الخميس، يوليو 31، 2014

الأخلاق في القرآن 4



1-                       خلق طهارة النفس

من الأخلاق الفردية التى ينبغى على الإنسان التحلي بها خلق "طهارة النفس"، يقول المولى عز وجل في سورة الشمس (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) [1]  وفي سورة الشعراء (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)[2] ويقول تعالى في سورة ق (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب)[3]
وقد جاءت الطهارة في القرآن الكريم على وجهين: أحدهما: طهارة مادية متعلقة بإزالة الخبث الذي يصيب جسم الإنسان أو ثوبه قال تعالى : (وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به)[4]، وقال: (وثيابك فطهر)[5] ، وقال : (فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله)[6]، وقال : (وإن كنتم جنباً فاطهروا)[7]، وقال: (وأنزلنا من السماء ماءً طهوراً)[8]. وثانيهما: طهارة معنوية متعلقة بإزالة النجاسة السلوكية قال تعالى: (أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون)[9] ، وقال: (فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر)[10] ، وقال : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا)[11] . [12]
 أما  لفظة النفس فقد وردت في القرآن الكريم  (295) مرة، ما بين المعرَّف وغير المعرَّف والمفرد والجمع[13]. وقد وردت بمعانٍ مختلفة، فجاءت بمعنى الروح، وبمعنى ما يكون به التمييز. قال تعالى: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)[14]. ووردت بمعنى الإنسان، قال تعالى ( أن تقول نفسٌ يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله)[15]. ووردت بمعنى الغيب في قوله تعالى: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِك)[16]، أي تعلم ما في غيبي ولا أعلم ما في غيبك.[17] وفي أيامنا هذه  أصبحت لفظة النفس مقصورة على الأنانية، فظهرت المصطلحات وانتشرت معها الأغاني التى تدعوا إلى البعد عن الناس والاكتفاء على الذات باحتضانها وتدليعها ( ها أبص لنفسي وأدلع نفسي، وأحضن نفسى) أغنية مايستهلوشي.
وما يعنينا هنا هو طهارة النفس، وكيف أرادها القرآن أن تكون، وفيما يلى بإذن الله تعريج على ما ورد في القرآن بخصوص هذا الشأن، فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت!


[1] سورة الشمس / 9-10
[2] سورة الشعراء/ 87- 89
[3] ق/ 31-33                        
[4] الأنفال 11
[5] المدثر 4
[6] البقرة 222
[7] المائدة 6
[8] الفرقان 48
[9] النمل 56
[10] المجادلة 12
[11] الأحزاب33
[12] http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=1996
[13]  المعجم المفهرس لألفاظ القرآن، مادة نفس
[14] الزمر:42
[15] الزمر:56
[16] المائدة:116
[17]  http://fatwa.islamweb.net/fatwa/index.php?page=showfatwa&Option=FatwaId&Id=34035

الخميس، يوليو 24، 2014

الأخلاق في القرآن 3





وبالعودة إلى أنواع الأخلاق في القرآن، فإن لديَ ميل كبيرٌ، واستحسان بالغ إلى ما قام به الدكتورعبد الله دراز من تقسيم، لما فيه من تفصيل وتنويع، فقد قسم الدكتور دراز الأخلاق في القرآن إلى خمسة أقسام: فردية، وأسرية، واجتماعية، ودولية، ودينية ثم اختار لكل قسم ما يناسبه من آيات قرآنية، رتبها ترتيبا موضوعيا لا علاقة له بترتيب سور القرآن، فظهرت أفضل ما يكون، وبدت أوضح ما يرى، إلا أنه لم يعرِّج على ما اختارمن آيات يشرحها، مكتفيا بوضع عناوين فرعية لها. وأود لو أكملت ما بدأه الدكتور دراز، فأحاول الغوص في التفاسير القديمة والحديثة بحثا عن تفيسر هذه الآيات، والمراد منها، ثم أقوم بإسقاط ما تشير إليه هذه الآيات وتفسيراتها على واقعنا الحالي، آملا أن تساهم ولو بقدر ضئيل في عودة مجتمعنا إلى أخلاق هو الآن أبعد ما يكون عنها.

أولا: الأخلاق الفردية

تحدث القرآن الكريم كثيرا عن الفرد، الذي هو نواة المجتمع فأمره بأوامر، ونهاه عن نواهٍ، وأباح له أمور، وحرم عليه أخرى؛ أمره بالتعليم، وطهارة النفس، والاستقامة ، والعفة ، والاحتشام، وغض البصر، والتحكم في الأهواء، والامتناع عن الشهوات، وكظم الغيظ، والصدق، والتواضع، والتحفظ في الأحكام، واجتناب سوء الظن، والصبر، والقدوة الحسنة، والاعتدال، والتنافس، وحسن الاستماع، وحسن الاتباع، وإخلاص السرائر.. ثم نهاه عن الانتحار، أو بتر عضو من أعضائه، أو تشويهه، ونهاه  أيضا عن الكذب، والنفاق، والأفعال التى تناقض الأقوال، والبخل، والإسراف، والرياء، والاختيال، والكبر، والعجب ، والتفاخر، والتعلق بالدنيا، والحسد، والطمع، والزنا، وتعاطي الخمر والخبائث، ونهاه عن كل وسخ أخلاقي أو مادي.. ثم أباح له التمتع بالطيبات، وأباح له مخالفة النواهي والمحرمات فقط في حالات الاضطرار.[1]
 كل هذه الأوامر والنواهي والمباحات وردت في القرآن الكريم متناثرة في أكثر من (104) آية. سأحاول بإذن الله الاقتراب من بعضها قدر الإمكان؛ فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت!


[1] عبدالله دراز، محمد، دستور الأخلاق في القرآن، مؤسسة الرسالة، 2005، ط 11، ص:  689- 707.

الثلاثاء، يوليو 22، 2014

الأخلاق في القرآن 2



ومن المدهش أن كلمة "خلق" وردت بضم الخاء واللام في القرآن الكريم مرتين، مرة في مقام المدح  ومرة في وصف ما درج عليه الأولون من الأخلاق: قال تعالى في سورة القلم الآية رقم 4 (وإنك لعلى خلق عظيم) يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الشعراء الآية رقم 137 (إن هذا إلا خلق الأولين) يقصد أخلاق قوم عاد، وقد جاءت الآية الأولى معياراً لما ينبغى أن تكون عليه الأخلاق، بينما جاءت الآية الثانية بيانا لما كان عليه الأخلاق.[1]

أما لفظة "خلق" بفتح الخاء وسكون اللام أو بفتحهما معا، فقد وردت في القرآن الكريم في (260) موضعا[2]، ولا مقام لذكرها هنا مجتمعة، فلست في معرض الحديث عن صورة الجسد الظاهرة، إلا أن ذكر بعض الأمثلة قد يعين القارئ على فهم أوضح للموضوع: قال تعالى في سورة الأنعام الآيتين الأولى والثانية ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون* هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون*) 

أما عن أنواع الأخلاق في القرآن الكريم فقد اختلف الباحثون في تقسيمها، فها هو الدكتور أحمد أمين- كما سبق وذكرت- قد قسم أخلاق القرآن الكريم إلى قسمين:  قسم لتعليم آداب اللياقة، وقسم آخر أطلق عليه "أسمى أنواع الأخلاق" وذكر له أمثلة منها: الصبر، والعفو، والعدل، والعفة، وغير ذلك. وقد ذهب بعض الباحثين إلى أن الأخلاق في القرآن لا تعدو عن كونها أخلاقا فردية تخص الفرد بنفسة مثل: الإخلاص، والاستقامة، والعفة، والحلم، والحياء، والصدق، والصبر، والتواضع، أو أخلاقا اجتماعية متعلقة بالآخرين، متعدية بالنفع إليهم مثل: الوفاء بالعهد، الإحسان إلى الوالدين، العطف على الفقراء، العفو عن المسئ، الأخوة، الجود والكرم وغيرها.  أما الدكتور محمد عبد الله دراز فقد جعل أنواع الأخلاق في القرآن الكريم خمسة أنواع، جمعها في كتابة الرائع (دستور الأخلاق في القرآن الكريم)[3] تحت عنوان الأخلاق العملية في القرآن الكريم وهي كالتالي[4]:
1-الأخلاق الفردية: مثل: العفة والاستقامة والصدق ونحوها.
2-الأخلاق الأسرية: مثل: إلاحسان إلى الوالدين ، معاشرة الزوجة بالمعروف، صلة الرحم ونحوها.
3-الأخلاق الاجتماعية: مثل: أداء الأمانة، والوفاء بالوعد، والإحسان إلى الفقراء ونحوها.
4-أخلاق الدولة: مثل الشورى، والعدالة، والوفاء بالمعاهدات ونحوها.
5-الأخلاق الدينية: مثل طاعة الله وشكره، والرضا بقضائه وقدرة، ومحبته والخوف منه ونحوها.
وقد حاول بعض الباحثين استنباط أخلاق أخرى من القرآن الكريم وأفردوا لها مباحث خاصة بحثوا فيها عن  الأخلاق البيئية، و الرياضية، والاقتصادية في القرآن الكريم. بيد أنى أعتقد أن ثمة أنواع أخرى من الأخلاق يمكننا استخراجها منه؛ فهو بحر لا ينفد، وكنز لا ينتهى!
فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت!. وللحديث بقية.


[1]  قارن دكتور منصور رجب – تأملات في فلسفة الأخلاق، ط3، ص 304.
[2]  انظر المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: ص 241-245.
[3] وضعه الدكتور دراز بالفرنسية، وهو الرسالة الأساسية التي نال بها درجة دكتوراة الدولة من السوربون. وقد طبعت النسخة الفرنسية على حساب مشيخة الأزهر الشريف عام 1950؛ وقام بتعريبه، وتحقيق نصوصه، والتعليق عليه الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين. وقام بمراجعته الأستاذ الدكتور السيد محمد بدوى. انظر دستور الأحلاق في القرأن الكريم الطبعة الحادية عشر لسنة 2005 الصادرة عن مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع ص:1.
[4] عبدالله دراز، محمد، دستور الأخلاق في القرآن، مؤسسة الرسالة، 2005، ط 11، ص:  689- 771.

الأحد، يوليو 20، 2014

الأخلاق في القرآن




سأبدأ بعون الله وتوفيقه في كتابة – متتالية، متوالية، متتابعة-  عن الأخلاق في القرآن الكريم، هذه المتوالية ستحاول التركيز على الأخلاق التى أشار إليها القرآن الكريم، أمراً ونهياً، إيجاباً وسلباً، إلزاما وندبا، وكيف تناولها المفسرون في تفسيراتهم، والكتاب في كتبهم! وسأحاول جاهدا إسقاط ذلك على أرض الواقع، توضيحاً وشرحاً، ثم تحليلاً ونقداً، أسأل الله العون وحسن الخلق!

(1)

يقول الأستاذ أحمد أمين في كتابة الرائع فجر الإسلام أن في القرآن من الأخلاق نوعان: نوع هو تعليم لآداب اللياقة مثل قوله تعالى في سورة النساء الآية 85: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" وقوله تعالى في سورة النور الآية27: "لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها"، ونوع آخر هو أسمى ما تدعو إليه الأخلاق: وفاء بالوعد، وصبر في الشدائد، وعدل مع من أحببت أو كرهت، وعفو عند المقدرة، وعفة من غير غلو، قال تعالى في سورة البقرة الآية177: " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس" وفي سورة النحل الآية 90: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وكذلك في سورة الأعراف الآية 199: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين[1]
وقد عرّف أحمد أمين علم الأخلاق في  كتابه الجامع ذو الأسلوب السهل الممتنع والذي أسماه "الأخلاق"، أن علم الأخلاق هوعلم يوضح معنى الخير والشر، ويبين ما ينبغي أن يكون عليه معاملة الناس بعضهم بعضا، ويشرح الغاية التى ينبغى أن يقصدها الناس في أعمالهم، وينير السبيل لعمل ما ينبغى.[2]
ومن العجيب أن لفظة "خلق" التى هي مفرد أخلاق يختلف معناها إذا ما فتحت الخاء وسكنت اللام، عن معناها إذا ما ضمت الخاء وضمت اللام، فالخُلُق بالضم هو الصورة الباطنية للإنسان، ويقابله الخَلق بالفتح وهو الصورة الظاهرية له، وذلك لأن اٌلإنسان مركب من جسد يدركه البصر، ومن روح ونفس تدركها البصيرة، ولكل منهما هيئة وصورة قائمة به، فصورة الجسد ظاهرة وهي التى تسمى خَلقاً بفتح الخاء، وصورة النفس باطنة وهي التى تسمى خُلقاً بالضم.[3]
ومن المدهش أن كلمة خلق وردت بضم الخاء واللام في القرآن الكريم مرتين، مرة في مقام المدح  ومرة في وصف ما درج عليه الأولون من الأخلاق: قال تعالى في سورة القلم الآية رقم 4 ( وإنك لعلى خلق عظيم) يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي سورة الشعراء الآية رقم 137 ( إن هذا إلا خلق الأولين) يقصد أخلاق قوم عاد، وقد جاءت الآية الأولى معياراً لما ينبغى أن تكون عليه الأخلاق، بينما جاءت الآية الثانية بيانا لما كان عليه الأخلاق.[4]


[1] أمين، أحمد، فجر الإسلام، ص 117 ، بتصرف بسيط
[2]  أمين، احمد، الأخلاق، دار الكتب المصرية،1931، ط3: ص 2
[3]  دراسات في العقيدة الإسلامية والأخلاق تأليف لجنة من قسم العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر، 1999 ، ط 1، ص :228 
[4]  قارن دكتور منصور رجب – تأملات في فلسفة الأخلاق، ط3، ص 304

الخميس، يوليو 17، 2014

الدكتاتورية أفضل من الديموقراطية:



في كتابه ( من هدى القرآن.. القادة الرسل) تحدث الاستاذ أمين الخولى عن أصحاب الرسالات السماوية، الذين كانوا بمثابة رسل وقادة، بلّغوا رسالاتهم مجانا من دون أجر، وعانوا أشد المعاناة في سبيل تبليغ هذه الرسالات، فصبروا على ما أذوا، وجاهدوا وانتصروا.  وقد حاول الدكتور الخولى ربط الحاضر بالماضي، واستلهام روح العصر الذهبي للقادة والرسل، في محاولة منه لإنزالها على أرض الواقع، لتكون بمثابة نور يهتدي به الشعوب في اختيار قادتهم، أو يهتدي به القادة في التماس طريقهم لحكم الشعوب!
وقد لفت انتباهي في هذا الكتاب ما عقده الدكتور الخولى من مقارنة سريعة بين الدكتاتورية والديموقراطية، خلص منها إلى تفضيل الدكتاتورية على الديموقراطية، وأثار ما كتبه الدكتور في هذا السياق حفيظتى، فأحببت أن أنقله إليكم بنصه، معتذرا عن الإطالة بالنيابة عنه، ومتمنيا لحضراتكم -بدلا منه- وقتا ممتعا، وفيما يلى نص ما كتب:  
أيها المقدرون وحدة الجماعة: إن صلة الفرد بجماعته، وصلة الجماعة بحاكمها، كانت منذ القدم، موضع تنظيم، يقع عليه الاختلاف ويشتد، حتى يصير إلى المشادة والمنازعة، في صور مختلفة، على مر الأزمنة. ثم ما يزال هذا التنظيم إلى اليوم، موضع تلك المخالفة والمشادة.. ومن يدري، إلى متى سيظل هذا التنظيم موضعا لذلك، فيما يلى من الأجيال والأزمنة؟.. ولعلنا نقدر أن هذه الحرب المحرقة المهلكة، التى عصفت أعواما، بهنائة الإنسان وأفسدت طعم الحياة، وأهدرت حرمة البشرية، إنما يدور الصراع فيها، بين صورتين من صور هذا التنظيم، لصلة الفرد بالجماعة، وأسلوبين من أساليب الحكم.. وأن ذلك الاختلاف بينهما، سبب أي سبب للنزاع والقتال... ومهما يكن الأمر، فإن العالم اليوم- ولعله قبل اليوم بكثير- يعرف خطتين في الحكم والنظام، يختلف فيهما التدبير لهذه الصلة بين الواحد والكثرة، وسياسة شئوون الجمهرة.. فأولى هاتين الخطتين، تلغى وجود الفرد، أو تكاد.. وتطغى وجود الجماعة عليها، مسخرة الواحد، لما تعده هي غاية لقومه، وفي سبيل توحيد الجماعة، وحدة آليه، تلقى هذه الخطة بأزمة الحكم، إلى سلطة مركزة، وقوة موحدة، يقل فيها الاختلاف، ويمتنع معها ضياع الوقت، في الائتمار، وتبين الرأي... وتلك في جملتها "الدكتاتورية".. أو ما يشبه هذا من التسمية.. وأما الخطة الثانية للحكم فتعترف، أو تسرف في الاعتراف بوجود الفرد، إذ تمكن له من فرص التعبير عن نفسه، وتدخله في التقدير والتأثير حين تجعل الإبرام والإمضاء رهنا بالعدد الكثير، والوحدات المكررة، وتضبط سير الحياة بذلك.. وفي هذا السبيل تلقى مقاليد الأمر فيها لغير واحد وتديل الحكم بين متعددين، وتفسح المجال للاستشارة والاستفتاء؟... وتلك في جملتها هي الديموقراطية، أو ما يشبه هذا من التسمية... وما يعنينا الآن أن ننظر، في هاتين الخطتين، من حيث هما أسلوبان في تنظيم صلة الفرد للجماعة أو تسيير الحكم وإنما يعنينا النظر فيهما من الناحية الخاصة، بما نحن بسبيلة من أمر القادة، في النظامين وتبعاتهم على الخطتين.... 

أيها المقدرون وحدة الجماعة: إن الصورة الأولى في الحكم، وهي تلك الدكتاتورية: يبدو فيها واضحا، ومن قرب، خطر أولئك الأفراد المتبعين، وقوة أثر أولئك القادة اللافتين؛ لأنهم- بحكم هذا النظام- قد وضعوا أنفسهم أو وضعتهم ظروفهم في موضع واضح، ومكان بارز في ميدان الحياة وعلى مرأى ومسمع من الجموع، فقد ركزوا كل شئ في أشخاصهم، إذ ركز فيهم كل شئ، وأداروا كل شئ حولهم، أو أدير حولهم كل شئ، فهم منبهون مستهوون قد حملوا من عبئ الأضلال الكثير الثقيل، فليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، وليبدون ذلك من أمرهم ملموسا قريبا، لا يجادل فيه.... وأما الأسلوب الثاني من أساليب الحكم، فهو تلك الديموقراطية، فلا يبدو فيها مركز القادة واضحا ذلك الوضوح، ولا مسئوليتهم جليه هذا الجلاء، فلم تضعهم الضروف، على مسرح الحوادث وضع رجال الحكم الأول: لأنهم- فيما يظهر- قد أفسحوا لكل فرد مجال القوم، وفرصة إبداء الرأي: وهم يستصدرون من عدد كثير، بمثل الجمهرة العامة، صورة الرضا عن عملهم، والموافقة على تدبيرهم.. هذا الذي يظهر، ولكنك لو دققت النظر في حال هؤلاء المتبعين، ومدى تأثيرهم مع هذا النوع من الحكم، لوجدت مسالب الخطر الخفية واسعة معبدة، ومسالك التأثير القوي، والتوجيه الشخصي، ممهدة موصلة، تؤيد فعلها طبيعة الجماعات، وعقلية الجماهير ، واندفاع الكثرات. وإن الأمر حين يدار على الرأي والاستشارة، إنما ينتهى في الحقيقة والواقع، إلى الاقناع والاستهواء، والتسيير والتأثير والتوجيه القوي، وأن طبيعة هذا النظام قد هيأت سبيل هذا كله، وسهلت تحقيقه، بما يوضع لذلك من تنظيم وتنسيق تحتكم في الرأي، وما يباح في ذلك من خطابة خلابة وجاذبية شخصية، إلى غير ذلك من مؤثرات حادة، يصبح الرأي بعدها، والاختيار معها ليس إلا تلقينا وتوجيها، وتنبيها وتسييرا: يتعرض به الأفراد لخطر الاقتياد، وشر الانقياد بشخصية المتصدرين، وجاذبيتهم، وأساليب استوائهم من ما هناك من نظمهم وترتيبهم في ضبط الأعداد، وتسيير الأشخاص... ومن هنا يحمل القادة، في تنبيه الأفراد ولفتهم، بل في دفعهم وحملهم عن المحاكاة، تبعات وتبعات، وتكون تلك الآراء التى هي كثرة عددية رقمية، ليست في الحق كثرة فكرة دورية، قد فكر كل فرد منها وقدر، ثم رأى واختار.. بل هي في الواقع عقل جمعى قد انفعل، واستهوى فاقتنع، وتأثر فاندفع.. وعلى القادة في كل ذلك تبعاتهم ومسئولياتهم، في هذه الديموقراطية، كما وجدته في غيرها.. بل لعلك لا تعدو الانصاف، إذا ما قلت إن القادة، في هذا النظام الثاني من نظم الحكم، أنفذ ثأثيرا، وأعمق توجيها منهم في النظام الفردي الأول، لأن شعور الفرد الظاهر بأنه حر، وظنه أنه مستقل، ووهمه أنه مقدر ومكور رأيا، يُنيم فيه كل رغبة في المقاومة، وكل ميل إلى المعارضة، ويهون عليه الانقياد والاتباع.. وهو مالا يتوافر في النظام المتشدد، حين يواجه بالتحكم، ويعالن بالضغط، فيثير- إلى حد ما- حفيظة المكبوتين...[1]


[1]  الخولى: أمين، من هدى القرآن، مكتبة الأسرة، 2001، ص: 124 وما بعدها

الجمعة، يوليو 11، 2014

المملكة: الأخيرة



(13)

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما * يظنان كل الظن أن لا تلاقيا[1]

عندما تأكد لي نبأ سفرى إلى المملكة أرسلت برسالة قصيرة إلى صديقى المغربي عبد الرحيم السعدي أخبره فيها بقدومي، وكتبت إليه ما يلى:
" عزيزي الحبيب عبد الرحيم، تحية طيبة وبعد؛
.... وأخيرا استجاب الله دعوتى ومنحنى زيارة إلى بلد أوليائه وأصفيائه.. سأزور بلد ابن بطوطه وعبد الرحيم السعدي، رحم الله مجنون ليلى عندما قال: وقد يجمع الله الشتيتين بعدما * يظنان كل الظن أن لا تلاقيا، أتمنى أن نلتقى"
وجائنى رده سريعا:
"يا أهلا وسهلا... والله يا محمد أفرحتني بخبرك، متى ستأتي؟ وفي أي مدينة ستحل؟  يا مرحبا يا مرحبا"
وكان جوابي:
"سآتى بإذن الله في الخامس والعشرين من شهر مايو الجاري.. وستهبط الطائرة أول ما تهبط في الدار البيضاء في حدود الواحده والنصف ظهرا، ثم سنبقى في هذه المدينة الطيبة لنحو أربع ساعات، بعدها سنتطير إلى العاصمة، حيث سنبقى فيها لأربعة أيام أخر... الرحلة هدفها حضور مؤتمر، سأكون سعيدا - لدرجة لن تصدقها- إذا ما تمكنت من رؤيتك!"
وكان جوابه:
"أخي محمد، طبعا سأسافر إلى الرباط لرؤيتك؛ فكيف بالله عليك لا أراك، و أنا ملزم لتجديد البيعة لأمير موقعة برلين؟!"
إنه عبد الرحيم السعدي، شاب على مشارف عقده الثالث، يدخل قلبك سريعا من دون استئذان، رؤيته تبعث على السرور، لغتة الفصحي – اذا ما تحدث بها- تسحرك، له قدرة عجيبة على اختيار ألفاظه بعناية، محب للحياة، مغامر، قال لي ذات مرة: إن أعظم نعم الله عليه عندما يستيقط في الصباح ويدرك أنه لايزال حيا!

لم أصدق أننى سألتقى به ثانية حتى رأيته يدخل من باب الفندق، قفزت إليه سريعا، تعانقنا طويلا، ثم بادرني بقوله:
-        أنت كما أنت، لم تغيرك الأحداث؟
-        وأنت قد ازددت شبابا!
فوجئت بأنه يعرف أغلب الحضور، أو إن شئت فقل: أغلب الحضور يعرفونه، وفوجئت أكثر عندما مررنا من أمام أحد المقاهي فناداه الشباب باسمه يحيونه، أحسست ساعتها أننى أسير مع ولى عهد المغرب، كان للخروج إلى المدينة هذه المرة طعما مختلفا!
قطعنا شارع محمد الخامس لندخل أزقة ضيقة، تتفرع منها أزقة أضيق فأضيق، تنتهى إلى حارات متفرعة من حارات، كلها مليئة بالمحلات التجارية، معظمها يبيع الملابس التقليدية، والهدايا التذكارية، إنه سوق أشبه بسوق خان الخليلي، ولكنه أجمل وأروع وأنظف! ووجدنا أنفسنا فجأة أما قلعة (قصبة الوداية) حينها صحت في صاحبي: لقد جئنا إلى هنا في الصباح!
بالقرب من القلعة دخلنا مطعم يطل على المحيط، كان قرص الشمس يستعد للغوص في الماء، وكانت الأمواج فرحة بذلك، فارتفعت أصواتها، وازدادت حدتها، وأكلنا مما جاد به مياها، أكلنا بلح البحر!
(14)

في الصباح الباكر غادرنا المملكة متجهين صوب المدعكة!

تمت  


[1]  قيس بن الملوح (مجنون ليلى)

الخميس، يوليو 10، 2014

المملكة 23



 (12)

تناولنا فطورنا في الفندق متأخرين، ثم ذهبنا إلى قاعة المؤتمرمتثاقلين، لم تكن لدي رغبة في سماع المزيد من المناقشات والمحاضرات، وما يصاحبها من تصفيق وإعجاب، وما يتخللها من مناقشات جانبية وهمهمات، ثم ما يتبعها من مداخلات وتعليقات.  كنت أريد أن أخرج إلى المدينة، أريد أن أتعرف عليها أكثر، أود أن لو أشتري ملابس لى ولأهلى! ولكن أنَّى لى هذا؟ وشعور يراودنى بأن الجميع يرقبونني يحول بيني وبين فعل ذلك! لا سبيل أمامي سوى أن أزوّغ!
مِلتُ على رفيقى المصرى، أخبرته بمرادي وشرحت له خطتى، تردد في البداية ثم سرعان ما لحق بي! توجهنا مباشرة نحو الزقاق الرئيسي لسويقة المدينة القديمة، هكذا يسمونه، كان مزدحما بكثير من الباعة وقليل من المشترين، السوق في مجملة مقسم إلى عدة أقسام، قسم للملابس النسائية، وقسم للملابس الرجالي، وآخر للأطفال، وكان للملابس العصرية الحظ الأوفر في السوق مقارنة بالملابس المغربية التقليدية  مثل  "القفطان" و"الجلابة" الرجالية والنسائية و"الجابدور"! أسعار الملابس العصرية أرخص بكثير من الملابس التقليدية! إنها العولمة!

العالم قرية صغيرة، ما نشاهده في مصر يشاهدوه هنا في المغرب، معظم المحلات بها تلفزيونات، ومعظم الباعة اختاروا قناة الجزيرة الإخبارية. الانتخابات الرئاسية في مصر كانت محط أنظار الجميع، والسؤال اللولبي الحلزوني:
-        مرسي ولا سيسي؟!  كان حاضرا بقوة!
وجاءت إجابتى على هوى أحد الباعة الذين طلقوا السياسة طلقة بائنة، فراح يدعو لي بالبركة والتوفيق ثم قال:
يابنى نحن قوم إذا جاء إلينا ملك جديد دعونا له بقولنا: نصرك الله! وإذا فارقنا ملك دعونا له بقولنا: أعانك الله!
وانهمرت دموع آخر متسائلا:
"ما الذي جرى لكم أيها المصريون، وقد كان طلابكم من الأزهر يأتون إلينا فيعلموننا أمور دنيانا وآخرتنا؟! " ولم نتمالك أنفسنا من وقع كلامه على قلوبنا  فدمعت أعيننا حزنا على وطن لا يعرف قيمته سوى الأغراب!

الأربعاء، يوليو 09، 2014

المملكة 22



أعشق البحر، وأعشق مياهه، تلاطم أمواجه يذكرنى دوما بمشهد طبيب يحاول إنقاذ مريضه من سكتة قلبية! البحر يوقظنى، يبعث فيّ حياة،  يعطينى أمل!
لم نستطع حبس أنفسنا بعيدا عن البحر، فقفزنا كأطفال فوق رماله، واقتربنا أكثر فأكثر من صخوره، حتى لمسنا عشبه المرجاني الأخضر!

الموج الأزرق في عينيك... يجرجرنى نحو الأعمق
وأنا ما عندي تجربة
في الحب ولا عندي زورق
إن كنت أعز عليك فخذ بيدي
فأنا عاشقة من رأسي حتى قدمى
إنى أتنفس تحت الماء
إنى أغرق
إنى أغرق[1]

 على مد البصر رأيت بعض الصيادين يجمعون "محار البحر"، أو كما يطلق عليه المغاربة "بلح البحر"، وقد سمعت أن جمع محار البحر لم يعد مقتصرا على الصيادين، بل تعداهم ليصبح ظاهرة منتشرة بين  النساء والشباب والصبية الذين ليس لهم عمل، فهم يستيقظون مبكرا ويتوجهون مباشرة نحو المحيط،  يقضون يومهم في جمع بلح البحر غير آبهين بتقلبات الطقس، ثم يضعون سلعتهم داخل أكياس بلاستيكية في انتظار من يشتريها، ومنهم من يقوم بطبخها وتقديمها مع الشوربة، وقد رأيت كثيرا منهم في كازابلانكا وهنا في الرباط!

ويقال أن هناك فوائد كثيرة لتناول بلح البحر، فعندما كتبت في موقع جوجل الشهير أبحث عن محار البحر أو بلحه ظهرت أمامي عشرات الصفحات التى تذكر أهميته وتعدد من قيمته؛ فهو يحتوي على مواد مقوية ومغذية خاصة لهرمونات الذكورة، وبه نسبة عالية من الفسفور واليود والفيتامينات. وهنا في المغرب يجري تحضيره في عدة وصفات أشهرها «الطاجين» ويطلق عليها المغاربة «المقيلة»، وسبب هذه التسمية أن بلح البحر يطهى في مقلاة مع مجموعة من الخضروات.
وأدركنا الوقت فهممنا عائدين، واخترنا أن نعود من طريق غير الذي قدمنا منه، آملين أن نصل الفندق سريعا، فانحرفنا يمينا لنمر من أمام مدرسة ابتدائية كتب عليها (مدرسة الأوداية) بثلاث لغات (العربية و الأمازيغية والفرنسية)،  ورأينا الأطفال يتقاطرون على المدرسة بصحبة أمهاتهم، أحب الأطفال وبراءتهم، ليتنى أعود طفلا!
ليت الطفولة تعود يوما           فأخبرها بما فعل الشباب!


[1] نزار قباني

الثلاثاء، يوليو 08، 2014

المملكة 21



ولاحت في الأفق قلعة، فتحسسنا طريقا إليها، واضطررنا أن نعبر الطريق كي نمشى بمحاذاة الشاطئ، وما أن عبرناه حتى رأيت سيدة الأمس تٌلوّح بيدها!
ابتسمت إلىّ فابتسمت إليها، وانتظرت منها كلاما، إلا أنها أسرعت تعبر الطريق ثم اختفت. كنت أريد أن أشكرها على حوار الأمس، وكنت أريد أن أستزيد، كنت أريد أن أبرهن لصاحبي على صدق كلامي، وصحة روايتى، فقد لاحظت منه بعض الشك! كنت أنتظر شيئا مثيرا!
 الحياة كلها مثيرة، هكذا يقول الفلاسفة، وهكذا يرونها، ولولا الإثارة ما تعلق الإنسان بالحياة، ولولا الحياة ما كانت هناك إثارة!
وتوقف صاحبي أمام قطة وأبنائها الأربعة، كانوا يفترشون الأرض في انتظار أن يجود عليهم صياد بسمكة، ثم انحنى يداعبهم، فأعجبنى المشهد كثيرا، ففتحت كاميرتى والتقطت لهم صورة جاءت ولا أروع! ما أروع الصور التى تأتى من دون تكلف، وما أجملها عندما تكون صادقة!

واقتربنا من سور القلعة، (قلعة قصبة الوداية)، كل القلاع متشابهة، أسوار عالية، أبراج مرتفعة، أبواب عريضة، مدافع قديمة مستهلكة، وموقع تم اختيارة بدقة عالية؛ فالقلعة تجمع في موقعها بين رؤية تطل على نهر أبى رقراق ومنظر يغوص في المحيط الأطلسي.  كان الوقت مبكرا لدخول القلعة، فاكتفينا بالالتفاف حولها حتى وصلنا إلى مياه المحيط!

(11)

"اللهم لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته إليها" عقبة بن نافع

انكشف المحيط أمام أعيننا فتوقفنا عن السير لوقت لم ندركه، كررت مقولة عقبة بن نافع على مسامع صاحبي عدة مرات حتى بدأ يكررها مثلى: "اللهم لو كنت أعلم أن وراء هذا البحر أرضا لخضته إليها"، ترى هل كان عقبة بن نافع جادا فيما يقول؟ أم تراه لم يأتى إلى هنا ولم يقل تلك المقولة، وأنها نسبت إليه كما نسبت كثير من الأقوال لغيره!

 ... وتوقفت أعيننا على موج البحر من دون حراك!

 لو أني أعرف أن البحر عميق جدا
ما أبحرت ...
 لو أني أعرف خاتمتى
ما كنت بدأت ...
 اشتقت إليك فعلمنى أن لا أشتاق
 علمنى ...
كيف أقص جذور هواك من الأعماق
علمنى ...
كيف تموت الدمعة في الأحداق
علمني ...
كيف يموت القلب وتنتحر الأشواق[1]

أعشق البحر، وأعشق مياهه، تلاطم أمواجه يذكرنى دوما بمشهد طبيب يحاول إنقاذ مريضه من سكتة قلبية! البحر يوقظنى، يبعث فيّ حياة،  يعطينى أمل!


[1]  نزار قباني