الأحد، أكتوبر 23، 2016

على شاهين يكتب: ملخص كتاب المحاورات الثلاثة لمؤلفه الفيلسوف باركلي



قبل الدخول مباشرة فى متن الكتاب علي أن اُشير وبشكل مقتضب الى خلفية صاحبه، الفيلسوف باركلي ولد عام 1685 فى دبلن بإيرلندا وتوفي فى إنجلترا 1753. يعتبر واحدا من كبار المُساهمين فى المدرسة المثالية الفلسفية وهى المدرسة التى يتشيع لها شوبنهاور وكانط والبعض يضم معهم هيوم وسنعرف بالتفصيل مبادئ هذه المدرسة عبر هذا الكتاب.

الكتاب يضم 3 محاورات بين هيلاس ( وهو الشخص الذي يؤمن بأن هناك مادة وأنها موجودة باستقلال عن العقل وأن على الإنسان بعقله أن يكتشف هذه المادة والطبيعة) وبين فيلونوس (الذي يمثل المدرسة المثالية ورأي باركلي والتي تقول لا توجد مادة على الإطلاق وإنما هى أشياء نحن من نصبغ عليها صفة الحرارة والبرودة والألوان والطعوم، فالنار على سبيل المثال نعطيها صفة الحرارة لكن هى فى حد ذاتها قد لاتكون كذلك (

 1. المحاورة الأولى يحاور فيلونوس هيلاس بخصوص الجواهر الخارجية وهنا يقصد باركلي بالجواهر الخارجية الأشياء أو المادة الخارجية فيقول له أن الوردة تراها أنت حمراء بينما لو رأها شخص مصاب باليرقان (مرض مثل الصفرا يصيب العين بصفار ويجعل الشخص يري الأشياء صفراء جدا) سيقول إنها صفراء وربما شاهدها شخص يرتدي نضارة ملونة سيراها ملونة أما الوردة فى حد ذاتها فالله اعلم ! لانه لايوجد شئ قائم بذاته فى الطبيعة وإنما هى اشياء نضيف عليها معاني، ومثاله الأخر أنه حينما ينظر إلى النخلة من بعيد يراها صغيرة جدا ويحنما يقترب منها يراها ضخمة جدا فالمادة وهم وشئ موجود فى عقلك تُضفي على الأشياء معنى ولون ورائحة وطول وعرض لكى تستطيع ان تعيش بها ولكن لايعنى هذا بالضرورة أن الصفات التى وضعتها فى الأشياء صحيحة ويستدل باركلي من هذا على أن العقل هو أشرف واهم من المادة ( والتى يسميها الجواهر الخارجية)

2. فى المحاورة الثانية يثبت فيلونوس ( الذى يُمثل رأي باركلي) لصديقة هيلاس كيف أن النفس موجودة وأنها لاتموت كما يفنى الجسد فيقول له أن العقل الذي يدرك الأشياء يمر عبر الأحاسيس والتى تشعرها النفس فتنقلها للعقل ومثال ذلك : حينما اقتربت من النار فشعرت بالحرارة. هنا باركلي يقول أن النفس قد (شعرت بحرارة) النار ونقلت هذا الشعور( الحرارة) الى العقل فالعقل ربط بين الحرارة والنار ومن ثم أستنتج باركلي أن النفس موجودة وهى من تنقل الإستشعارات الخارجية إلى العقل كالإحساس بالجوع والعطش والنار والألم إلخ، ويُخبر صديقه أنه توصل لوجودها عبر ((اللمحة العقلية)) ففكرة النفس ليست فكرة من خياله. ثم يُخبرنا باركلي أنه رفض المذهب المادي لأنه سيؤدى الى الشك كما فعل مع ديكارت (يقصد أن إيمانك بأن فى الطبيعة مادة سيؤدى بك الى الشك فتسأل: هل الماء بخار أم ثلج أم سائل؟ لماذا أرى الملعقة مكسورة فى كوب الماء ثم لا أراها كذلك بعد إخراجها من الكوب؟ إلخ إلخ) ومن ثم يريد باركلي إزالة أى إلتباس ونفي المادة من أساسها حتى يجعل العقل وحده هو من يخلق التصورات والأشكال عبر النفس. فالأيمان بالجوهر الخارجي ( المادة) سيؤدي الى الشك ومن ثم ـ فى رأى باركلي ـ سيؤدى للإلحاد.
3. المحاورة الأخيرة تنقسم لقسمين: أولا يُثبت باركلي وجود الله عن طريق القول بأن الإنسان حين يُدرك مثلا الوردة فهى موجودة لأن الإنسان يُضفي عليها لون ورائحة وشوك إلخ وحين يحول الإنسان بصره عن الوردة فالوردة تصبح غير موجودة وتظل شئ ما، وهنا يقول باركلي إن الله لم يخلق تلك الوردة وإنما هو حولها من فكرة مجردة فى ذهنه الى شئ تستطيع أن تدركه أنت (مثال :  كما أقول أن المهندس الذي بنى البيت كان عنده تصميم لهذا البيت على الورق او على الأوتوكاد وصممه على الجهاز لو شخص نظر لهذا التصميم لن هيفهم شئ لكن المهندس حين يذهب مثلا للمقاول سيُفهم المهندس الأخير كيف يضع وأين يضع العمال الحديد والخرسانة والأعمدة إلخ إلخ ومن ثم سيحول النموذج المجرد الموجود فى الأوتو كاد الى حديد وخسرانة وطوب وأسمنت وظهر البيت الذي ينتظره الناس والذي حين تراه تعلم أنه بيت) ومن ثم فالله حين يفكر فى تفاحة مثلا فهو يخلق نموذج عام ويُظهره في عقلك فتقول أنت عليه  تفاحه ويظل موجود طالما تنظر اليه وتفكر فيه وحين تنسى وتدير وجهك عن التفاحة تظل هى موجودة لأن تصميم فكرة التفاح  موجودة فى ذهن الله وكما قلنا كل ما هو موجود فى الذهن فهو موجود على أرض الواقع. والقسم الأخير مجرد تحصيل حاصل يعيد ويزيد فيه باركلي شرح مذهبه بتبسيط أكثر ويأتى بأدلة من التوراة والأنجيل ليؤكد كلامه وهدفه هو ان ينقذ الناس من ((وهم الجواهر الخارجية)) يعنى المادة ومن ثم حين يتأكد الناس انه لايوجد شئ اسمه مادة وان العقل هو مايُضفي الطابع الخاص للأشياء عليها وان مانراه هى ((أشياء)) تسميها أنت تفاحة وتسميها بيت وتسميها قلم ـ يقول لك باركلي ـ لابئس لكن هى فى حد ذاتها قد لاتكون ذلك فما تقول عليه رائحة ياسمين قد يأتى شخص مصاب بالزكام لا يجد اى رائحة زكية وقد يأتى شخص مصاب بحساسية فيأنف من شمها ويؤمن بأنها فيروس سيصيبه بمرض لو أقترب منها أكثر وهكذا وهكذا وهكذا.
أخيرا الكتاب موجود فى المركز القومي للترجمة ب 11 جنيه وترجمته ترجمة رائعة. أنصح بقراءته


الأربعاء، أكتوبر 12، 2016

الأستاذ/ حاجيب النحيلي يكتب: ملخص كتاب (موسم الهجرة إلى الشمال) لمؤلفه: الطيب صالح

  

المحاور

1)    الطيب صالح.
2)    تلخيص لرواية موسم الهجرة إلى الشمال.
3)    شخصيات الرواية.
1.3 شخصيات "الأنا"
2.3 شخصيات "الآخر"
1)    الطيب صالح:
ولد الطيب صالح أحمد في مركز مروى، المديرية الشمالية السودان عام 1929، و تلقى تعليمه في وادي سيدنا و في كلية العلوم في الخرطوم، مارس التدريس ثم عمل في الإذاعة البريطانية في لندن، و نال شهادة في الشؤون الدولية في انجلترا، و شغل منصب ممثل اليونسكو في الفترة 1984/1989.
صدر حوله مؤلف بعنوان " الطيب صالح عبقري الرواية العربية" لمجموعة من الباحثيـــــــــــن في بيروت عام 1976، و كان صدور روايته الثانية " موسم الهجرة إلى الشمال" و النجاح الذي حققته سببا مباشرا في التعريف، و جعله في متناول القارئ العربي في كل مكان.
يمتاز الفن الروائي للطيب صالح بالالتصاق بالأجواء و المشاهد المحلية و رفعها إلى مستوى العالمية من خلال لغة تلامس الواقع خالية من الرتوش و الاستعارات، منجزا في هذا مساهمة جدية في تطور بناء الرواية العربية و دفعها إلى آفاق جديدة.
من مؤلفاته: عرس الزين،و  موسم الهجرة إلى الشمال، و مريود، ونخلة على الجدول، ودومة ود حامد.

2)    تلخيص لرواية موسم الهجرة إلى الشمال.
"عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد و كنت خلالها أتعلم في أوربا. تعلمت الكثير لكن تلك قصة أخرى"[1]
هكذا تبدأ الرواية بعودة الراوي، و هو طالب سوداني كان يدرس بلندن لمدة سبع سنوات. استقبله أهالي القرية و طالعه وجه غريب عنه اسمه مصطفى سعيد. و هو رجل من الخرطوم جاء إلى القرية منذ خمس سنوات حيث اشترى أرضا و تزوج بإحدى بنات القرية.
في جلسة حضرها الراوي،  ردد مصطفى سعيد شعرا بالانجليزية تحت تأثير الخمر، مما أثار فضول الراوي، و في اليوم التالي كشف مصطفى سعيد للراوي السر و أخبره بكل شيء: قصته، حياته، رحلته باتجاه الشمال، مغامراته العاطفية، و تسببه بانتحار ثلاث نساء انجليزيات و قتله لزوجته الأنجليزية أيضا: عاش مصطفى سعيد يتيما، منعزلا عن العالم، دخل المدرسة و تفوق فيها خاصة في الا"نجليزية، حتى أن ناظر المدرسة قال له: " هذه البلاد لا تتسع لذهنك، فسافر، اذهب إلى مصر أو لبنان أو انجلترا، ليس عندنا شيء نعطيك إياه بعد الآن"[2].
سافر مصطفى سعيد إلى القاهرة، دخل مدرسة مجانية، ثم غادر القاهرة إلى لندن، حيث تفوق و أصبح محاضرا في الاقتصاد بجامعات لندن.
أقام علاقات مع بريطانيات، حيث أذهلت بحكاياته عن الشرق، وتعلقت به النساء الانجليزيات إلى درجة الانتحار ( انتحار آن، شيلا، ايزابيلا) و قتله لزوجته جين.
حوكم مصطفى سعيد بتهمة القتل وقضى سبع سنوات في السجن، عاد بعدها ليستقر في قرية الراوي بالسودان.
رحل مصطفى سعيد غرقا في فياضانات النيل و ترك رسالة للراوي يوصيه بأهله و حاله، كما ترك مفتاح غرفته الخاصة للراوي. أما الراوي فهو يشتغل بالخرطوم، يزور بين الحين و الآخر القرية للسؤال عن أهلـــــه و عن شؤون زوجة مصطفى سعيد و ولديه.
زوجة مصطفى سعيد رفضت الزواج لأنها كانت متعلقة بزوجها السابق، لكنها تنهزم أمام إصــــــــــــرار (ولد الريس) في الزواج منها، لكن هذا الأمر يستقر عن مأساة قتلها لزوجها و لنفسها.
عند عودة الراوي من الخرطوم يعلم بالمأساة و يحمل نفسه مسؤولية الحادث، خاصة أن المرأة جاءت فطلبت منه في غيابه عقد القران لينقدها، و اكتشف أنه أحب (حسنه). و يذهب الراوي إلى غرفة مصطفى سعيد الخاصة، يجدها مليئة بالكتب المتنوعة، كما وجد صورا لنساء و مذكرات.
و تنتهي الرواية بمقاومة الراوي الغرق، حيث اختار أن يكمل الحياة، يقول:
" فكرت أنني أقرر الآن أني إذا مت في تلك اللحظة فإنني أكون قد مت كما ولدت، دون إرادتي طول حياتي لن أختبر و لم أقرر، أني أقرر الآن أنني اختار الحياة"[3].
تظهر ملامح مصطفى سعيد بطل الرواية، متفرقة عبر فقرات الرواية، حيث يمكن لنا استجماعها، إذ يلتقي الراوي بزملاء سابقين فيخبرونه أنهم كانوا يلقبون مصطفى سعيد بالإنجليزي الأسود، كما يعلم أنه كان له دور في مؤامرات الإنجليز في السودان، و يخبره محجوب بأن مصطفى سعيد يستحق أن يكون وزيرا.

3)    شخصيات الرواية.
تتخذ الثنائية " الآنا – الآخر" حسب فهمي المتواضع عدة تمثلات، و لفهم هذه التمثلات و ما ترمز إليـــــــه في الرواية، يجب على القارئ وضعها في سياقها المجتمعي و التاريخي. فثنائية " الآنا – الآخر" ترمز إلى شخصيات أو أماكن تكون لها رمزيتها و دلالاتها تستوجب فهمها من طرف القارئ.
هناك اعتقاد سائد مفاده أن "الآنا" دائما الذات و "الآخر" هو نقيض الذات و الغريب و اللامنتمي.     لكن الطيب صالح في روايته " موسم الهجرة إلى الشمال" أعطى للآنا و الآخر تمظهرات أخرى: فالآنا هنــــا لا يمثل الطيب صالح أو بطل الرواية (مصطفى سعيد) فقط، و إنما أتى بصيغة الجمع كذلك و يرمز إلى السودانيين و الشرق و العالم الثالث. أما الآخر فلا يمثل الغرب فقط إنما يشمل الذات كذلك حين تعيد اكتشاف نفسها." لما جئتهم، كانت لحظة عجيبة أن وجدتني قاتما بينهم...حتى أحسست كأن تلجــــــا يذوب في داخلي"[4]

1.3 شخصيات "الأنا"
تتوزع شخصيات "الآنا" و "الآخر" في الرواية بين الشرق و الغرب، فشخصيات "الآنا" تنتمي إلى الشـــــــرق و هي: مصطفى سعيد، الراوي، حسنه. و لقد نسج الطيب صالح علاقة تجمع بين هذه الشخصــــــــــيات، ورسم لكل واحدة منها دور محدد:
فمصطفى سعيد أتى في مواجهة الغرب المستعمر، و الراوي في مواجهة مصطفى سعيد و مجتمعه، و حسنه أرملة مصطفى سعيد في مواجهة مجتمعها و رفضها الزواج.
انطلاقا مما سبق الإشارة إليه يمكن القول أن شخصية مصطفى سعيد تمثل "الآنا" أو الذات، و ترمز كذلك إلى ذلك المثقف العربي في مواجهته مع الغرب و حضارته.
أما شخصية حسنه فهي تمثل الوجه المتمرد للمرأة ضد الظلم و التأثر على الأعراف السائدة. 
2.3 شخصيات "الآخر"
إن تمثلات "الآخر" في الرواية لا تقتصر فقط على الشخصيات الغربية التي ورد ذكرها و هي: روبنس، مسز، آن همند، شيلا، إيزابيلا، سيمور و جين مورس، فحسب و إنما يأتي الشرق أيضا كأحد تمثلات "الآخر".
فالفترة التي قضاها في الغرب مكنته من فهم الثقافة الغربية و إتقان علوم الاقتصاد، و لكن عند العودة إلى الوطن يحصل الصدام مع الشرق و مع المجتمع الذي ينتمي إليه مصطفى سعيد، يتمثل هذا الصراع في تعارض قيم المجتمع الدينية و الاجتماعية مع الفكر الذي أتى به من الغرب.
    




[1]   موسم الهجرة إلى الشمال، الرواية، الطيب صالح، صفحة5.
[2]   نفسه صفحة 31.
[3]   نفسه صفحة 200.
[4]   نفسه صفحة5.

السبت، أكتوبر 01، 2016

على شاهين يكتب: ملخص رواية الكهف للأديب البرتغالي جوزيه ساراماجو


أحد أكثر الروايات إثارة لأكبر قدر من المشاعر والقادرة على استثارة مراكز التأويل داخل عصبونات العقل النقدي، أتحدث عن رواية (الكهف) التى ولِدت من أنامل البرتغالي جوزيه ساراماجو ( 1922 – 2010 )، الذى اقتنص بقلمه نوبل للأدب عام 1998، وبأسلوبه عقول القُراء، فلم يكن فقط شيوعي فى رؤيته السياسية، ولكن كان هناك (فائض) من العبقرية في رواياته عبر تغذية فن الأُمثولات (بمواد خام) صافية من (مصنع) قريحته، جعل كل قارئ ينهل من (إنتاجه) وعلى عكس قانون العرض والطلب تُرجمت مُنتجاته إلى 25 لغة دون أن يحدث خسارة فى سهم واحد من أسهم الحب المبثوث فى سوق بورصة القراء فهل ثمة حاجة بعد ذلك إلى حساب (مُعدل الإهلاك) والرباح قد فاق الحدود؟
دون حرق أحداث الرواية ودون الوقوف موقف المدح والتهليل للرواية فقط ومن خلال هذه الرؤية أقول أن الرواية تستلهم من فكرة (الكهف الأفلاطونى) الفلك الذى تدور حوله أحداث الرواية ولمن لا يعرف كهف ابن آثينا هو فى الحقيقة مثال ضربه لأشياعه لتوضيح فكرة المُثُل ومُفاده أن أفلاطون أفترض أن ثمة كهف بداخله أشخاص مقيدون من إيديهم وأرجلهم وحول أعناقهم أغلال تحول دون إستدارة رأسهم ولايملكون ترف النظر لجميع الزوايا اللهم الحائط المواجه لهم ، ولنفترض أن ثمة نار موقدة وخلف النار يمر الأشخاص والناس والحيوانات ومن ثم فسيرى الأشخاص المُقيدون فى الكهف ظلال هؤلاء المارون ويحسبون أنهم يرون الحقيقة فى حين أنهم يرون ظلالها أما المارون والأشخاص فهم لايعلمون شيئا عنهم باستثناء الظلال ولو خرج واحد من المُقيدين مثلا من الكهف ونظر للعالم الخارجي ثم عاد ليُقنع الأخرين بتشوش رؤيتهم للمارين فلن يقتنعوا ومن ثم يستخلص أفلاطون رؤيته عبر هذا المثال أننا فى عالمنا هذا لا نعرف حقائق الأشياء كما هي وإنما مايلوح لنا منها فمعرفتنا قاصرة عاجزة ومن ثم على الإنسان أن لايعول كثيرا على المادة وما تُظهره لنا من حالاتها المختلفة ومن هنا أستطيع أن أدخل إلى لحم وسُدى الرواية.
رجل يصنع الفخار خرج من الدنيا بابنة زوجها يقوم بمساعدته فى حمل الأواني الفخارية والذهاب بها للسوق، تدور الدوائر وتضيق الأرزاق وتستأسد التكنولوجيا والمصانع الحديثة فى صناعة صِنعة عامل الفخار فتضيق به الدنيا حتى تمنحه الأخيرة فرصة أخيرة تظهر فى شكل شُحنة تطلبها إحدى المحلات المهتمة بالفلكلور والأعمال الفخارية والخزفية فيناضل عامل الفخار فى تلبية الدُفعة المطلوبة لأن الرقم كبير يصمد أمامه مصنع فخار وليس رجل بسيط ترتعش يداه حين يُداعب الطين الواهن فكيف بشُحنة حتى وإن أتمها سيحتاج إلي سيارات نقل، فهل حقا تلك الشُحنة هى ما ستجعل الرجل يُدرك أهمية عمله أم يا تُري ستجعله يكتشف عبثية عمله؟ وهل الحقيقة تكمن فى السعي للبحث عن محلات ومصانع تحتاج الخزف أم أن هذا وهم والأجدى أن يخرج الإنسان من كهف هذه الفكرة ليبحث عن حقيقته وحقيقة قدراته؟ وهل ستكتمل الشُحنة أم ستكون أكثر من مجرد شحنة عادية؟ ولأنه من الحماقة حرق الرواية بإشعال نار الوصف فى ختام أحداثها فسأتناول عدسة نقد أدبية مقعرة الجوانب عسى أن نُكثف شعاع الجمال الفني على سطح رواية مصقولة الحواف محبوكة الصنعة.
أسلوب كتابة ساراماجوا أكثر من مجرد شئ يمكن وصفه بكلمة (رائع) الهزيلة و أقوى من أن تصمد أمامه عبارة (غريب) وإن كان أقل شئ درءا للعجز من جهتنا هو أن نقول (خارق) حيث أن الرجل لايكتب مثلا حوار بين الأب وإبنته تخترقه الفواصل والسطور بل هو سطر واحد يضم سؤال ورد الأب وابنته تتقاطع أساليب الحوار مع السرد وكأن سارماجوا هاهنا يريد القول بأنه من المستحيل أن نفصل الحوار بين الشخصيات عن حوار الأحداث لنفسها الأمر الذي سبب شئ من الحيرة لبعض القراء حيث وجد البعض محاولته تلك كمحاولة دمج الزيت بالماء فى حين إن كان سارماجوا هاهنا لم يحاول أصلا دمجهم وإنما قام بتعريف خصائصهم ومن التنافر يولد التضافر!
سارامجوا يُتقن بشكل مذهل فن الإحالات ويُجيد اللعب بأوتار الإسقاط ويمكن القول أن فن الأمثولات قد إنشق عن قبر التاريخ وأعاده سارماجوا لعرش الرواية، وفن الأمثولات لمن لايعلمه هو تجسيد الرمزيات والمُثُل الفلسفية فى الرواية وتحويل الأفكار المجرد إلى شخصيات مجسده فمثلا يقوم الكاتب بتصوير الشيطان شئ يمشي على الأرض ويقابل الضحية ليعقد معاه عقد يلبي رغباته مقابل أن يسلب روحة وهاهنا يجسد الشيطان فكرة شهوة الإنسان التى تطمع فى كل شئ وعواقب هذا الشره والشهوة المستعرة ، وكأن يقوم ساراماجوا فى أحدى رواياته بتصوير قرية ذهب عنها ملك الموت وأصبح أهلها مخلدين لا يموتون فما النتائج المترتبة على ذلك؟ ساراماجوا يُتقن فن تجسيد الأفكار المجردة والفلسفية وداهية فى توظيفها فى رواياته.
يعتمد ساراماجوا على أسلوب التكثيف فى سرده والإيجاز فى بعض مواطن القصة فاتحاً المجال للتأويل، وهناك الكثير من الحِكَم القوية المتناثرة فى حبر الرواية مثل قوله (فالشباب لايعرف مايمكنه تحقيقه والشيخوخة لا تتمكن من تحقيق ماتعرفه) والحوار القصير الذى قال فيه أبطاله (لا تحزن فالزمن يشفي كل شئ/ عفوا أنا لن أعيش بما فيه الكفاية لكي أتأكد من هذا) يعتمد ساراماجوا على أسلوب (التبئير) فى روايته أى أن يركز بؤرة الوصف الداخلي للشخصية وملامحها ومزاجها وماتراه حتى تشعر بأنه لاشئ فى الرواية غير هذا الشخص، ثم يخرج بسرعة إلى التبئير الخارجي ليصف الجو العام المحيط للشخصية و الأحداث المؤثرة فيه، ومابين الداخل والخارج نجد وصف سارماجوا يحتاج لتركيز شديد فبعض الأوصاف المقتضبة والحوارات المحددة نقطة الوقف فيها قبل إستهلال الكلام تحتاج لشخص متفرغ لقراءتها، وليس قارئ السرير الباحث عن أى رواية تبعث النوم فى عينيه عند الدخول للنوم!
من أجمل المقاطع المذهلة فى الراوية الإسقاط الذى يلقي بشباكه على فكرة (الخلق) فيُسقط هذا البرتغالي صناعة عامل الفخار للأطباق الفخارية على فكرة الخلق من حيث إشتراكهم فى الطين و(النفخ) المتواصل لصانع الفخار لفخاره ونفخ الله من روحه للبشر والصلصال الذى يغدو تحت وطئة الفرن (خلق جديد) وكالأنسان يواجه هذا الفخار أخطار المطر والأهمال والإنكسار وكالإنسان يواجه خطر الفناء والانقراض أمام التكنولوجيا الحديثة وارتفاع زئير الآلة أمام ابتهلات بنى آدم.
على القارئ فى حضرة ساراماجوا أن ينسى جميع أشكال الكتابة وأغلب عمليات السرد التى قرأها من قبل وهذا ضروري وصحي لأن الذهاب إلى المتنزهات شئ مفيد للصحة لكن لايعنى هذا الضجّر من هدير أمواج البحر فالأول ليست فقط لشم الورود كما الثاني ليس للسباحة فقط، ولهذا فسارماجوا ضروري كضرورة البستان للبحر حتى وإن لم نستطع التجاوب معه فالرجل يمنح القارئ زاوية جديدة للتأمل و لحن جديد لعزف سيمفونية عبر أدوات اللغة والتعبير، أحد أكثر الأشياء التى فتنتني فى الرواية كانت النهاية وهذا شئ طبيعى فرجل يبدء روايته عبر وصف جرح فى يد سائق محطما كل الأعراف التى تبدأ بها أغلب الروايات فتأمل !
 فهذا روائي يحتال على النقد لينقد النقد نفسه، وهذا طبيعى إن عرفنا أن الرجل بعد أن كتب روايته الأولى ظل 20 عاما يعكف على القراءة بكل مستوياتها وفروعها وعمل فى أكثر من وظيفة من عامل بريد إلى ناقد أدبي ثم حمّال فى محطة سكة حديد ثم ميكانيكي ثم صانع أقفال ثم مترجم وغيرها من الوظائف والمهن حتى آمن أنه قد (حطم) الطوق وأهل لإن يكتب شئ يستحق القراءة ومن ثم فمن أجتمعت له خبرات الحياة على مستوى الاحتكاك بالبشر والتغذية برحيق المعرفة عبر أزهار لابد أن يُنتج (عسل) فريد فى وفرته و فعّال فى فترته!
إقرأو الكهف.