ بالسياسة أن يعتمد على إقرار المدعى عليه أو المتهم في جريمة مع قيام القرائن والأمارات التى توجب شبهة في هذا الإقرار.
ومن هذا الباب ما ينقلة لنا " ابن القيم الجوزية" من سياسة القاضي " أبى حازم" وما كان يأتى فيها مما يعد مضرب الأمثال في سياسة القضاء.
قال ابن القيم: "قال مكرم بن أحمد: كنت في مجلس القاضى أبى حازم فتقدم رجل شيخ ومعه غلام حدث، فادعى الشيخ عليه ألف دينار دينا، فقال القاضي للغلام: ما تقول؟ قال: نعم، فقال القاضي للشيخ: ما تشاء؟ قال: حبسه. قال: لا، قال الشيخ: إن رأى القاضي أن يحبسه فهو أرجى لحصول مالى. فتفرس أبو حازم فيهما ساعة ثم قال: تلازما حتى أنظر في أمركما في مجلس آخر. فقلت له: لما أخرت حبسه؟ فقال: ويحك! إنى أعرف في أكثر الأحوال في وجوه الخصوم وجه المحق من المبطل، وقد صارت لى بذلك دراية لا تكاد تخطئ وقد وقع لى أن سماحة هذا بالإقرار عين كذبه، ولعله ينكشف لى من أمرهما ما أكون معه على بصيرة، أما رأيت قلة تعاصيهما في المناكرة، وقله اختلافهما وسكون طباعهما مع عظم المال، وما جرت عادة الأحداث بفرط التورع حتى يقر مثل هذا طوعا عجلا منشرح الصدر على هذا المال. قال: فنحن كذلك نتحدث إذ أتى الآذن يستأذل على القاضي لبعض التجار فأذن له، فلم دخل قال أصلح الله القاضى، إنى بليت بولد لي حدث يتلف كل مال يظفر به من مالى في القنان (آنيه الخمر) عند فلان، وقد نصب اليوم صاحب القنان يطالب بألف دينار حالا، وبلغنى أنه تقدم إلى القاضي ليقر فيسجنه، وأقع مع أمه فيما ينكد عيشنا إلى أن أقضى عنه، فلما سمعت بذلك بادرت إلى القاضى لأشرح له أمره فتبسم القاضى وقال لي: كيف رأيت! فقلت: هذا من فضل الله على القاضى. فقال: علىّ بالغلام والشيخ، فأرهب أبو حازم الشيخ، ووعظ الغلام فأقر، فأخذ الرجل ابنه وانصرفا.(2)
 وللحديث بقية....
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قارن
(1)     تاج، عبد الرحمن، السياسة الشرعية والفقة الإسلامي، الجزء الأول، هدية مجلة الأزهر ، عدد جمادى الآخرة 1434، ص 54، 55
(2)     المصدر السابق، ص 57، 58

الاثنين، أبريل 15، 2013

الربيع العربي في برلين 158





لم تستغرق المسافة من برلين إلى هانوفر والتى تبلغ ثلاثمائة كيلومتر تقريبا سوى ساعة ونصف، لم أشعر معها بطول الطريق، ولا بمرور الوقت. ومن المحطة الرئيسية لهانوفر استبدلنا القطار بقطار آخر متجه ناحية الجنوب، وماهي سوى محطة واحدة  حتى نزلنا في محطة بنيت خصيصا لمعرض هانوفر الدولى للسيارات. أخبرني هننج بأنه لم يمض على بناء هذه المحطة سوى اثنتي عشرة سنة. وبدت لي هذه المحطة أفضل من محطات رئيسية لمدن كبيرة، لاسيما وأن بها كل التجهيزات الحديثة من سلالم كهروبائية وممرات سريعة أشبه بالموجودة في المطارات الكبيرة.
معرض هانوفر الدولى للسيارات
المعرض فخم، وضخم، وزخم بالمعدات الحديثة، وخصوصا بالأتوبيسات السياحية الرائعة ذات الشكل الانسيابي واللون الجذاب. كان اشتيفان يمشي بسرعة فلم يترك لى الفرصة للمشاهده ولا حتى الوقت لالتقاط الصور، ودخلنا ثلاث صالات كبار، كل منها مليء بالسيارات والمواتير وقطع الغيار، وعند نهاية الصالة الثالثة وجدنا أنفسنا أمام مبنى غريب الشكل، ظننته في البداية رسما كرتونيا، وعندما اقتربت منه علمت بأنه بيت حقيقى من طابقين وحوائطه زجاجية شفافة مائلة نحو الأرض ميولا كبيرا قد يصل نسبة الميول إلى خمسين درجة.  قلت لاشتيفان هل سندخله؟ فقال لا، فقلت: الحمد لله الذي نجانا.
وعلى بعد خطوات منه دلفنا من باب عريض فدخلنا صالة كبيرة ثم صعدنا عدة درجات حتى وصلنا إلى الطابق الثاني ومنه إلى صالة أكبر امتلأت عن آخرها برجال ونساء بدى من هيئتهم أنهم رجال أعمال. وعند الباب استقبلتنا إحدى الفتيات المنظمات للصالة فأعطت كل واحد منا بطاقة كي نعلقها  على صدورنا، فنظرت فيها فإذا بإسمي مكتوب تحته نائب في البرلمان الألماني!
وأخذنا نبحث عن مقعدين متجاورين فانتهى بنا البحث إلى الصف الأول وجلس هننج خلفنا. وبدأت أستمع لما يلقيه الرجل الذي لم أعرف اسمه، وكان الحديث عن السيارات، وعن أحدث التطورات التى وصلت إليها وطرق توفير الطاقة. ولم أكن في تركيزي الذي يؤهلني أن أستوعب أو أن أتذكر ما يقال؛ فقد كان النعاس يغلبني، وحاولت مرارا أن أتغلب عليه. ولم أجد طريقة أمامي سوى الذهاب إلى الحمام. فنمت فيه قليلا، ثم عدت فوجدت رجلا آخر قد اعتلى المنصة وأخذ في الحديث عن السيارات وتوفير الطاقة ثم عاودنى النعاس مرة أخرى! أخرجت الكمبيوتر الشخصي وبدأت أكتب فيه لعلى أطرد النوم من جفوني فلم أستطع! ويبدوا أن اشتيفان لاحظ ما أنا به فمال ناحيتي ثم قال : "لا تقلق فبعد قليل ستكون الاستراحة وسنتناول القهوة!

الأحد، أبريل 14، 2013

الربيع العربي في برلين 157



"اشتيفان كون" شاب وسيم، له جسم رياضي ووجه صبوح، وله قبول واضح. يكبرني بسنتين تقريبا وهو شاب متواضع أو ربما بدى لي ذلك، فقد رأيته يحمل حقيبته بنفسه مع وجود مساعده، ويركب القطار مع امتلاكه لسيارته، وقد يكون هذا أمرا عاديا هنا في ألمانيا، إلا أنه ليس بعادي مطلقا عندنا في مصر حتى مع حكم الإخوان المسلمين، فلم أجد نائبا حتى الآن يركب مثلنا في المواصلات العامة، أو يمشى متواضعا بين الناس!
وانطلق القطار السريع بعد أن استوينا على مائدة في مطعمه، وانحنت إلينا سيدة في الأربعينات من عمرها تسأل عما يمكنها أن تقدمه لنا، وطلبنا إفطارا سريعا كان هو الأغلى في حياتي، واشتقت كثيرا إلى الفول والطعمية، فمع طعمهما الذي لا يقاوم، فثمنهما أيضا لا يقاوم، ولا يمكن مقارنته بما دفعته اليوم مقابل طبق من البيض وفنجان من القهوة!
وفي أثناء الإفطار تحدثنا عن القطارات  في ألمانيا، وخصوصا السريعة منها وذكر لي النائب  أن القطار الذي نجلس فيه الآن والذي يسمى ICA هو أسرع قطارات  ألمانيا، وأغلاها على الإطلاق، فبجانب سرعته العالية فإنه يقدم كذلك العديد من الخدمات لجمهور المسافرين مثل: وصلات الإنترنت للكمبيوتر الشخصي (الخدمة غير متوفرة في كل القطارات)، والوجبات، والمرطبات. ولا يتوقف هذا النوع من القطارات إلا في محطات القطار الرئيسية في المدن الكبرى.
وفي الطريق إلى هانوفر مررنا بمدينة تسمى "فولفسبورج" قال لى اشتيفان إن هذه المدينة الصغيرة التى لا يتجاوزعدد سكانها المائة والعشرون ألف نسمة تعد مدينة سياحية وصناعية كبيرة، والفضل في ذلك يعود لشركة "فولكس فاجن" الشهيرة، التى غيرت وجه الحياة في هذه المدينة فجعلت منها مقصدا للسائحين وقبلة للمستوردين.  ثم سألنى عن المدن الصناعية في مصر، فقلت له إن لدينا مدنا صناعية تعتمد في صناعاتها على الاستيراد والتجميع، وقلت له بأن مدننا الصناعية الجديدة التى بنيت في الصحراء بنيت بطريقة عشوائية؛ فلا طرق تصلح، ولا وسائل مواصلات تنفع، وذكرت له مثالا بمدينة السادس من أكتوبر التى بنيت لتستوعب خمسة ملايين نسمة ولا يوجد بها قطار يربط بينها وبين العاصمة، وحتى الطريق الذي بنى ليربط بينها وبين القاهرة ظهرت فيه عيوب كثيرة أضافت إلى ضيقه وبؤسه متاعب لا تحصى لمن يريد أن يسكن فيها! ثم تحدثنا بعد ذلك عن وسائل النقل في القاهرة والزحام الشديد وأمور أخرى حتى وصلنا إلى مدينة هانوفر.