الاثنين، يوليو 30، 2012

من يومياتي في ألمانيا (برلين8)





وفجأة توقف المترو أمامي، وفتحت أبوابه ولم أكن قد أشتريت التذكرة بعد، فقد شغلني جدالي مع الشيطان حتى جاء القطار. ولما سمعت صافرة الأبواب تنذر بالإغلاق، وجدتني أرمي بنفسي داخل المترو وما هي إلا ثوان حتى وجدت رجلا يرتدي بدلة سوداء من دون كرفتة يقترب مني ويسألني: هل يمكنني أن أرى تذكرتك؟!

تذكرتي؟!كدت أن أقول له يبدوا أنك قد سمعت الحوار الذي دار بيني وبين إبليس!! إلا أنني حاولت أن أتظاهر بالهدوء والثبات، وأن أبتعد عن أي توتر أوعن أي شئ قد يثير الشك والريبة، ومن ثم فقد أخرجت التذكرة وأعطيتها إياه. أخذها مني وألقى فيها بنظرة متفحصة ثم قال:- أنت قد تخطيت المدة المسموح لك بها في هذه التذكرة. قلت له مستفهما:- حقيقي؟ ثم استدركت بقولي: عفوا فأنا غريب واليوم هو الأول لي هنا في برلين، ولم أكن أعلم بهذا الأمر.

نظر الرجل إلي نظرة بها كثير من الشفقة، أو ربما كان بها كثير من الإحتقار "الله أعلم"، ثم ردها إلي قائلا: أرجو أن تنتبه بعد ذلك، ثم أشار بيده ناحية لوحة معلقة بجوار باب المترو، وقال: من فضلك اقرأ هذه اللوحة جيدا! ثم انصرف. وهنا شعرت أن كل الناس يحدقون في، فأخذ جسدي يتصبب عرقا وشعرت بالإحراج، وفي محاولة لتغيير هذا الموقف اقتربت من اللوحة التي أشار على الرجل بقرائتها ثم قرأت ما يلي:

"تحذير هام: لكل من تسول له نفسة "ويستعبط ويستهبل"ويستقل القطار من دون تذكرة أو بتذكرة منتهية الصلاحية "وأحسست ان التحذير يقول لي فاهم ياله"، فعقوبته أن يدفع 40 يورو. قلت لنفسي "طب ما أنا عارف المعلومة دي من زماااان".

وعند أول محطة وقف فيها القطار نزلت من فوري، فإحساسي بأن نظرات الناس تحاصرني جعلني لا أطيق البقاء.

نزلت من المحطة ولسان حالي يقول: "تبا لك يا إبليس فلقد أخرجتني من المترو كما أخرجت أبوي من الجنة". أعدك ألا يتكرر هذا الأمر بعد ذلك لن تنتنصر علي بعد الآن.



خرجت من بوابة محطة المترو بعد أن سألت في الاستعلامات عن أقصر الطرق للوصول إلى جزيرة المتاحف. أين أنت يا فريدرش لم أكن في حاجة لكي أسأل الناس لقد كنت أنت مرشدي.



كثيرون هم من سألتهم أين تقع جزيرة المتاحف؟ واتفقت إجاباتهم على أنها لا تبعد كثيرا عن المكان الذي أقف فيه وأن من علاماتها أنني سأجد مبنا ضخما يشبه سفينة عملاقة يحيط به الماء من ثلاث جهات. ولما أشرفت على الاقتراب من جزيرة المتاحف بدا لي المكان أشبه ما يكون بسفينة عملاقة تنتطرني. وصلت إلى الجسر الذي يؤدي إلى جزيرة المتاحف التي يوجد بها خمسة متاحف مجتمعين وسألت للمرة العشرين عن شباك التذاكر فدلوني إليه ولما وقفت أمام الموظفة ، قامت بتعريفي بالمتاحف الخمسة قائلة هذه الجزيرة تضم خمسة متاحف هي :-

"متحف بوده"، "متحف بيرجامون"،"المتحف الحديث"، "المعرض الوطني للتراث" و "المتحف القديم". ويمكننك زيارتها جميعها بجانب زيارة المتحف المصري الذي توجد به رأس نفرتيني بتذكرة واحدة ثمنها ستة يوروهات وفي حالة ما إذا كنت طالب فستدفع ثلاثة يوروهات فقط. قلت لها على الفور أنا طالب وأخرجت لها ما يثبت ذلك، فأعطتني التذكرة من فئة الثلاثة يوروهات.

سعدت جدا أنني طالب، وسعدت أكثر لأنني سأدخل متاحف كثيرة في يوم واحد.... لقد عاد النشاط إلي جسدي ... حتما سأشاهد كل هذه المتاحف... إنها فرصة لن تتكرر.

دخلت متحف بودة فأعطتني موظفة الإستقبال جهازا به سماعة، ثم قالت لي إن هذا الجهاز هو مرشدك داخل المتحف، فيمكنك اختيار اللغة التي تود أن تسمع الشرح بها وما عليك إلا أن تدخل الرقم المكتوب على الأثر أو التمثال أو اللوحة في هذا الجهاز، وسيبدأ الجهاز على الفور بتقديم شرح كاف وواف لما تريد معرفته.. إنه المرشد الإلكتروني .. يا سلام على ألمانيا ومتاحف ألمانيا.



أخذت الجهاز وبدأت أبحث عن لغتي العربية فلم أجدها بين اللغات المعروضة، فهناك الألمانية وهناك الإنجليزية ثم الفرنسية والإسبانية وكذلك الصينية . وعلى الرغم من وجود آثارا كثيرة من بلدان عربية إلا أن الشرح باللغة العربية لم يكن موجود!!



أول ما دخلت من المتاحف كان المتحف القديم والذي بني ما بين عامي 1825 وعام 1830 وقد بناه المهندس فريدريش شينكل ( غريبة معظم المهندسين اسمهم فريدريش) أين أنت يا فريدريش!!

هذا المتحف القديم ( بالمناسبة أول ما بني كان اسمه المتحف الجديد) يضم بين أركانه آلاف القطع الأثرية لعصور قديمة من معظم أنحاء العالم وقد وجدت فيه آثارا فرعونية.



بعد ذلك دخلت متحف بودة "نسبة للمهندس الذي قام بترميمة " وما أدراك ما متحف بودة إنه يعتبر بحق لؤلؤة في سماء برلين وشاهد على التاريخ والحضارة حيث أنه يوجد به منحوتات ورسومات فنية تؤرخ لعصور مختلفة. كما أنه يؤرخ لضرب النقود عبر التاريخ في مجموعة نقدية تعد الأهم في العالم.



وأجمل ما أبهرني في هذا المتحف هذا التفنن والإبداع في اختيار أجمل المواقع وأكثرها روعة، وأبدعها إضاءة لعرض المنحوتات في صالات المحف " ياسلام ناس عندها حس عالي جدا، فالأسطح الخشبية والرسومات على الجدران تزيد المكان روعة وتألقا، وتجعل من التاريخ وكأنه قد ولد وقد بعث من جديد.

ويزداد المشهد جمالا من خلال القطع الأثرية التي تؤرخ لعصور وأزمان مختلفة ومتباعدة تتوزع ما بين عصر النهضة والعصر الباروكي والعصر الكلاسيكي.(أنا أعشق المتاحف ) ويبلغ عدد القطع المعروضة في هذا المتحف حوالي 1700 قطعة منذ البدايات الأولى للعصور الوسطى وحتى نهاية القرن الثامن عشر.


انتهيت من زيارة هذا المتحف وعز على فراقه،
وما كان من شئ ليعوضني عن فراق هذا المتحف سوى دخولي "متحف بيرجامون" فقد هالني ما رأيته بوابة كبيرة جدا كتب عليها باب عشتار من العراق. ياالله ما هذا الجمال وما هذا الإبداع والدقة اللانهائية..لم أقاوم نفسي وأخرجت من حقيبتي بكاميرتي المتواضعة، ثم التقط لها صورة على الفور. وما هي إلا ثانية أو أقل حتى وجدت سيدة تقف بجواري وتقول لي عفوا فالتصوير بالفلاش هنا ممنوع وإن كنت تريد أن تصور فينبغي عليك أن تغلق الفلاش. تأسفت لها ثم وعدتها أن أتبع ما قالته لي. " تساءلت في نفسي وما سيضر إن كنت أقوم بالتصوير بالفلاش أو بغيره وأساسا كاميرتي من النوع الردئ الرخيص الذي لا يوجد به سوى الفلاش.. ياعم سيبها على الله"

جلست قليلا أمام بوابة عشتار ثم أدخلت الرقم المدون عليها على لوحة مرشدي الإلكتروني فعرفت ما يلي:-

"تعد بوابة عشتار في بابل البوابة الرئيسية لسور المدينة الداخلي، وهذه البوابة كانت مدخل المدينة من ناحيتها الشمالية. وتقع بامتداد الجانب الشمالي من القلعة الجنوبية وتشمل النقطة التي يتوغل منها الى شارع الموكب. ويعود تاريخ بناءها الى ما قبل حكم نبوخذنصر(604-562) قبل الميلاد. ولما جاء نبوخذنصر أعاد بنائها ، بحيث اصبحت اكثر اتقانا واحكاما، فقد زين البوابة بالثيران وبالطابوق المصقول المطلي، ووضع ابوابها بعد ان غطاها بالنحاس وثبت فيها مغاليق ومفاصل من البرونز."



والحق يقال بأنني كدت أن أجن فكيف لهم أن يأتوا بهذه البوابة الضخمة ويضعوها في هذا المتحف ، إلا أن الإنسان دائما عدو ما يجهل، فبعد البحث والفحص والتمحييص عرفت أن سبب وجود آثار بابل في برلين يعود إلى اتفاقية أبرمتها ألمانيا القيصرية مع الحكومة العثمانية عام 1899، وعلى أثر الاكتشافات التي حققها الباحث الألماني روبرت كولدوي، فقد تم نقل السيراميك الملصوق على بوابة عشتار وشارع الموكب بهيئة حطام إلى برلين، ثم قام العلماء على مدى سنوات بترتيب القطع وإخراجها بهذا الشكل الحالى.

تركت هذه القاعة ثم دخلت قاعة أخرى بجوارها وما أن دبت قدماي بداخلها حتى وجدت شئيا عجيبا مدهشا، يا الله ما هذا إنه شارع الموكب، حملوه أيضا من العراق. يا للجمال والدقة والإبداع. وهنا لم أعد أحتمل، فأخرجت كاميرتي ثم التقطت لها صورة دون مراعاة للوعد الذي أخذته على نفسي، وما هي إلا ثواني وجاءتني السيدة مرة أخرى.



وغدا نلتقي

محمد شحاتة


الخميس، يوليو 26، 2012

من يومياتي في ألمانيا ( برلين 7)

أردت البقاء لأطول فترة ممكنة ولكني تذكرت أن فريدريش ينتظرني عند مدخل البوندستاج لذا اضطررت لأن أعود من حيث أتيت.

خرجت من باب الخروج وذهبت حيث النقطة التي تواعدنا أن نلتقي عندها، ولكني لم أجده، انتظرته قليلا فلم يأتي، قمت وبحثت عنه ولم اجده، أين ذهبت يا فريدريش؟!
مضى حوالي ساعة إلا ربع وأنا منتظرك يا فريدريش، أرجوك لا تدعني وحدي! ترى أين ذهبت يا فريدريش؟ هل تأخرت عليك أم أنك ظننتني لن أنجحح في الصعود؟ أين أنت الآن يا فريدريش؟!
الوقت يمر سريعا وليس أمامي سوى هذا النهار كي أرى فيه معالم برلين. ترى هل هذه عقوبة عدم وقوفي في الطابور؟ ومن الذي يعاقبني هل هو فريدريش أم الله؟؟ استغفرت الله لذنبي ثم تركت لساقي العنان كي تختار في أي الطرقات تسير.
وجدتني أقف على رأس شارع طويل على جانبيه أشجار كثيفة وفي نهايته عمود طويل قمته برونزية أو نحاسية تلاعبها أشعة الشمس فتعكس شعاعا لا تستطيع عينك مقاومته. عرفت بعد ذلك أنه شارع 17 يونيو الذي يتجمع فيه الآلاف من البشر في كل عام يتحفلون فيه بالمناسبات المختلفة مثل الاحتفال بوحدة ألمانيا أو بالاحتفال بأعياد رأس السنة . وقد سمي هذا الشارع بذلك الإسم إحياء لذكرى الثورة التي قامت في شرق برلين في 17 يونيو من سنة 1953 ضد الشيوعية.

ومن دون أن أجهد نفسي في التفكير فقد قادتني قدماي كي أسير في هذا الشارع الطويل متجها جهة العمود الطويل الذي قمتة برونزية ، ولما وصلت إليه تبين لي أنه عمود النصر( بالألمانية  Siegessaeule) وهو النصب أو العمود الأشهر في برلين وقد قام بتصميمه المهندس " هاينريش ستراك" في سنة 1864 تخليدا لذكرى الانتصار البروسي في الحرب البروسية الدنماركية. وبعد عشر سنوات من البدء في بنائه تم افتتاحه في الثاني من يونية سنة 1873، ويعلو هذا العمود تمثالا برونزيا كبيرا وجميلا للملكة فيكتوريا ، وارتفاعه حوالي 8.3 مترا ويزن حوالي 35 طنا.
افتقدتك يا فريدريش وافتقدت شرحك السهل البسيط " والغزير بالمعلومات" آسف لك يا صديقي لأني تركتك، سامحني.
ألقيت حقيبتي على الأرض ورميت بجسدي فوق الحشائش الخضراء وسط الأشجار ذات الأوراق العريضة التى لا أعرف لها نوعا ولا إسما ، ثم أغمضت عيني ولا أدري قد نمت أم لا. ولو كنت قد نمت فكم مر من الوقت ، لا أدري، وما أذكره جيدا هو أنني بعد أن فتحت عيني وجدت منطادا كبيرا يرتفع فوقي وسط السماء الصافية، مكتوب عليىه" فيلت بالون" (بالألمانية: Welt Baloon) فاعتدلت من نومتي ثم عاودت النظر إلى السماء فوجدت أكثر من منطاد يسبحون فيها. تمنيت لو كنت في واحد من هذه المناطيد فمنها يمكنني أن أرى برلين مرة واحدة وبدون مرشد ومن دون إجهاد. قلت لنفسي وكيف لي أن أرى ما بداخل المتاحف التي أود زيارتها. انتبهت متاحف؟! لذا قمت من فوري وحملت حقيبتي ثم انطلقت.
كنت قد علمت وأنا في جامعة جوتنجن أن بإمكان المرء في برلين أن يدخل ستة متاحف في يوم واحد بتذكرة واحدة والتى ثمنها ستة يوروهات، وسأحاول اليوم معرفة ما إذا كانت هذه المعلومة صحيحة أم لا. وهنا سألت أحد المارة كيف يمكنني الذهاب إلى المكان الذي توجد في المتاحف، فأخبرني بأنها توجد في مكان يسمي بجزيرة المتاحف وهو لا يبعد كثيرا عن هنا ويمكنني أن أذهب إليه بالمترو أو بالترام.
الحق يقال بأن النشاط والقشعريرة اللتان كنت أشعر بهما بعد قرائتي للورقة الصغيرة عن برلين قد بدأتا في الخفوت والسكون، وبدأ الكسل يدب في جسدي وجدتني لا أريد أن أواصل المسير، فأين أنت يا فريدريش وقد ذهبت وأخذت معك قوتي؟!
تذكرت أن معي تذكرة للمترو وتصلح أيضا للترام ولكن هناك مشكلة فصلاحيتها قد انتهت منذ نصف ساعة. ياللحظ!! إذا على أن أشتري تذكرة جديدة. وقفت عند محطة المترو وأردت أن أشتري تذكرة أخرى فجائني الشيطان وبدأ يوسوس لي.
إبليس:- أنت معك تذكرة بالفعل ولو سألك أحد ( دا لو حصل يعني) فقل له إنك لم تلاحظ ذلك، وأنك غريب.
نفسي:- لا لا حرررررام
إبليس: إيه اللي حرمة بس يعني هي جت عليك؟
نفسي:- الألمان ما بيهزروش ولو اتمسكت ها اضطر إني أدفع أربعين  يورو. لا ياعم أنا ها اشتري تذكرة أحسن.
وفجأة توقف المترو أمامي وفتحت أبوابه ولم أشتري التذكرة بعد، فقد شغلني جدالي مع الشيطان حتى جاء القطار. ولما سمعت صافرة الأبواب تنذر بالإغلاق وجدتني أرمي بنفسي داخل المترو وما هي إلا ثوان حتى وجدت رجلا يرتدي بدلة سوداء من دون كرفتة يقترب مني ويسألني: هل يمكنني أن أرى تذكرتك؟!
ونلتقي غدا
محمد شحاتة

الأربعاء، يوليو 25، 2012

من يومياتي في ألمانيا (برلين 6)


أخرجت من حقيبتي تفاحتين ، أعطيت فريدريش واحدة وأخذت الأخرى، ولما هممت بقضم تفاحتي، فإذا بي أرى شيئا غريبا جعلني أتوقف فجأة. ما هذا؟؟ إنها دراجة هوائية، ولكنها ليست كدراجاتنا الهوائية، إنها دراجة عائلية، لها سبعة مقاعد ولكل مقعد منها جزء مقسوم. نعم دراجة لها سبعة مقاعد وبها سبعة بدالات، ومن الممكن أن يركبها سبعة أفراد في وقت واحد ويبدلون جميعا. قلت لصاحبي متعجبا: هل تري ما أراه يا فريدريش؟ فأجابني ببرود: عادي دي دراجة " كونفرينس بايك" فقلت له في سري" نورت المحكمة" وعرفت بعد ذلك أن هذه الدراجة هي واحدة من ستة دراجات مماثلة في المدينة، ومن الممكن أن تقوم أي مجموعة بتأجيرها مع مرشد سياحي، ويتجولون في الأماكن التي يحددونها سلفا، وفي الأوقات التي يريدونها. فقط بـ 24 يورو، ولم أتأكد هل هذا المبلغ للفرد، أم للجميع!
راودتني فكرة أن نذهب ونؤجر هذه الدراجة إلا أن النشاط الذي ما يزال يدب في جسدي والقشعريرة التى تأكل في جلدي حالا بيني وبين هذه الفكرة لذا واصلت المسير مع صديقي فريدريش حتى وجدنا أنفسنا على مشارف مبني ضخم يعلوه قبة زجاجية ضخمة، وكلما اقتربنا منه ازدادت ضخامته واختفت قبته. ولما اقتربنا من بوابته الرئيسية ذات الدرج العريض العالي رأينا طابورا طويلا يمتد لمئات الأمتار ويقف فيه الناس ثلاثا أو رباعا خلف بعضهم البعض. سألت صاحبي لماذا هم هنا واقفون؟ فأجاب بأنهم يريدون أن يصعدوا أعلى البوندستاج ليشاهدوا قبته الزجاجية. فقلت له متعجبا كل هؤلاء البشر؟!!
انتابني شعور بالحيرة  فهل أنتظر وأقف في هذا الطابور الطويل ثم أصعد لرؤية القبة الزجاجية أم أكتفي برؤيتها من بعيد؟ قلت لصاحبي إنني أود الصعود فقال لي : إن هذا الأمر يحتاج منك ليوم كامل وأنت تريد أن ترى معالما أخرى. قلت له ألا تود رؤيتها كذلك ؟ فأجاب بالنفي ثم علل ذلك بأنه قد رآها أكثر من مرة وليس لديه الرغبة اليوم. وهنا جائتني فكرة جهنمية. قلت له سأحاول أن أجري التجربة المصرية على هذا الطابور. فقال : وما هي هذه التجربة المصرية في الطابور؟ فأجبته بأنني سوف أذهب إلي مقدمة الطابور وأستأذن الناس هناك معللا بهم بأنني غريب وليس لدي وقت. فنظر إلي فريدريش نظرة لا تخلو من كونها نظرة استغرابية ثم قال : وهل تظن أنهم سيصدقونك؟ قلت له سأجرب، انتظرني وأعدك أنني لن أتأخر.
بخطي بطيئة ومترددة واصلت السير إلى مقدمة الطابور، وقفت بجوار شاب وافتعلت أنني أسأله عن ثمن التذكرة " على الرغم من معرفتي المسبقة بأن الدخول مجاني" وما هي إلا لحظات حتى وجدت الباب يفتح والحراس ينادون " خمسة عشر واحدا فقط" ثم وجدتني أدخل من بوابة التفتيش، ورأيت الحارس يطلب مني حقيبتي ليفتشها ، ثم وجدتني بداخل مبني البوندستاج (البرلمان الألماني). ياالله لقد نجحت التجربة المصرية، وهاأنذا أمام المصعد الكهربائي الضخم الذي سيصعد بنا إلى القبة الزجاجية. لم أصدق نفسي ولم أكن راضيا كذلك عما فعلت!!
وقفت أمام القبة مذهولا، مدهوشا، متعجبا، ومستغربا ولسان حالي يقول " اللهم صلي ع النبي إيه العظمة دي يا برلين" ثم ذهلت ودهشت وتعجبت واستعربت أكثر عندما علمت أنني يمكنني أن أصعد داخل القبة الزجاجية وأصل إلي ما يقرب من نهايتها؛ ففيها ممران مرتفعان أحدهما للصعود والآخر للنزول ويبلغ طول كل مهما 230 مترا ويؤديان إلي ساحة المشاهدة الموجودة أسفل نهاية القبة بسبعة أمتار. وعذرا فليست لدي القدرة على البلاغية على  وصف ما رأيتة من منظر رائع للعاصمة !
تبدو لك القبة للوهلة الأولي وكأنها ليست لها علاقة بمبني الرايخ القديم، الذي يرجع تاريخ بناؤة إلي أكثر من مائة عام، ولكن عندما تكون بداخلها تلاحظ أن عملية الربط بين القبة والمبني القديم قد تمت بحرفية عالية وهذا ما نجح فية المهندس العبقري " نورمان فوستر" فقد حاول من خلال هذه القبة أن يربط بين فنون المعمار في نهاية القرن التاسع عشر وفنون المعمار في القرن العشرين.
 ولا تتعجب ولا تندهش ولا تستغرب إذا ما علمت أن مساحة الألواح الزجاجية المستخدمة في هذه القبة قد بلغت حوالي 3000 متر مربع وهو ما يعادل نصف مسحة ملعب لكرة القدم. وأنك بإمكانك رؤية صورتك بطريقة كاريكاتورية لأكثر من 360 مرة من خلال المرايا الزجاجية التي تتخطي هذا العدد.
علمت بعد ذلك أن قبة مبني البرلمان الألماني تعتبر واحدة من أكبر أماكن الجذبب السياحي في برلين، فأكثر من ثلاثة ملايين زائر يقومون بزيارتها سنويا وطبعا كلهم يحترمون أنفسهم ويقفون في الطابور!!
أردت البقاء لأطول فترة ممكنة ولكني تذكرت أن فريدريش ينتظرني عند مدخل البوندستاج لذا اضطررت لأن أعود من حيث أتيت.
خرجت من باب الخروج وذهبت حيث النقطة التي تواعدنا أن نلتقي فيها، ولكني لم أجده، انتظرته قليلا فلم يأتي، قمت وبحثت عنه ولم اجده، أين ذهبت يا فريدريش؟!

ونلتقي غدا
محمد شحاتة

الثلاثاء، يوليو 24، 2012

من يومياتي في ألمانيا ( برلين 5)


التقط لي فريدرش صورا عديدة حرصت على أن تكون خلفيتها هي بوابة براندنبورج ولم أكن وحدي الذي آثر أن تلتقط له الصور بجوار هذه البوابة؛ فقد كانت هناك مجموعات يابانية وأخرى كورية، قد أداروا ظهورهم للبوابة كي تلتقط لهم الصور ملوحين بأصابعهم السبابة والوسطي.

واصلنا السير حتى وجدنا أنفسنا في ميدان كبير، سألت فريديريش ما هذا؟ فقال لي إنه ميدان ألكسندر. قلت له وهل جاء الإسكندر المقدوني إلى ألمانيا؟ قال لي لا لا، ليس نسبة إلى الإسكندر الأكبر ولكنه نسبة إلى القيصر الروسي ألكسندر الأول الذي زار برلين سنه 1805 فأطلق ملك برلين اسمه على هذا الميدان تكريما لزيارته. وميدان ألكسندر (بالألمانية:Alexanderplatz) هو ميدان كبير في وسط العاصمة الألمانية، وهو واحد من أهم المناطق التجارية وبه عدد من المطاعم والمباني الحديثة التى تعكس التطور الكبير لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
من هذا الميدان يمكنك رؤية كاتدرائية كبيرة وضخمة قد تهدم جزء كبير من برجها، وقد بني بجوارها مبني ضخم من التراز الحديث، ولما سألت صديقي فريدرش عنها قال إنها كنيسة القيصر فويلهلم البروتستانتية والتذكارية والتي هي بمثابة رمزا للسلام والتصالح. وهي أيضا تجسد رغبة سكان برلين في إعادة بناء المدينة خلال فترة ما بعد الحرب.
واصل فريدريش حديثة عن كنيسة القيصر فويلهلم بقوله: لقد تم بناء الكنيسة الرومانية الجديدة التي تأسست بغرض تفخيم أول إمبراطور يوناني في الفترة ما بين 1891 على1895 وصممها فرانز شويشتن. وبعد تدمير الكنيسة في غارة تفجيرية عام 1943 وكذلك في عام 1956 ، كان هناك اتجاه لإزالة بقايا الكنيسة التي قامت كشاهد على فظائع الحرب حتى تفسح المجال لتشييد بناء جديد، إلا أن سكان برلين قد احتجوا بشدة على هذا الأمر، وأرادوا ضم بقايا الكنيسة مع البناء الجديد.

وبالفعل فقد استجاب المسئولون وتم تشييد البناء الحديث في الفترة ما بين 1959و1961 وصممه إيجون أيرمان. وتتكون الكنيسة من عدة طوابق تشبه في شكلها قرص عسل النحل بالإضافة إلى الواجهة الزجاجية. وهنا جذبني فريدرش من يدي وقال: لو مررت من هنا في المساء فستسحرك إضاءتها الزرقاوية. قلت له بالتأكيد سأحاول المرور من هنا في المساء.

لا أدري لماذا تذكرت قول المولى عز وجل على لسان بلقيس: «إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ».

جلسنا على شاطئ نهر شبريه ووقعت في يدي ورقة صغيرة بها معلومات عن أهم ما يميز مدينة برلين وسأذكر منها ما يلي:

•تبلغ مساحة برلين 892كيلومتر مربع، وهي تعادل مساحة العاصمة الفرنسية تسع مرات.


•تغلبت برلين على مدينة فينس بجسورها التي يبلغ عددها حوالي 1,700 جسرا.


•برج التلفزيون في برلين هو أطول مبنى في ألمانيا وفي أوروبا ويصل إلى 368 متر.


•ستة من أبرز رؤساء الولايات المتحدة قد ألقوا خطابات تاريخية في برلين منذ الحرب, ومن أبرز الخطابات: "أنا برليني" لجون كينيدي عام 1963 ورونالد ريغان عام1987يخاطب الرئيس السوفيتى "اهدم هذا الحائط سيد غورباتشوف " Mr Gorbachev – tear this wall down!"


•أول مجموعة اشارات للمرور أنشأت في شارع بوتسدام بلاتس في عام 1924 ولا تزال تثير الإعجاب حتى الآن.


•أصبحت برلين أول وأكبر مركز للسكك الحديدية في التاريخ بعد إنشاء المحطة المركزية الجديدة. "


•برلين هي من أكثر المدن المتعددة الثقافات حيث أن حاملين الجوازات الأجنبية هم أكثر من470,000 نسمة من 3.4مليون نسمة مواطنة. ويوجد مقيمين منذ فترات طويلة من أكثر من184 دولة.


• تأثرت لهجة برلين بالمسيحيون الفرنسيون في القرن السابع عشر فتبنت الكثير من الكلمات من الأصل الفرنسي مثل: "Budike" (حانة أو دكان)، "Boulette" (اللحم)، "ملفوفة" (شرائح اللحم الملفوفة) و"Destille" (حانة). كما أنها تأثرت بالعبرية أيضا عن طريق اليديشية وأخذت منها بعض التعبيرات مثل: "Ganove" المحتال و"Macke"الهوس.


•برلين تضم أربع جامعات، وأربع مدارس فنون، وعشرة كليات تقنية، وما يقارب 134,000 طالب من جميع أنحاء العالم، وحوالي 130 مرافق بحثية مما جعلها أكبر مدينة جامعية في ألمانيا. ثم إن فيها أكثر من 180 كيلومتر من الإنفاق المائية داخل حدود برلين مما يجعل اكتشافها أجمل عن طريق القوارب.


الحق يقال أنني لم أكن أعرف عن برلين سوى أنها عاصمة لدولة ألمانيا، ولما قررت السفر إليها بدأت تتكشف لي رويدا رويدا، وبعد قراءة هذه الورقة وما بها من حقائق عن برلين، أخذت تدب في جسدي قشعريرة، ثم أحسست بنشاط كبير على الرغم من أني لم أتناول أي فطور حتى هذ اللحظة، اللهم إلا قدحا من القهوة وأحسست أنني أود أن أرى برلين بأكملها قبل أن يحل المساء.

قلت لصاحبي هيا بنا فلا مجال للجلوس فقال: مهلا مهلا، فلن تستطيع أن ترى كل شئ في يوم واحد. فقلت له: "ما لا يدرك كله لا يترك كله"، وانطلقنا.
وغدا نلتقي
محمد شحاتة


الأحد، يوليو 22، 2012

من يومياتي في ألمانيا (برلين 4)

ركبنا الترام متجهين صوب المدينة ، وما هي إلا خمس محطات حتى وصلنا إلى المحطة الرئيسية، فنزلنا ثم ركبنا المترو بنفس التذكرة. وفي المترو سألني فريدريش: أي الأماكن تريد أن نزور؟ قلت له : بالطبع أود زيارة بوابة برلين "براندنبورج"، وجزيرة المتاحف، والبوندستاج وإن كان هناك شيئا آخر فلا أمانع. قال لي ألا تريد أن تزور شارعي؟ قلت له شارعك! قال أجل إنه أشهر شارع في برلين إنه " شارع فريدريش" قلت له أوووه هل أنت من قمت بتصميمه بصفتك مهندس معماري؟! فضحك بصوت عال ثم قال لا لا، أنا أمزح إنها مجرد تشابه أسماء.

نزلنا  في محطة فريدريش، وتجولنا  قليلا في شارع فريدريش، حيث البنايات العالية ذوات الأوجه الزجاجية، والتصميمات الحديثة. ولأن الساعة لم تتخطى التاسعة بعد فما زالت المحلات مغلقة، اللهم إلا قليلا منها بدأت تفتح أبوابها تباعا. جلسنا على أحد المقاهي وطلبنا قهوة ، وبدأ فريدريش يحكي لي عن شارعه حيث قال:-
شارع فردريش (بالألمانية: ‘Friedrichstraße’) هو أحد أشهر وأهم الشوارع في مدينة برلين، ويعود ذلكً إلى الهندسة المعمارية المميزة لهذا الشارع، علاوةً على وجود أرقى الماركات العالمية في عالم الأزياء والموضة، مثل لويس فويتون وجوتشي وغيرها.
يبدأ الشارع من الجهة الشماليةً من منطقة مييته (بالألمانية: Mitte ) وينتهي جنوباً في منطقة كروزبيرج، ونظراً لاتجاهه هذا، يشكل شارع فردريش رابطاً مهماً جداً بين المناطق الغربية والشرقية، ومن الجدير بالذكر أيضاً أن الشارع شهد أحداث تاريخية عدة؛ حيث قسم إلى جزءين بعد إقامة جدار برلين الفاصل عليه، كما أن نقطة التفتيش "شارلي" الشهيرة تقع في هذا الشارع.
قلت له بالطبع هذه البنايات الحديثه دليل على أن هذا الشارع قد تم تدميره فى الحرب العالمية الثانية. فسكت قليلا ثم نظر إلي وقال نعم، فقد تأثر شارع فردريش تأثراً كبيراً بالحرب العالمية الثانية ، وتم إعادة بناءه جزئياً فقط خلال فترة انقسام برلين، حيث تم إعادة بناء الجزء التابع لبرلين الغربية ليصبح منطقة سكنية هادئة، أما الجزء التابع لبرلين الشرقية فقد شهد عمليات توسعة للشارع ليصبح عدد حاراته أربعاً.، بالاضافة إلى بناء عدد من الفنادق فيه. الا أن التطور الحقيقي في الشارع لم يحدث فعلياً الا بعد اتحاد شطري ألمانيا في عام 1990؛ فقد تمت عمليات تطوير شاملة في التسعيينيات في هذا الشارع شارك فيها مهندسون معماريون عالميون مثل جوان نوفيل وفيليب جونسون.
انتهينا من شرب القهوة وانتهى فريدرش "مرشدي السياحي" من شرحه لشارع فريدريش، فقمنا بعد أن دفعت أنا الحساب إكراما لصديقي وشكرا بسيطا له على ما قدمه لي بالأمس واليوم. بدأنا نتجول في الشارع فاستطرد صديقي في الحديث قائلا: تعرف يا محمد لو معاك مليون جنية ممكن تخلصه في نصف ساعة تسوق هنا في شارع فريدريش لأن منطقة التسوق الخاصة به تعتبر من أغنى وأغلى  المناطق المليئة بالمحلات ودور الأزياء الشهيرة، والتي قد تم تقسيمها إلى ثلاث مناطق مختلفة، وشارك في بناء هذه المناطق الثلاث أحد أشهر المعماريين، وأبرز الأمثلة على ذلك هو محل جاليري لافاييت المبني بالكامل من الزجاج غريب الشكل، والذي صممه المهندس المعماري الشهير جون نوفيل، بالإضافة إلى الكثير من الماركات العالمية الأخرى. كما يعتبر سوق الميلاد (بالانجليزية: "Christmas Market") أحد أكثر الأسواق الموسمية شهرةً في برلين.
قلت لصديقي يبدوا أنك مرشد سياحي رائع فلماذا لا تمتهن هذه المهنة؟ قال لي أنا لا أعرف من اللغات سوى الألمانية فكيف لي أن أشرح للأجانب؟ قلت له عندك حق لقد أفحمتني، ثم واصلنا السير باتجاة أشهر بوابة في ألمانيا والعالم، إنها بوابة برلين أو بوابة " براندنبورج" 
بوابة براندنبورج (بالألمانية: Brandenburger Tor) وهي رمز مدينة برلين والبوابة تحمل اسم ولاية براندنبورج التي تحيط بولاية برلين وتقع في ساحة باريسر، بدأ بنائها عام 1788 وانتهى من بنائها عام 1791 ولقد تحطم جزء منها في الحرب العالمية الثانية ثم أعيد بناء الجزء المحطم مرة أخرى. وفي حين أنها هي البوابة الوحيدة المتبقية من مدينة برلين  فقد كانت تمثل فيما سبق الانقسام في المدينة إلى شرق وغرب برلين، ومنذ سقوط جدار برلين في عام 1989 فقد  أصبحت بوابة براندنبورج رمزا من رموز الوحدة الألمانية. وبالإضافة إلى ذلك، فهذه البوابة مصنوعة من الحجر الرملي وهي واحدة من أروع الأمثلة للكلاسيكية الألمانية. وقد بنيت بوابة براندنبورج وفقا لخطط كارل جوتهارد لونغانز بدءا من عام 1788 وحتى عام 1791، وذلك على غرار البروبيلي لـ أكروبوليس أثينا.  وتشتمل البوابة على  ستة أعمدة دوريسية تدعم عارضة شعاعية يصل عمقها إلى حوالي 11 متراً،  وفي عام  1793، تم وضع تمثال الكوادريجا (عربة تجرها أربعة خيول) والذي قام بتصميمه يوهان غوتفريد شادو على البوابة، حيث يشير إلى الشرق في اتجاه وسط المدينة.
التقط لي فريدرش صورا عديدة حرصت على أن تكون خلفيتها هي بوابة براندنبورج ولم أكن وحدي الذي آثر أن تلتقط له الصور بجوار هذه البوابة؛ فقد كانت هناك مجموعات يابانية وأخرى كورية، قد أداروا ظهورهم للبوابة كي تلتقط لهم الصور ملوحين بأصابعهم السبابة والوسطي.

ونلتقي غدا
محمد شحاتة

من يومياتي في ألمانيا ( برلين 3)


حشيش؟!! لا أدري بأي صيغة أو نبرة خرجت مني تلك الكلمة ولكن بلا أدنى شك فلم تخل من كونها استفهامية، أو ستنكارية، أو استخبارية ،أو ربما كانت بهم مجتمعين. أجابني: بنعم ،هو حشيش! قلت له أعلم أنه ممنوع هنا في ألمانيا ومن يدخنه يعاقب أليس كذلك؟ قال نعم، ولكنه القانون الغبي ! قلت غبي ؟! قال نعم، ثم أراد أن يكمل حديثه فقاطعته بسؤالي : ولكن كيف لك أن تدخن هذا الحشيش وهو أخضر ؟ فابتسم الرجل ابتسامة أعرض من تلك التي جائني بها وهو يحمل الحشيش ثم قال: إن خمس دقائق في البوتاجاز كفيلة أن تجعله هشيما يا صديقي . قلت له والله!!  إذا فدخن على بركة الله !


انتابني شعور بالقلق ممزوج بتعب سفر يوم كامل، وحيرة في اتخاذ أي قرار قد يؤدي إلى عودتي للشارع..... مضطر ، مجبر، لا بديل، لا حل ،أمري إلى الله، كلمات قلتها في نفسي ، ثم استأذنته لأدخل الحمام كي أتوضأ وأصلي .


في الحمام وقفت أمام المرآة الصغيرة أنظر لنفسي معاتبا إياها " إيه اللي أنا عملته في نفسي ده؟ إفرض الراجل دا يعني !! ولا يعني !!! ولا يعني!! استرها يارب . توضأت ثم خرجت فسألته عن جهة القبلة، فقال: أي قبلة؟ وهنا انتبهت فورا " إيه السؤال الغبي دا ؟ يعني الرجل بيحشش ومش مسلم وعايش في ألمانيا وأسأله عن القبلة؟؟!"


قلت له عفوا فأين يقع الشمال وأين يكون الجنوب؟ نهض الرجل واقفا ثم بدأ يفكر بصوت مرتفع .. من هنا تخرج الشمس ومن هنا تغرب، إذا من هنا الشروق ومن هنا الغروب وهذا هو الشمال وهذا هو الجنوب. قلت له: تمام، كدا زي الفل، ثم وجهت وجهي شطر الجنوب الشرقي وبهكذا اجتهدت.


 انتهيت من صلاتي فوجدته انتهي  هو أيضا من لف سجائر الحشيش، ثم بدأ يستعد لتدخينها . سألته أين سميكنني أن أنام؟ أشار إلى الكنبة الموجودة بجوار المنضدة  ثم قال هنا يمكنك أن تنام، وانتطر قليلا سأحضر لك غطاءا تتلحف به. أحضر الرجل غطائين ثم قال لي : يبدو لي أنك قلق مني! قلت له لا أبدا ، فأنا لست قلقا، أنا مرعوووووووووووووووووووووووب.


 قال لي فريدريش محاولا تهدئتي، لا تقلق يا محمد سأترك لك الصالة ،وسأدخل غرفتي وأغلق على بابها ، وعندئذ لن تشتم أية رائحة حشيشية. شكرته على كرمه وعلى استضافته، واستأذنته في منبة يوقظني " دا لو نمت أساسا" أحضر الرجل منبها صغيرا فضبطه على السابعة صباحا،  ثم اندفست تحت الغطاء، وماهي إلا ثوان معدودات حتى تذكرت محفظتي وجواز سفري اللذان كانا في حقيبة ظهري، فقمت من فوري وأخذتهما ثم وضعتهما تحت الوسادة ثم تذكرت " وهل يمنع حذر من قدر"


الجمعة 5 سبتمبر 2003


أفزغني صوت المنبة، فقمت من فوري وأدرت بصري في المكان فلم أجد شيئا غريبا، ووجدت الرجل نائما في الغرفة ذات الباب الزجاجي العريض، وكان عاريا وبدون غطاء. حمدت الله على سلامتي، ثم ذهبت إلى الحمام، فتوضأت وصليت الصبح، ثم غيرت ملابس وحملت حقيبتي ، ثم قرعت باب غرفته، فقام ولبس ملابسه الداخلية، ثم فتح لي الباب سائلا: كم الساعة؟ قلت له إنها السابعة والنصف. ولتأذن لي بالانصراف لأن أمامي يوما شاقا في برلين. سكت الرجل  لبرهة ثم قال: لا لن أتركك تذهب وحدك. انتظر وسآتي معك!


انتظرته حتى فرغ من حمامه، ومن ملبسه. وبدا لي أنه رجل في الأربعينات أو الخمسينات لم أسأله عن عمره، كل ما عرفته عنه هو أن لديه ولد وبنت، وأنه مطلق ويعيش بمفرده في هذه الشقة التي هي ليست ملكا له بل هي بالإيجار، وأنه يعمل كمهندس معماري بالقطعة . " يعني على باب الله"


خرجنا من الشقة وأصر أن يأخذني إلى الحديقة الخلفية؛ كي يريني شجرة الحشيش. ذهبت معه ولما رأيتها ابتسمت وتذكرت ما حدث بالأمس، ثم طبلت منه أن يقف بجوارها، والتقطت له صورة معها.


خرجنا للشارع الرئيسي با تجاه محطة القطار، وبدأت أتأمل المكان مرددا سبحان الله، وصدق الله حينما قال " وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا" سبحانك يا ربي! بالأمس مررت من هنا ولم أرى إلا بصيصا من جمال خلقك، واليوم يبدو لي الجمال الحقيقي سبحانك ياربي!

إنها مجموعة من الفيلات ملفوفه بحدائق تكسوها خضرة يتقطر من أشجارها ندي الصباح، وتسمع زقزقة العصافير ، وتغريد الطيور ، وتشم رائحة الوردود، ثم تستمتع بهواء منعش لا مثيل له، وعندئذ لا تجد ما تقوله بعد سبحان الله سوى بيت شعر مات قائله من مئات السنين:-


إلهي شاقني هذا الوجود*** فذي الدنيا فما بال الخلود


 انتبهت من تاملاتي وهيامي بهذه الطبيعة، والجمال، والتنظيم، والنظافة، والتنسيق، على يدي صاحبي وهي تجذبني بشدة، بعد أن كنت سأعبر الطريق وإشارة المرور لا تزال حمراء. وقفنا سويا حتى اخضرت الإشارة ثم قال لي:- تعالى سأريك شيئا أجمل وأروع ! قلت له أكثر من هذا؟  أخذني إلى شاطئ بحيرة صغيرة تسبح فيها عشرات من البجع الأبيض وعشرات من البط الأسود. وتطير فوقها مئات من العصافير والطيور مختلفة الألوان والأشكال والأحجام.......... نعم يا له من منظر رائع.

 مشينا قليلا على الرمال الصفراء، وأمواج البحيرة بين مد وجزر ، وجاذبية مياهها تداعبنا وتريدنا أن نبقى ولا نرحل،، ولكنه الوقت يا عزيزتي..

محطة الترام، والساعة الثامنة ، وانتظار الناس قدوم القطار، والنوم قد ملئ جفونهم وكأنهم استيقظوا رعما عنهم، وأنى لهم أن يستقظوا من هذا الجمال! مشهد يحتاج إلى كثير من تأمل.

 اشترينا تذكرتين من ماكينة لبيع التذاكر، فقط رمى صاحبي فيها بخمسة يوروهات فخرجت لنا التذكرتين مكتوب على كل واحدة منها" التذكرة صالحة لمدة ساعتين ونصف من الآن، ولجميع القطارات ما عدا السريعة منها". معنى هذا أنه يمكننا أن نذهب إلى أي مكان في برلين بأي وسيلة نقل عامة مثل  الترام والمترو والأتوبيس " فقط لمدة ساعتين من الآن"

ونلتقي غدا

محمد شحاتة






 

السبت، يوليو 21، 2012

يومياتي في ألمانيا (برلين2)


  التفت حولي فوجدت كابينة تليفون في الشارع  وبدون أن أشعر وجدتني بداخلها وأخرجت رقم هاتفه ثم رميت باليورو داخل التليفون  واتصلت فلم يرد أحد ، نزل اليورو من جهاز التليفون الحديدي الكبير فأخذته وأعدته مرة أخرى واتصلت فلم يرد أحد فازداد الشك وازداد القلق. أعدت المحاولة للمرة الثالثة فسمعت صوته فعادت إلى روحي.  قال لي  أين أنت يا محمد؟ فقلت له أنا بجوار ماكدونالدز، وأين أنت؟ قال: وأنا أيضا بجوار ماكدونالدز. فقلت له إذا ثوان وسأكون عندك. وضعت السماعة وبدأت أبحث عنه يمنا وشمالا فلم أجد أحدا. سألت أحد المارة ألا يوجد ماكدونالدز آخر هنا؟  فقال لي لايوجد هنا ماكدونالدز هذه مجرد لوحة للإعلان عن ماكدونالدز. ماكدونالدز يبعد عن هنا حوالي 500 متر ياعزيزي ......


لا أدري ماذا خرج وقتها من سباب لغبائي ولا من توبيخ لذاتي، ووجدتني ألهث بحقيبتي الثقيلة، ويتصبب عرقي، وتعلوا ضربات قلبي حتى كاد أن يسمعها الآخرون.. وبعد مسافة ليست بالقصيرة بدأت أنوار ماكدونالدز تظهر لي بوضوح، وأدركت أني قد وصلت إلى الهدف فتوقفت عن الجري  وبدأت ضربات قلبي  تعلوا أكثر فأكثر وبدأت أسمع أنفاسي وأخذت أجفف من عرقي ..
رأيت من بعيد رجلا يلوح إلي بيديه معلنا عن نفسة وكان يقف بجوار سيارة فخمة من نوع مرسيديس الشهيرة ، فقلت لنفسي " أكيد مش بيشاورلي " تلفت حولى فلم أرى غيري فعلمت أن التلويح كان لي، فرفعت يدي ملوحا له وأسرعت الخطى..
اعتذرت للرجل عن التأخير وأخبرته بأنني وقفت في المكان الخطأ.  فقال لي لا عليك وسألني عما إن كنت أود ان أشتري شيئا قبل أن ننطلق فقلت له لا فلقد جهزت كل شئ.


جلست في الخلف بجوار فتاة في العشرينات وجلس بجوار السائق "عفوا صاحب السيارة المرسيدس" رجلا  في الخمسينيات من العمر وبدأ الإثنان في تبادل أطراف الحديث، وتحدثت مع الفتاة. ولما علمت الفتاة  بأنني مصري أخرجت لي رواية مترجمة للألمانية تحت عنوان " أولاد حارتنا " فقلت لها أوووه نجيب محفوظ .. وأخبرتها بأن هذه الرواية ممنوعة في مصر!!!
بعد قليل أو كثير من الحديث المتبادل بيني وبينها سادت فترة من الصمت فأخذت أقول لنفسي لماذا تمنع رواية مثل هذه الرواية التى حصل صاحبها على جائزة نوبل وترجمت إلى عدة لغات عالمية؟ لماذا يحرمونا من مطالعة أفكار أبناء بلدنا؟ حتى ولو كان بها ما هو ممنوع وماهو محتمل  أن يحمل شرا أو يحمل فكرا شاذا أو جديدا، ألم يسمعوا قول الشاعر:-
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقية    ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه

المسافة من جوتنجن إلى برلين حوالي 450 كيلوا متر. قطعناها في حوالى أربع ساعات ونصف. تخللتها استراحة واحدة في منتصف الطريق دخلت فيها الحمام، ولفت نظري شيئ عجيب ومثير ولا يمكنني أن أتركه دون أن أذكره: فأمام باب الحمام جلس رجل وأمامه منضدة صغيرة طلب مني خمسين سنتا ثمن دخول الحمام، فدفعتها له مضطرا، ولما فتحت باب الحمام رأيت غطا القاعدة ينزل رويدا رويدا وقد غطاه منديل ورقي أبيض اللون، فجلست وقضيت حاجتي وأنا مزوهل مما حدث محاولا إيجاد تفسيرا لذلك. ولما انتهيت من أمري وهممت بالخروج ارتفع غطا القاعدة بهدوء، ونزل الماء، ووجدتني أصيح " ولا سحر ولا شعوذه دي ألمانيا يا هندسة ".  وتذكرت ما حدث في الصيدلية عندما ذهبت لشراء قطرة لعيني وبعد أن أعطيت الطبيبة الروشتة وأخذتها منى وضعتها على اسكانر فوجدت علبة القطرة تنزل وحدها من اسطوانه معلقة في السقف! وساعتها وقفت مذهولا مدهوشا . ثم عرفت بعدها أن الأمر بسيط فقد قامت الطبيبة بتصوير الروشتة من خلال الاسكانر فرآها الموظف في الطابق الثاني وأحضر ما فيها ورماها في الاسطوانه فأخذتها الطبيبة وأعطتها لي..

وصلنا برلين قبل منتصف الليل بقليل وما استمتعت بمناظر الطريق الطبيعية بعد؛  فدخول الليل وحلول  الظلام حالا بيني وبين رؤية جمال الطبيعة على جانبي الطريق ولذلك استسلمت للنوم.


انتبهت من نومتى على صوت السائق "صاحب السيارة" سائلا إياي "في أي الأماكن تريد أن أتوقف لك؟" قلت له بجوار أي مسجد. فلمحته ينظر إلى في المرآة باستغراب ثم قال: مسجد؟! ثم سكت برهة وأكمل بقوله ولكني لا أعرف مساجدا هنا ، أليس معك عنوان محدد؟ عندئذ أخرجت من حقيبتي الورقة التى دونت عليها أسماء المساجد وعناوينها ثم ذكرتها له فقال للأسف كلهم بعيدون عن طريقي وما يمكنني فعله لك هو أن أوصلك إلى أقرب محطة مترو، فوافقت مضطرا وناولته خمسة عشر يورو ثمنا لهذه التوصيلة وهو ثمن أقل ما يوصف به أنه ثمن زهيد مقارنة بثمن تذكرة القطار أو ثمن تذكرة الأتوبيس وأما من حيث السرعة والراحة فلا توجد مقارنة.


نزلنا جميعا أمام محطة المترو، ودعنا الرجل، ووقفت لبرهة أفكر ماذا أصنع. قالت لي الفتاة انتظر فمعي خريطة لمدينة برلين وسأحاول تحديد الأماكن التى تقع فيها المساجد التي معك عناوينها، وبدأت تظلل على الخريطة، ثم أعطتها لي كهدية وانصرفت.  نزلت سلالم المترو مع الرجل الذي كان يجلس بجوار صاحب السيارة والذي بدأ يحدق النظر في وجهي  ثم سألى: هل حقا ليس لديك سكن هنا في برلين؟ قلت له لا ليس لدي سكن، وهذه هي أول مرة لي هنا. فسكت قليلا ثم قال: ما رأيك لو أتيت معي الليلة لتبيت عندي؟ وافقته على الفور دون أن أسألة أيه أسئلة من قبيل" ما ،وماذا، ولماذا، وكيف، ولعل، ولربما ولظن" فلقد كان همي الأوحد هو أن أبيت والسلام.
ركبنا سويا مترو الأنفاق متجهين للحي الذي يسكن فيه والذي يسمي "جروناو" Gruenau  وظللت أشكر الرجل حتى مرت الثلاث محطات وحتى خروجنا من المترو، بعدها ركبنا الترام الذي يسير فوق الأرض، ولأن الوقت كان متأخرا فلم يكن من أحد سوانا في العربة التي هي واحدة من ثلاث عربات هي كل القطار. ولقد لفت نظري أن السائق يعرف إذا ما كان هناك من أحد يريد أن ينزل من العربة أم لا دون أن يقول له أحد ودون أن يسأل هو أحد ، على عكس ما نفعل هنا في مصر في الميكروباصات وحتى الأتوبيسات "على جنب يا اسطي أو فيه حد نازل؟ ".  و تبين لي بعد ذلك أن من يريد النزول في محطة ما عليه فقط أن يضغط على زر بجوار الباب فينتبه السائق أن هناك من يرغب في النزول فيتوقف له.
وجاءت محطة نزولنا، فنزلنا. أخبرني "فريدريش" أننا لن نذهب مباشرة إلى شقته والتى تبعد محطتين عن هذه المحطة، وذلك لأنه ترك مفتاح الشقة عند صديق له وعلينا أن نذهب لإحضاره.
كانت إضاءة الشوارع ضعيفة جدا ولذلك لم أستطع التمييز في أي الأماكن كنا نسير. لا أحد يسر معنا ولم نقابل أحدا . المنطقة أشبه ما تكون بمنطقة فيلات أو مساكن لكبار السن. دخلنا من مدخل المنزل ثم انحرفنا يمنا في ممر طويل ثم صعدنا بعد ذلك إلى الطابق الثالث. كان الرجل في انتظارنا رجل طويل ووسيم تشبة وسامته النجم المصري العالمي عمر الشريف. رحب بنا الرجل بكلمات مقتضبة ثم دخل غرفة بها ثلاث كراس موضوعة حول منضدة صغيرة قصيرة موضوع عليها شمعة وحيدة مهمتها إضاءة الغرفة بأكملها. بالكاد كنا نرى بعضنا البعض. أحضر الرجل زجاجة من البيرة أو الخمر لا أدري، ثم عرض علي فرفضت وشكرته، وعرض على فريدريش كأسا فقبله. ولم يمض وقت يذكر حتى هممنا بالإنصراف معللين ذلك بتعب السفر وخوفا من أن يفوتنا آخر ترام
عدنا من حيث أتينا وانتظرنا قليلا حتى جاء الترام فركبناه، وما هي إلا محطتين حتى نزلنا. ترجلنا بعدها حوالي عشرة دقائق في منطقة كلها فيلات، وأمام كل فلة حديقة صغيرة وإضاءة خافته. وصلنا إلى منزله والذي هو عبارة عن دور أرضي في بيت من طابقين. أثاث الشقة بسيط للغاية، ففي الصالة يوجد منضدة وحولها مجموعة من الكراسي ،وبجوارها كنبة صغيرة. وفي زاوية الشقة يقع الحمام، وبجوارة غرفة أظنها غرفة نوم ، ويوجد بجوارها غرفة أخرى بابها زجاجي عريض مكون من أربعة ضلف ويسهل على من  بالخارج أن يرى من بالداخل 

ما أن وضعت حقيبتي حتى استأذن فريدريش أن يذهب إلى الحديقة ليحضر شئيا على وجه السرعة أذنت له، وما هي إلا دقيقتين حتى عاد حاملا في يديه نباتا أخضرا ولا حظت على جهه اتسامة عريضة. سألنى هل تعرف هذا النبات؟ أخذته منه وشممته ثم رددته إليه قائلا: لا ، لا أعرفه. فقال لي هذا هو نبات الحشيش.

وغدا نلتقي
محمد شحاتة 

الجمعة، يوليو 20، 2012

من يومياتي في ألمانيا (برلين1)


الأربعاء 3 سبتمبر 2003

....... مضي شهر كامل على بقائي في جوتنجن ولم أعلم مطلقا بأن مكتبة الجامعة تظل مفتوحة الأبواب حتى الثانية عشرة ليلا.. أه لو كنت أعلم ذلك لما تسكعت في الطرقات، ولما ارتميت على المقاهي، ولما تجولت بالدراجة حتى تورمت مؤخرتي واشتدت على عضلات ساقي، ولما اضطررت أن أتوقف مئات المرات أمام إشارات المرور حتى يسمح لى  ضوئها  الأخضر بالمرور... أه لو كنت أعلم ذلك لكنت معتكفا في هذه المكتبة حتى آخر دقيقة، ففيها الانترنت مجانا، والكتب بالآلاف، والهدوء هو السائد والمسود.

 الليلة فقط علمت أن المكتبة مفتوحة حتى منتصف الليل، والسبب هو صديقي جوتس، فعندما سألني متى سأسافر إلى باريس كانت إجابتي " يبدوا أنني لن أسافر إليها هذه المرة يا صديقي، فالوقت ضيق وأرى أنه من الأفضل لى أن أزور برلين؛ فليس من المنطقي أن أكون في ألمانيا ولا أزور عاصمتها "شكلي ها يكون إيه قدام الناس في البلد لما يسألوني عن برلين" وهنا أشار على جوتس بقولة: إذا فلنذهب إلى لوحة الإعلانات في الجامعة فلربما نجد إعلانا عن أحد ما سيسافر بسيارته إلى برلين. فالسفر بالقطار مرتفع التكلفة والسفر مع الأشخاص أرخص بكثير. وافقته وذهبنا إلى تلك اللوحة التى تقف بين لوحتين كبيرتين كلهم مليئون بقصاصات من الورق مدون عليها إعلانات مختلفة،  فهذا يعلن عن حاجته لشقة، والأخر يعلن عن  أن لديه غرفة يريد تأجيرها لمدة معينة، وثالث يريد مشاركته في دورة لتعليم لغة ما و و و...  ولم نجد مبتغانا بين هذه القصاصات، لذا اقترح على جوتس أن نذهب سويا إلى المكتبة ونبحث في الإنترنت علنا نجد أناسا ذاهبين إلى برلين بسياراتهم ومستعدون لاصطحاب غيرهم معهم  نظير أجر رمزي .. وهنا تعجبت من قوله وبادرته قائلا " هو فيه كده في النت" وكان جوابه: بالإيجاب.  فقلت له ولكن كيف؟! ألا تعلم أن الوقت متأخر والمكتبة تغلق أبوابها في السادسة ! قال لي ولكنها تفتح في السابعة وتظل مفتوحة حتى منتصف الليل!!

 ذهبنا سويا وقام بفتح صفحة الإنترنت وكتب عنوانا عرفت بعد ذلك أنه:-(www.mitfahrgelegenheit.de ) ثم بدأ بإدخال البيانات المطلوبة مثل من مدينة جوتنجن إلى مدينة برلين ثم التاريخ والوقت و و و... وهنا أخرج جوتس من حقيبته ورقة وقلما ثم بدأ يدون عليها أرقام تليفونات الأشخاص المستعدين لاصطحاب أناس معهم، ثم أعطاني إياها وقال: عليك أن تتصل بهم وتستعلم منهم عما إن كان لديهم الاستعداد والأماكن أم لا.
عدت إلى غرفتي ولم يكن في الشقة أحد سواي،  فأخذت التليفون وبدأت في الاتصال بكل الأرقام. وكلما اتصلت بواحد منها أبدى لي صاحب الرقم عذرا مختلفا عن غيره.  فقال لي أحدهم: آسف فالمقاعد كلها قد حجزت. وقال لي الآخر: عفوا فلن أسافر غدا. ووجدت تليفون الثالث مغلقا. ولم يتبقى أمامي  سوى رقم واحد فهل سيصيب ؟
 اتصلت بالرجل وأجاب بالإيجاب وتواعدنا أن نلتقي في الغد أمام مطعم ماكدونالدز الذي يقع عى أطراف المدينة ....


الخميس 4 سبتمبر 2003

بدأت يومي بالذهاب إلى مكتبة الجامعة وقضيت معظم الوقت أمام الكمبيوتر أتفحص المواقع الإخبارية العربية منها والأجنيبة وكذلك بريدي الإلكتروني ، ثم جائتني فكرة البحث عن مواقع المساجد في برلين فلربما ترميني الأقدار للمبيت في إحداها أو على الأقل لو ضاقت بي الدنيا سألجأ إليها ... جمعت عددا لا بأس به من عناوين المساجد والأماكن التى يمكنني زيارتها في برلين ثم وجدت أن الساعة قد أقتربت على الواحدة ظهرا فقررت الذهاب إلى المسجد لأداء صلاة الظهر فربما تكون  هذه  هي الصلاة الأخيرة لي هنا؛ فما سأقوم به اليوم هو مغامرة غير مضمونة النتائج ..
صليت الظهر في المسجد ثم ذهبت إلى ( Lidel) وهو سوبر ماركت كبير ومشهور في ألمانيا وهناك اشتريت بعض الأشياء التي سوف أحتاجها في سفري من عصائر وأكل وفاكهة وغير ذلك، ثم عدت إلى البيت فاتصلت بالرجل الذي سأسافر معه اليوم كي أتأكد من أن الأمور تسير على ما يرام وبما أن الاتصالات مجانية فلم أجد أمامي عائقا من أتصل بأستاذي الدكتور " توفيق برج" وأخبره بأنني مسافر الليلة إلى برلين. اتصلت به فأصر على أن أذهب إلي زيارته في هامبورج بعد أن أنتهي من زيارة برلين. والحق يقال أنني لم أرغب في الذهاب إلى هامبورج مرة ثانية فقد كنت أفضل أن أذهب إلى أي مدينة أخري " هانوفر" على سبيل المثال. ولم يكن لي أن أعصي أمرا لأستاذي فقبلت الدعوة.
الوقت يمر بطيئا فما يزال أمامي أكثر من ثلاث ساعات على الموعد المحدد، لذا قررت أن أعود إلى المكتبة. وهناك تحدثت في الشات مع  زميلة الكورس " أوولا" البولندية وكانت قد عادت إلى بلدها، ولما أخبرتها بأنني مسافر إلى برلين قالت لي لا تنسى أن تبعث لي بهدية من هناك ....
جاء وقت صلاة العصر فقررت الذهاب للمرة الثانية إلى المسجد لأصلي، ولما وصلت المسجد وجدت المصلين قد انتهوا لتوهم من الصلاة وبدأوا في الخروج من المسجد، إلا أن شابا يمنيا قد جاء متأخرا مثلي فصلينا سويا العصر وجلسنا لبعض الوقت نتحدث. عرفت أنه جاء للدراسة منذ سنتين وباقي له سنة ليعود إلى وطنه، قلت له يا بختك ها تستني هنا كمان سنة، وعلم منى أنني عائد إلى بلدي بعد أقل من أسبوع.

أعددت حقيبة ظهري ثم استودعت الله في حقيبتي الأخرى  وأغراضي، وأخذت الدراجة متجها حيث أطراف المدينة عند مطعم ماكدونالدز. مررت بمحطة القطار والقيت بنظرات الوداع على مشهد أحب أن أتامل فيه كثيرا وهو موقف الدراجات أمام المحطة "مئات الدراجات المركونه أمام المحطة بأشكالها وألوانها المختلفة المرصوصة كل في مكانها " يا له من منظر يأخذ العقل!. ياليتنا في مصر نستخدم هذه الدراجات. وهنا انتبهت واستعذت بالله من الشيطان الرجيم فأنى لنا في مصر أن نكون مثل شارع من شوارع ألمانيا . واستعذت بالله من الشيطان الرجيم للمرة الثانية لكوني أفكر في هذا الأمر ...

اقتربت من المكان المحدد وأردت ان أركن دراجتي في مكان يسهل الرجوع إليه ويكون آمنا من عبث العابثين ومن سرقة السارقين . وجدت موقفا للدراجات أمام أحد السوبرماركات الكبيرة فركنت دراجتي فيه ووقفت أتمتم ببعض من الأدعية من أمثلة "اللهم احفظ لي دراجتي وردها إلي وردني إليها إلخ إلخ.."

سرت على قدمي حاملا على ظهري حقيبتي وباحثا عن مكان ماكدونالدز. سألت أحد المارة عن المكان فأوصاني أن أستمر في طريقي ففي نهايته يقع مطعم ماكدونالدز، وواصلت المسير لمسافة قصيرة فوجدت لافتة كبيرة مكتوب عليها ماكدونالدز، فاستبشرت خيرا، ولما وصلت إليها ظللت واقفا تحتها، وجاءت السابعة ولم يأت أحد ومرت بعدها خمس دقائق ولم يأت أحد، فبدأ القلق يدب في قلبي؛ فما تعودت من الألمان تأخيرا ولم أعتاد منهم عدم انضباط ، ثم ساورتني الشكوك هل سيأتي الرجل أم لا؟ وماذا لو حدث له مكروه من الذي سيخبرني؟! ياليت معي تليفونا محمولا.. لا حل أمامي سوى الانتظار.
  التفت حولي فوجدت كابينة تليفون في الشارع  وبدون أن أشعر وجدتني بداخلها وأخرجت رقم هاتفه ثم رميت باليورو داخل التليفون  واتصلت فلم يرد أحد ، نزل اليورو من جهاز التليفون الحديدي الكبير فأخذته وأعدته مرة أخرى واتصلت فلم يرد أحد فازداد الشك وازداد القلق. أعدت المحاولة للمرة الثالثة فسمعت صوته فعادت إلى روحي.  قال لي  أين أنت يا محمد؟ فقلت له أنا بجوار ماكدونالدز، وأين أنت؟ قال: وأنا أيضا بجوار ماكدونالدز. فقلت له إذا ثوان وسأكون عندك. وضعت السماعة وبدأت أبحث عنه يمنا وشمالا فلم أجد أحدا. سألت أحد المارة ألا يوجد ماكدونالدز آخر هنا؟  فقال لي لايوجد هنا ماكدونالدز هذه مجرد لوحة للإعلان عن ماكدونالدز. ماكدونالدز يبعد عن هنا حوالي 500 متر ياعزيزي ......

وغدا نلتقي..
محمد شحاتة