الأحد، نوفمبر 19، 2017

محرز راشدي يكتب: التّشابه والاختلاف نحو منهاجيّة شموليّة (عرض وتقديم)


المقدّمة:
لعلّه غير خاف على دقيق الملاحظة أنّ الأبحاث العلمية الجادّة هي رشح عن طرح طريف متماسك فارق التّبسيط و التّسطيح. ومثل هذه الأبحاث تختزن قلقًا فكريًّا قمينًا بإخراج البنية الثقافية العربية من عطالتها حتّى تتمثل اللّحظة التاريخية التي تنتمي إليها.
وإذا سلّمنا بأنّ هذا التّخريج عابر للثقافات، فإنّ اهتمامنا سيدور مدار دراسة عربيّة نعتقد أنّها على درجة من الخطورة كبيرة، والرّهان عليها ليس رديفًا للبذخ المعرفي. ونحن إنّما نقصد بذلك كتاب ''التّشابه والاختلاف: نحو منهاجية شمولية'' للدّكتور محمّد مفتاح هذا الباحث الّذي ثُمّنت كتاباته في غير مناسبة، لأنّها تقوم على التّكذيب لا التّصديق، وطرح البدائل، هو شرط واجب الوجود في صياغة النّظريات العلمية.
وإذ نروم متاخمة هذا الكتاب دون سواه، فلأسبابٍ ثلاثة جماعها: طرافة الطرح أوّلا، فاستغلاقه ثانيا، والاعتراف بالآخر ثالثًا.
أمّا السّبب الأوّل فمؤدّاه أنّ دراسة محمّد مفتاح ليست تنويعًا على الموجود بل تحقّق الإضافة لما هو موجود، خاصّة أنّها ربيبة قلق فكري يدّعي الفرادة العلمية، وآية ذلك أنّ ''التشابه والاختلاف'' يتوفّر على أجوبة تبدّد حيرة قراء كتاب '' التلقّي والتّأويل: مقاربة نسقيّة '' لنفس المؤلّف.
ومن ثمّ تتّأتى أهمّية المدوّنة التي عليها نشتغل، إذ هي تكسير للمراتيج، وتبديد للمجاهيل، بأن تصدّى صاحبها للخلفيّات النّظرية فبسطها بذكر المبادئ والمفاهيم، وبيّن القصد من تصنيف العلوم، وترتيبها، وتدريجها. 
وأمّا السّبب الثّاني الذي أغوانا بمزاولة هذا الكتاب، فيتجلّى في محاولة فتح مستغلقاته، خاصّة أنّ هذا المتن جيّش نظريّات مختلفة المشارب، ذات أجهزة مفاهيميّة غريبة عن القارئ العربي، وربّما عصيّة عن الفهم.
وثالث الأسباب مرجعه أنّ اهتمامنا بهذا الكتاب هو فعل انخراطٍ في ثقافة الاختلاف مع الآخر، وعدم السّكوت عنه في آنٍ، وكذا هو فعل تنسيبٍ للحقيقة وهو أمر يغني الفعل النّقدي، ويعبّر عن دينامية السّاحة الفكرية العربية.
وبعامّةٍ كتاب "التّشابه والاختلاف" في رأينا، حريّ بالتّدبر لما احتوى من مفاهيم ومواقف متينة، وأطروحات راوحت بين التّقويض والتّأسيس، تحوم في فلك الظاهرة الثقافية والأدبية في البيئة العربية، خاصّة أنه ينطلق من رؤيا للعالم أشمل في إطار منهاجية شمولية لطرح إشكالية مدارها دفع الأغلوطة الانطولوجية والأغلوطة التّشييدية المتطرّفة.
وسيتّبع عملنا الخطوات التّالية:
- النّظر في المنهج المتّبع في الكتاب.
- ملاحقة أمّهات الأفكار المطروحة.
- المسك بجملة النّتائج الّتي بلغها الباحث.                                               
منهج الكتاب:
يبتدئ محمّد مفتاح كتابه باستهلال ولأنّه على قدرٍ من الأهمّية سنسجّله بحرفيّته:
"اعرف حقائق الأمور بالتّشابه فإنّ الحقّ واحد، ولا تستفزنّك الأسماء وإن اختلفت". (أبو حيان التّوحيدي ، المقابسات ، المقابسة 26)
"التّشابه يسبق الاختلاف" "التّشابه أقدم من الاختلاف" . (غريغوري باستون، الطّبيعة والفكر)
هذا الاستهلال في اعتقادنا ليس عفو خاطرٍ، وإنّما الهدف منه توريط القارئ في القضية المطروحة وقوامها أسبقية التشابه على الاختلاف، ولئن طفا الاختلاف على السّطح فإنّ التّغلغل في البنية العميقة يبين التّشابه ويقرّه. وبالاستناد إلى منهج نقد النّقد، قدّم المؤلّف لكتابه ببسط أسباب التّأليف، لينعطف إلى الحديث عن انتظام الكون لينزع عن عنوان الكتاب "التّشابه والاختلاف: نحو منهاجيّة شموليّة" عباءة الغموض، إذ تعتمد المنهاجيّة الشّموليّة على رؤيا للعالم أشمل، والرّؤيا للعالم هذه تؤكّد أنّ الكون انتظام، وقد اعتمدها القدماء لتحليل الكون إلى مكوّناته، وعناصره، لمعرفة ماهيّتها، ومكانتها، وعلائقها، وأدوارها، ولدرك القوّة المتحكّمة فيه.
ثمّ كانت مرتكز المحدثين للكشف عن البنية العميقة المشتركة، الثّاوية خلف ما في الكون جميعه، وفي هذا المضمار نذكر النظريات السّيميائية، والبيولوجية، والفيزيائية، والفلسفية، والنّسقية.

ولئن راجت مفاهيم كثيرة حول هذه الرّؤيا، فإنّ الكتاب يتصدّى لمفهوميْن رئيسيْن "أحدهما الدّينامية بما تحتويه من تفاعل ونموّ وتنام وفوضى وعماء، وثانيهما الانتظام بما يقتضيه من هيمنة وتراتب واختلاف..." (1) ويذكر أنّ أهمّ نظرية حاولت أن تتبنّى هذه الرّؤيا الشمولية هي النّظرية العامّة للأنساق، إذ حاولت أن تصوغ مبادئ عامّة، صالحة لكلّ الانتظامات، ممّا قلّل التّعارض بين الباحثين، وسهّل الرّبط بين الظواهر والمعارف، والتّوصل إلى تأويلات راجحة.
وفي معرض تحليله لبعض المفاهيم، تصدّى لمفهوم "طبيعة العلاقة" فبسط من خلاله خواصّ العلائق ودرجاتها، وأثبت أنّ خاصّة العلاقة ودرجتها تتحدّد بطبيعة المنطلق (الشّيء). وهذه العلاقة تتحكّم في درجتها طبيعة التّرتيب الّذي لا يكون على منوالٍ واحدٍ أوحد، وإنّما يتنوّع أنواعًا. هذا التّرتيب بعضه يوسم بالقوّة والبعض الآخر ميسمه الضّعف، وكلّ منهما تتحكم فيه خلفيّات فلسفيّة ومعرفيّة وعمليّة، ولعلّ أشهر أنواعه "التّرتيب الخطي" و"التّرتيب الشّجري" و"التّفاعل الدينامي" و"التّجاوري".
فـالتّرتيب الخطّي يبتدئ من منطلق تتوالد منه رتب متتالية، متدرّجة، وكأنّها درجات سلّم قائمٍ أو ممدودٍ، وأمّا التّرتيب الشّجري فيضارع شجرة لها إمكانات كثيرة للانشطار، وللتشّعب إلى فروع متكاثرة.
وهذان التّرتيبان - حسب محمّد مفتاح - يتوفّران على قدر من التّفاعل، إلاّ أنّ أقصى درجات التّفاعل تنجلي في التفاعل الدّينامي "حيث تكون هناك عمليّات معقدة متفاعلة متشابكة من العلائق" (2)، وخلاف ذلك الترتيب التّجاوري الّذي يعتبر أن كلّ وحدة إدراكية أو معرفية أو لسانية هي عملية مستقلّة عن باقي الوحدات الأخرى.
وثاني المفاهيم الذي حلّل المؤلّف ماثل في "طبيعة الاشتراك" الّذي أقرّ من خلاله وجود علاقة مشتركة بين العناصر، والمجموعات، مع اختلاف في درجات الاشتراك. ويبدو أنّ طبيعة العلاقة وطبيعة الاشتراك تتحكّم فيهما رؤيا فلسفية، ودينية، ومنطقية، ولغوية، رتّبت عالمها بطرقها الخاصّة.
وما يروج من مفاهيم مستحدثة من قبيل: التّشعب، العماء، الفوضى... يفترض أنّ خلفه نظامًا عميقًا تنكشف معالمه من خلال عدّة جوامع.
إذ في ضوء الجامع الأنطولوجي يصير إثبات العلاقة والاشتراك تحصيل حاصلٍ، والفصل ليس إلا إجراءً محظًا، مؤقتًا، بعديًّا.
والجامع الصّوري وإن لم يصل إلى مستوى الجامع الأنطولوجي إلا أنّه هو بدوره جامع تأسيسي وضعه بعض الأنتروبولوجيين، والنّسقيين، لإثبات تشابه الكائنات والمكونات في بعض الصّفات. ويضيف المؤلّف الجامع الشّبهي الذي يرتدّ بنا إلى نقطة البدء باعتباره صدى لمبدأ وحدة الكون.
وتبعًا لهذا فإنّ المبادئ الثلاثة متراتبة، مترابطة؛ فما أسماه بالجامع الأنطولوجي أهمّها، باعتباره شاملاً لكلّ ما في الكون في حالة عمائه، وما وسمه بالجامع الصّوري يرصد مظاهر الاشتراك والتّشابه في المجالات المتمايزة، وما سمّاه بالجامع الشبهي يوظف التشابهات المعطاة وقد يوجدها من أجل تحقيق المبدأ الأنطولوجي. ونتيجة للمفاهيم الثلاثة التي ألمحنا إليها يضحي مفهوم الانتظام شاملا للحيّ واللاّحي "بالطبيعة" أو بالتشييد من قبل المنظرين، والباحثين، الّذين حاولوا إرساء قوانين تمنع التّطورات الّتي تخلق الفوضى.
وبناء على ذلك يناقش المؤلّف مسألة القطائع الابستيمولوجية في ضوء الاتصال والانفصال، فيذهب إلى أنّ القطيعة الجذريّة، أو الانفصال التّام، لا يقول به إلا قلّة لأسبابٍ إيديولوجية، وأمّا الكثرة فتعترف بالاستمرارية، وأمّا ما يظهر من قطيعة فليس إلا هيمنة.
وكلّ هذه المفاهيم حسب صاحب الكتاب يمكن توظيفها في تحاليل ثقافية مختلفة مثل إثبات نسقية الثقافة، وكلّ ما تقدّم ذكره يمثل عتبةً للدخول إلى "المنهاجية الشمولية" حتّى يتسنّى لنا إحلال كلّ بنيةٍ أو عنصرٍ ضمن النّسق العام، ونتجنّب المقاربة التجزيئية الّتي تهتمّ ببعض العناصر وتلغي البعض الآخر.
الفصل الأوّل: التّدريج
استهلّ الكاتب هذا الفصل بالتطرّق إلى بعض الإشكاليات الّتي يطرحها الخطاب، ليتخلّى عنها ويقتصر على ما يمكن أن يعينه في حلّ المشكل الرّئيس، متمثلاً في دفع الأغلوطة الأنطولوجية والأغلوطة التشييدية المتطرّفة، فحدّد أولاً معنى النصّ، ومعنى الخطاب، وأقرّ التّمايز بينهما في اللّغتين الفرنسية  والأنجليزية، وبالرّجوع إلى الأصوليين لاح له أنّ اللّغة العربية من موقعها تقيم تمييزاً بينهما فـ"الخطاب عندهم يشمل النصّ أيضا، وإذن، فالخطاب أعمّ من النصّ" (3).
ومن ثمّ صاغ المؤلّف تعريفًا للخطاب، جماعه أنّ الخطاب عبارةٌ عن وحداتٍ لغويّة طبيعيّة موسومة بالتّنضيد والاتّساق والانسجام. وإذ يتّجه اهتمامه وجهة الخطاب، فإنّه نظر في استراتيجيّات تفكيكه، ومنها الاستراتيجية الفرنسية، حيث تعرّض للمنهاجية الكريماصية، واستخلص منها بعض الخصائص الخطابية أهمّها: السّردية، الدّينامية، الانغلاقيّة أو الدّورية، انسجام الخطاب.
كما ذكر، في السّياق ذاته، منهاجيّة تحليل الخطاب السّياسي القائمة على تحليل الخطاب لـ"هاريس" ودراسات "إميل بنفنيست" و"جاك ديبوا" وغيرهم. وقد اهتمّت بالخطاب السّياسي تحليلاً وتنميطًا.
وهاتان المنهاجيّتان، حسب الكاتب، متكاملتان متفاعلتان.
وزيادة على الاستراتيجية المذكورة آنفاً، رصد المؤلّف بعض النّماذج النّظرية ضمن الاستراتيجيّتين الأنجليزية والألمانية، وهي تهدف في جملتها إلى وصف ترابط الخطاب مهما كان جنسه، واسترساله، وعلائقه الدّلالية، ونموّ موضوعاته وخصائصه. وينضاف إلى المستوى النّظري مستوى إجرائيّ ماثل في نموذجين ألمانيّين تجريبيين: الأوّل من خلال كتاب (مدخل إلى اللّسانيات النصّية) تناولا فيه صاحباه "روبرت دوبوكراند" و"فولفكانغ دريسلر" أهمّ مفاهيم تحليل الخطاب، والنموذج الثّاني يمثله "شميت" من خلال كتابه ( أساس لدراسة تجريبيّة للأدب: مكوّنات النّظرية الأساسية).
ثمّ كانت للمؤلف وقفة عند نموذج التّماسك وهو يبحث في تماسك الخطاب، وتدليلاً على ذلك قدّم لنا نموذجيْ "هاليداي" ورقيّة حسن" اللّذين حصرا مظاهر التّماسك في خمسة أنواع كبرى وهي: الإحالة، الإبدال، الإيجاز، العطف والتماسك المعجمي.
هذا النموذج وسّعه "دجين سو نشا" وأسمى نموذجه "النّموذج التّماسكي النّسقي الموسّع"  وافترض أربعة مستويات للتّماسك، وهي المستوى المعجمي والنّحوي والدّلالي والسّيميائي.
هذه النّماذج جميعها تخطّت تحليل الجملة إلى تحليل الخطاب، فالتمست انسجامه بمفاهيم مختلفة مثل: التّماسك، التّشاكل، تسلسل الأحداث.
وعقب هذا العرض اقترح "محمّد مفتاح" استراتيجيّته وهي: دفع الأغلوطة الأنطولوجية ودفع الأغلوطة التشييدية المتطرّفة. فانطلق من إبراز بعض خصائص الخطاب الّتي منها تداخل التخاطب،  وعليه أقرّ وجود علاقةٍ قد تكون بين خطابيْن، أو أنواع  من الخطابات ممّا يفرض أن يكون هناك خطاب أصليّ، وأنواع من الخطابات فرعيّة. وقد يستخلص من الخطاب الأصلي - إذا كان كاملاً ونموذجيًا –
أمثل بنية مجرّدة تصير هي البنية المرجعيّة للبنى الفرعيّة الأخرى، وقد يُستخلص من مجمل أنواع الخطاب البنية المجرّدة فتصير نسقًا مغلقًا.
ومن المفاهيم الأخرى للاستراتيجية المقترحة مفهوم التّنسيق، إذ بالإمكان أن يوصف أيّ خطاب (نصّ) بأنّه نسق، وإذا كان من المسلّمات أن يُلحق بالنّسق ميْسم الانغلاق، فإنّ محمّد مفتاح يميل إلى كون الانغلاق الاصطناعي لا يعدم انفتاح النّسق اللّغوي، لأنّه مشدود إلى حاجات المجتمع المتبدّلة.
وكذلك نجد ضمن خصائص الخطاب خاصّة الإضمار وهذه الظاهرة هي من ماهية اللّغة الطبيعية نفسها، إذ يستحيل على اللّغة - أيّة لغة – أن تقول الواقع بكلّ دقائقه، ومن ثمّ تأتّى أهمية الحديث عن سدّ الفجوات وملء الثغرات. وفي هذا الصّدد نمّط البياض خمسة أنماطٍ هي كالآتي:
-         عدم التّحديد الذي لا أهمّية له.
-         شعور القارئ بثغرة في الخطاب.
-         حذف أشياء من الخطاب حتّى يسهم القارئ في تشييد معناه.
-         شعور القارئ بدلالات متناقضة في الخطاب.
-         عدم استطاعة القارئ تشييد دلالة واحدة.
ولا ضير إذن أن يعتبر الكاتب اللّغة الطّبيعية تضمر أكثر ممّا تعبّر، وتلبس أكثر ممّا توضّح، وتقتطع أكثر ممّا تستوفي.
علاوةً على ما سبق الخوض فيه نجد مفهوم الدّينامية، إذ أنّ النّسق ديناميّ من حيث الانطلاق من بنية ثابتة لتحقيق بنيات صغرى، هي من بنات البنية الوالدة، وهو ديناميّ أيضًا من جهة أنّه يمكن بناء بنية مجرّدة من عنصرٍ واحدٍ، أو من عنصريْن أساسيّين.
هذه الدّينامية محكومة بالمرجعية الذّاتية والتّنظيم الذّاتي.
وأمّا تعدّد القيم فيعتبرها الباحث خصيصة الخائص، وهي مواضعة تعدّد قيم الخطاب الأدبي.         ومؤدّى هذه الخصيصة أنّ اختلاف قراءات الفرد الواحد، أو قراءة مجموعة أفراد عن مجموعة أفراد آخرين، لا ينفي الجامع بينهم وهو المواضعة الجمالية. وتعدّد القيم يدفع الأغلوطة الأنطولوجيّة، والمواضعة تدفع الأغلوطة التّشييدية المتطرّفة، بما تتوافر عليه من بعض المبادئ والقواعد.
وخامس المفاهيم وآخرها ضمن استراتيجية الكاتب هو مفهوم الوظيفة، إذ أنّ الأدب في مساره التّاريخي المديد أسندت له وظائف مختلفة، فقد كانت وظيفته عند العرب مثلا خدمة القبيلة أو العقيدة أو التّحريض...
تأسيسًا على ما سلف يبدو أنّ فعل القراءة والتّأويل ليس واحدًا أوحد، ذلك أنّه وراء كل قراءة استراتيجيّة وأهداف معيّنة. فنجد القراءة الإيديولوجية، والقراءة الجمالية، والقراءة الأنتروبولوجيّة، والقراءة المعيارية الهادفة إلى التّرجمة الدّقيقة والفورية، والقراءة التي ترمي إلى تنظيم الذّاكرة الدّلالية.
الفصل الثّاني: الانتظام
تحت هذا العنوان نظر "مفتاح" في بعض الأطروحات المهتمّة بكتب المنتخبات والكتب الجامعية والكتب المتعدّدة المواضيع، ثمّ أردف ذلك باقتراح أطروحته الخاصّة.
الأطروحة الأولى تسم تلك المنجزات بالتّشتت والاضطراب المطلقيْن، وقد سلك هذا المسلك كلّ من "أحمد أمين" وإبراهيم الكيلاني" وبصفة متأخّرة "محمّد عابد الجابري".
من هذا المنظار نُظر إلى كتاب (البصائر) لأبي حيّان التوحدي، وادّعت هذه الأطروحة أسبابًا لهذا التّشتّت: منها موسوعية المؤلّف، وتكوين الأديب النّديم الذي يجب أن يأخذ من كلّ فنٍّ بطرفٍ، ومنها تحقيق مزايا للمؤلّف والقارئ والثقافة، ومن الأسباب أيضًا اعتبار الكتاب حكاية للتّشتت السّياسي والاجتماعي، ولا نسقيّته محاكاة للانسقيّة الأوضاع السّياسية.
هذه الأسباب، حسب الكاتب، وإن لم تكن خاطئة كلّ الخطأ فهي سطحيّة، إذ لم يقع النّظر في العلل العميقة.
وأمّا الأطروحة الثّانية فتنعت المؤلّفات المشار إليها سابقًا بالتشتت والاضطراب النّسبيّين، وفي هذا الاتّجاه يذكر المؤلف الدّكتورة "وداد القاضي" الّتي رأت أنّ كتاب (البصائر) يفتقر إلى أيّ نوع من التّصنيف أو التّرتيب، ووجود بعض الفقرات المتتالية المنسجمة هو استثناء على القاعدة. وليس بعيدًا على ذلك "مارك برجيه" الّذي يئس من العثور على نظام خاصّ في أعمال التّوحيدي، ففحصها في فوضاها وتلقائيّتها كما هي فوضى حياة التوحيدي وتلقائيّته.
بيد أنّ الأطروحة الثّالثة تقف على الضفّة النّقيضة للأطروحتين السّالفتين، ذلك أنّها تثبت البنية والوظيفة، وخير دليل على ذلك مساهمة "محمّد أركون" حول ما أنجزه بخصوص آثار مسكوية، وقد أبان الوحدة العميقة في أعمال الرّجل.
تبنّى "مفتاح" المقدّمات التي انطلق منها "أركون" والنّتائج الّتي انتهى إليها، وهي التي ستكون مرتكزه للبرهنة على وحدة كتاب (البصائر) السّطحية والعميقة. فيرى أنّ الكتاب "عالم سفلي محاكٍ لعالم علوي وفكري"، بين عناصره تعالق وتباين، وذلك من خلال عدّة مظاهر: أوّلها الإحالات التي اعتبرها أهمّ التقنيات الّتي وظفها المؤلّف لينبّه القارئ إلى ترابط كتابه، وتشارح فقراته، والإحالة نوعين، بعديّة   وقبليّة. ثانيها إقامة كتابه على ثنائية الجدّ والهزل، فهي وحدة تجريدية جامعة، كلّ ما ورد في البصائر يتلخّص فيها. وثالثها دراية المؤلّف بشروط التّأليف، وبقواعده، ومراميه. ورابعها مراعاة شروط الجنس الّذي يؤلّف فيه، والتّوحيدي يؤلّف كتابًا في الأدب، والأدب في عهده هو جماع الثقافات الإنسانية المعروفة عصرئذٍ. وخامسها، عبّر عنه بالخلل الّذي عمّ الوقت، من قبيل التّناحر بين الفرق، وما وقع من أحداث وثورات. وأخيرًا ضروب الخلاف التي تسبّبت في مماته وتشويه سمعته بعد مماته.
من ثمّ، تسقط تهمة التشتت والاضطراب عن كتاب البصائر وتظهر وحدته، ومن مظاهر هذه الوحدة أنّ الكتاب هو حكاية لمثالٍ، وقد تأثّر التّوحيدي بالفلسفات التي كانت تربط بين أشياء أو كيانات لا رابطة ظاهرة بينها، وتجلّيات هذه الفلسفات تتّضح في تراتبيّة العالم وتطابقاتها، وتراتبيّة العلوم وأهدافها، وتراتبيّة الكائنات ومراميها وأخيرًا التراتب والحقّ في الوجود.
زيادةً على ما تقدّم ذكره يفترض "مفتاح" أنّ "البصائر مسرح لواقع إنسانيّ عميق ولواقع نصّي سطحي". أوّل دليلٍ على هذا الواقع العميق يتمثّل في الإواليّات الأنتروبولوجية مثل الشّراب والطّعام والجنس... وهي متحقّقة في الكتاب بالفعل أو بالقوّة. والدّليل الثّاني حاصل في الإواليّات الثّقافية، وهي الّتي تعبر بالفرد من مرحلة الآدمية إلى مرحلة الإنسانية، ومثالها الأجلى الفضائل، ونسقية كتاب البصائر تحقّقت من خلال أجناس الفضائل الأربع (الحكمة والعفّة والشّجاعة والعدالة) وبطرفيها. وثالثا نجد الإواليّات التّعبيرية، وهي من جهة حقّقت الالتحام والانتظام، ومن جهة أخرى عزّزت الاختلاف والتّباين، حتّى لا يكون الخطاب تحصيل حاصلٍ.
وإذ يقف الكاتب عند الواقع النّصي السّطحي، فإنّه يرتكز على آليّتيْن يسمّي الأولى "الانضباط الذّاتي" أي أنّ النصّ متوفّر على آليات تضمن ثباته، ويسمّي الثانية "التّفاعل" وهي نتيجة مفادها أنّ الإواليّات  والآليّات برهنت على انتظام كتاب البصائر خطّيًا، كما برهنت آليّات أخرى على انتظامه  موضوعيًّا.
الفصل الثّالث: التّوازي
بعد اطّلاعه على بعض المعاجم المختصّة، تبيّن مفتاح أنّ التّعريفات الّتي تقدّمها للتّوازي ترتكز على خاصّة التّشابه بين المتوازيين في الشكل، والتّسلسل في الزّمن، والتّرادف في المعنى أو التّضادّ فيه، أو الجمع بين التّرادف والتّضاد.
ودراسات التّوازي في جملتها دارت حول الشّعر فيما أهملت النّثر، هذا بالإضافة إلى أنها لم تصغ مفاهيم إجرائيّة تكفل دراسة التّوازي في نصوص شعريّة كاملة. لذلك بادر المؤلّف باقتراح مفاهيم وصفيّة ترصد طبيعة التّوازي، ودرجاته، وعلائقه، منطلقًا من التّوازي المقطعيّ الطّباعي إلى شبه التّوازي الخفيّ وإلى ما بينهما، بناءً على معايير لغويّة ومفاهيم وسيطة.
وتتمّةً لهذه المهمّة انطلق من "نحو الحالات"، إذ أبانت هذه المقاربة عن شموليّة التّوازي بين البنيات التّعبيرية المتوالية في النصّ جميعه، ولكنّ درجاته تختلف تبعًا لضرورة آليّات نموّ النصّ وتناسله المحكومة بسيرورة الجذب والإبعاد، والاشتباه والاختلاف.
وليختبر هذه المفاهيم، خصّص الكاتب حيّزًا إجرائيًا ممثّلا في نصّ شعري للشّابي. وللتّدليل على شموليّة التّوازي السّطحي في شعره، أقرّ مفاهيم لإثبات التّوازي في المقاطع المتوازية الّتي استطالت وتولّدت منها توازيات فرعية.
الخلاصة من تحليله أنّ التّوازي ليس اختيارًا، بل إكراه يُلزم المتخاطب بالانضواء تحت سلطانه، إذ توجد مفردات يستدعي بعضها بعضًا بالمشابهة أو المقابلة. وإنّ وجود بنيات نامية، وأخرى مكتفية بذاتها، لا يعدم التّفاعل بين الحركة والاستقرار المفضي إلى توازن النصّ، وترابطه، وتماسكه.
إلى جانب مقولة التّوازي المذكورة الّتي أبان التّحليل أنّها خاصّة جوهرية وتنظيمية في الخطاب الشّعري، يقترح مفتاح مقولة التّماسك ليفرّعها إلى مفاهيم خاصّة هي: التّنضيد والاتّساق والتّشاكل والتّرادف. والهدف من ذلك هو النّظر في مستويات الخطاب المختلفة من حروف وأدوات ومعجم وتركيب ومعنى.
ويعني بـالتّنضيد الرّبط سواء بين الكلمات أو بين الجمل وهذه المهمّة توكل إلى حروف المعاني وبعض الأدوات الحرفية والاسمية. وثمّة منضّدات أخرى وسمها بـالتّنسيق، تتمثّل في المحيلات، وهي "الإشارة" و"الضّمير" و"أل التعريف". وتنقسم إلى إحالة خارج نصيّة وإحالة من داخل النصّ.
كما أنّ "جهات الأفعال" بدورها تنضّد وتنسّق بين أحداث النصّ وأوضاعه. ينضاف إلى ذلك التّنسيق بالمعجم متمثّلاً في مقولات التّكرار والاشتقاق والتّرادف والتّضاد والعامّ والخاصّ والكناية والمجاز المرسل.
ولأنّ التّرابط مفهوم واسع فإنّ محمّد مفتاح اقترح مفهوم التّشاكل الّذي تبنّته اللّسانيات لإثبات انسجام الرّسالة، وإذ يطبّقه على الخطاب الشّعري للشّابي، فإنّه اكتشف تشاكل الإنسان/الكون، وتشاكل الإنسان/الطبيعة، وأخيرًا تشاكل الإنسان/الأرض.
ولتجذير ذلك المفهوم اقترح مفهوم التّرادف اللّغوي، الّذي هو نتيجة الكلّيات التّجريبانية العابرة للأعصار والأمصار.
وإذا استطاعت المفاهيم السّابقة التوغّل في أعماق النصّ، إلى أن وصلنا إلى منبعه ثمّ إلى الثّوابت الإنسانية الكونية، فلعلّ مقولة التّفاعل الّتي يقترحها صاحب الكتاب ستبرهن على هذه الثّوابت الكونية،   وتبرز تجلّياتها. وقد فرّعها فرعين: تفاعلًا مذهبيًا وتفاعلًا ذاتيًا.
عمومًا، تمكّن من بلوغ إمكانيّة شرح البنية الشّعرية في جميع اتّجاهاتها، أفقيًّا وعموديًّا وسطحيًّا وعمقيًّا،  وهو ما يكشف عن أبعادها الجماليّة والذّاتية والقوميّة والوطنيّة والكونيّة.
الفصل الرّابع: التّحقيب
في هذا الفصل تصدّى المؤلّف لمسألة تحقيب الأدب المغربي، فألمح في البداية إلى الآراء المتهافتة الّتي تقول بأنّ الأدب المغربي لا يعدو كونه تنويعًا على الآداب المشرقيّة. ولتجاوز الانشطار والنّظرة المجهريّة تبنّى مفتاح المنهاجيّة النّسقية. ولئن كان النّسق عصيًّا عن التّحديد الجامع المانع، فإنّ ما يستخلص من جملة التّحديدات أنّ هناك أنساقًا فرعيةً تتناسل من نسق عامٍّ، والأنساق الفرعيّة تقتضي صفتين اثنتين: التّراتبيّة والاستقلاليّة.
حسب المؤلّف يمكن اعتبار مجتمع من المجتمعات نسقًا عامًّا يتولّد عنه نسق سياسيّ، ونسق اقتصاديّ  ونسق علمي، ونسق ثقافي، وهي متساوية العلاقة والمسافة ومستقلّ بعضها عن بعض، وهذا يعني أنّ النّسق الثّقافي أو الأدبيّ لا علاقة له بالنّسق السّياسي، إذ قد يتوقّف نموّ النّسق السّياسي ويستمرّ نموّ النّسق الأدبيّ، والأمر ينعكس.
وفي بحثه عن الجامع بين الأنساق المختلفة يقرّ بـالجامع الأنطولوجي الّذي هو المجتمع ومنه تتولّد الأنساق الاجتماعيّة. وثاني الجوامع هو الجامع الوظيفيّ فبما أنّه تبنّى نظرية الأنساق العاّمة فهو يسلّم بأنّ الوظيفة تحدّد الشّكل، ومن ثمّ فهي الّتي حدّدت مسارات الأدب المغربي وروحه وأنواعه الفصيحة والزّجلية والملحونة.
ثالثها، العامل الجامع والمقصود به القوّة المادّية والمعنويّة المنشئة للبنيات وللوظائف وللأنساق المجتمعيّة والسّياسية والثّقافية، وتلك القوّة هي السّلطة الحاكمة ومن ساعدها. فتمايز الأنساق حسب الكاتب لم يتمّ إلّا بأخرةٍ خاصّة لدى الأمم الّتي شهدت ثورات علميّة وأدبيّة.
في نفس المسار اقترح "المنهاجيّة النّسبية الإيقاعيّة"، وفيها تصدّى للتّحقيب ودوره في إنشاء المؤسّسة الثقافية العربيّة. والتّحقيب المتداول كما اقترحه السّابقون يرتدّ إلى فكرة قوامها وحدة الأمّة للقيام بالجهاد إذ ثمّة أحداث كبرى لها سند واقعيّ في إحداث مؤسّسة للثّقافة العربيّة الإسلامية منها:
1.  تعاليم الإسلام بما فيها من حرصٍ على توحيد صفوف الأمّة والخضوع لخليفةٍ واحدٍ، ونشر الإسلام بين الأمم متى ساعدت الظروف.
2.  فتح الأندلس سنة 92هـ تحت قيادة طارق بن زياد الّذي خطب خطبته الشّهيرة، والّتي كانت نواةً للأدب المغربي الّذي يفترض أنّ روحه هو الاتّحاد والجهاد.
3.  دخول عبد الرّحمان الأمويّ إلى لأندلس، وتأسيسه خلافةً أمويّةً بها سنة 138هـ. وغير خافٍ أنّ أهمّ الأطر الفكريّة، الأندلسيّة، المغربيّة صيغت في عهد الدّولة الأمويّة.
بعد عرضه هذا التّحقيب الّذي رآه مفتاح محاكاةً لما هو رائج في الأدبيّات المشرقيّة، اقترح المؤلّف تحقيبًا مخالفًا انطلاقًا من أطروحة تزعم أنّ الرّوح النّاظم للأدب المغربي هو الدّعوة إلى الاتّحاد للقيام بالجهاد، وتحقيبه هذا يستند إلى مفهوم الأمد البعيد الّذي تكون نقطة بدايته ونهايته حادثًا أعظم متكرّرًا يتسبّب في خلخلة اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ وثقافيّة، والأحداث العظمى المتردّدة هي:
1.     فتح العرب للأندلس وسقوطها: حقبة الاتّحاد للجهاد لتحقيق هيمنة الإسلام في الغرب الإسلامي.
2.     من سقوط الأندلس إلى الانتصار في وقعة وادي المخازن: وهي حقبة الاتّحاد للجهاد تحصينًا للذّات ودفاعًا عن الوطن.
3.     من وقعة وادي المخازن إلى فرض الحماية: حقبة الاتّحاد للجهاد بعثًا لهيمنة الإسلام ومجده.
4.  من فرض الحماية إلى وقتنا هذا: وهي حقبة الاتّحاد للجهاد الأصغر والأكبر، استكمالًا لتحرير الوطن وبناء الدّولة العصريّة.
هذا التّحقيب المقترح من الدّكتور محمّد مفتاح كان للحديث عن سجلّات الأدب، وكيفيّات دعوته إلى الاتّحاد للجهاد في هذه المراحل الأربع، شعرًا ونثرًا. وقد قدّم حججًا على ذلك، ففي المرحلة الأولى ذكر بخصوصها ثلاث قصائد من ديوان الأعمى التّطيلي في مدح العاهل المرابطي علي بن يوسف، وقصيدة من ديوان ابن خفاجة بمناسبة استرداد بلنسيّة.
أمّا في المرحلة الثّانية فتعزّز أدب الاتّحاد للجهاد، وبدأت أنواع أخرى من الأدب في البروز والتّدوين والتّداول كالأدب الفصيح، والشّعر الملحون، وتداخل الفصيح بالعامّي.
أمّا المرحلة الثّالثة، فقد توفّرت فيها عوامل كثيرة تجمع بين السّياسي والثّقافي والدّيني، ساعدت على ازدهار الأنواع الأدبيّة المذكورة سابقًا، وحفّزت على ظهور أنواعٍ أخرى لم تكن من قبلُ. فإلى جانب الأدب الفصيح والشّعر الملحون ظهر شعر المدائح النّبوية والتوسّلات، وأدب الذّخائر والنّوادر.
وفي حقبة استكمال التّحرير وبناء الدّولة العصرية، كان الشّعر والنّثر دعوةً إلى الوحدة والجهاد           والإصلاح، وفي هذه الأشعار متن كبير يعبّر عن روح الأدب المغربي حتّى وإن تأثّر ببعض المدارس الوافدة من الشّرق مثل مدرسة البعث، والمدرسة الرّومانسية وغيرها.
هذا التّحقيب، كما هو واضح، راشح عن النّظر في الأحداث الخطيرة، لا عن النّظر في أحداثٍ ثانويّةٍ كما يفعل بعضهم. وإذ يتّكئ صاحبنا على نظرية الإبدال فإنّه يقسّم التّحقيب إلى حقبتين: من البدايات إلى الحصول على الاستقلال حقبة، ومن ذلك الوقت إلى يوم النّاس هذا حقبة أخرى. ويبقى الخلاف الجوهريّ كامنًا في التّوجيهات الجماليّة والوظيفيّة للأدب لا غير.
الفصل الخامس: التّشابه
تحت هذا العنوان أثار مؤلّف "التّشابه والاختلاف" إشكالية التّرجمة، خاصّة أنّ التّرجمة المعاصرة تأثّرت بالنّظريات المتعلّقة بفلسفة اللّغة وباللّسانيات وبالدّليليات وبالسّيميائيات وبالتّاريخ المقارن والإناسة.
هذا الإشكال اضطرّه إلى توظيف بعض المفاهيم الدّليلية (السّميوطيقية) وخاصّة مفهوم "الأيقون"، فعرّف الأيقون، وأثبت ارتباطه بالمقدّس، وأردف ذلك بالحديث عن درجات الأيقون، فإذا الأيقون حسب برّس ينمّط نمطيْن: أحدهما أصليّ، والثّاني فرعيّ. وأقرّ بعد التّحليل أيقونيّة اللّغة الأدبيّة وخاصّةً عندما يتعلّق الأمر بالخطاب الشّعري.
وفي طرحه لموضوع الشّعر المجسّم بين الأصالة والاصطناع أكّد أنّ الشّعر المجسّم عبارة عن امتزاج الكلام والرّسم أو بين اللّغة والتّشكيل، وقد وقع نقل الشّعر المجسّم من اللّغة والتّعبير البصري إلى أشكالٍ تعبيريّة أخرى.
والأيقون منذ القدم، حسب المؤلّف، التحم بالحروف اللّغوية لتكوين بنيةٍ واحدةٍ تؤدّي رسالةً معيّنةً، ومثل هذا التّلاحم تفطّن إليه أصحاب الشّعر المجسّم.
ولكنّ بعض الباحثين الّذين غاب عنهم مفهوم الأيقون وخلفيّاته، اعتبروه (الأيقون) جسمًا غريبًا على الشّعر. في المقابل، كشف آخرون عن مغزى التحامه باللّغة وتجلّياته في أشعار لحظةٍ تاريخيّةٍ بعينها فـ"الشّعر المجسّم تعبير مركّب مستقاة عناصره من أنساقٍ متداخلةٍ، متجلّية في حروف اللّغة الطّبيعية، وفي خائص الرّسم، يهدف إلى إقناعٍ بليغٍ بالمقدّس، أو بالدّنيوي، أو يسعى إلى السّخرية منهما" (4)
ثمّ فصّل الكلام في بنية قصيدة الشّعر المجسّم وشكله، وأضاف عنصرًا لاحقًا تطرّق فيه إلى طرق ومبادئ ترجمة الشّعر المجسّم ذاهبًا إلى أنّ أغلب التّنظيرات في التّرجمة اعتمدت الثّنائية الحدّية:
-         التّرجمة العاديّة/ التّرجمة الحرّة.
-         التّرجمة الحرفيّة/ التّرجمة الحرّة.
-         التّرجمة المتكافئة/ ترجمة نقل معنى.
-         التّرجمة الدّلالية / التّرجمة التّواصلية الّتي اعتمدها السّيميائيّون والتّداوليّون.
ولأنّه لا يرى فروقًا كافيةً، مميّزة بين الأزواج المقدّمة فإنّه يؤسّس على ما قام به "برّس" لينمذج الأيقون إلى عدّة أنواع :
1.     الأيقون المثالي: ما يتطابق تطابقا تامًّا مع أصله مثل مستنسخات أصلٍ واحدٍ.
2.     الأيقون المتماثل: ما يشترك مع أصله في كثيرٍ من الصّفات مثل الإنسان وصورته.
3.     الأيقون المتشابه: أي ما تكون علاقته بأصله علاقةَ مشابهةٍ.
4.  الأيقون المتوازي: أي ما تطابقت بنيته ولكن العناصر الّتي تتكوّن منها مختلفة كليًّا أو جزئيا. أو توازى مضمونه مع اختلافٍ في البنية.
5.     الأيقون المتناظر: ما يشترك في العناصر، أو في الصّفات ما يناظره.
ومن ثمّ وجب على المترجم معرفة نوع النصّ الّذي يريد ترجمته، وخصوصًا ترجمة نصّ الشّعر الفضائي، الّذي يفرض على مترجمه مراعاة المضمون والبنية والشّكل والصّورة والرّموز والأصوات، وخاصّة ترجمة الشّكل لأنّه في الشّعر المجسّم شكل من أشكال الأيقون.
النّتائج:
أدرك الباحث جملةً من النّتائج المهمّة، وتفصيلها البرهنة على ديناميّة النّسق، بما أنّه متفاعل مع محيطه. من ثم تأدّى له الإقرار بأنّ كتاب البصائر وديوان الشابّي والثقافة المغربيّة أنساق ديناميّة ممتدّة في أمدٍ بعيدٍ، وكلّ نسقٍ ذي أمدٍ بعيدٍ يحوي حقبًا.
كما كشف عن تهافت الرّأي الشّائع القائم على وهم الظّاهر. ومفاده أنّ البنية المنظّمة ذات أبعادٍ انتظاميةٍ بالضّرورة، والبنية الفوضوية ذات أبعادٍ فوضويّةٍ بالضّرورة. وهكذا دفع أطروحات الفوضى والتّشتّت،    وأثبت النّظام والانتظام والتّوازي والتّحقيب والتّشابه، وفي ضوء ذلك كان تأويله لكتاب البصائر الّذي اتّخذ تشتّته واختلاطه دليلًا على انتظامه. وكذا استنتج أنّ الثّقافة المغربيّة ليست وقائع مشتّتة، وإنّما هي نابعة من وقائع متتاليةٍ في الزّمن ناتجة عن صراعٍ مع النّصارى، وأنّ درجات الانتماء تحكم التطوّر والانشطار.
على أنّ نتيجةً أخرى ألمح إليها في ختام بحثه وعلّها أمّ النتائج وهي أنّ الباحث العربي المعاصر مطالبًا بقراءة تراثه ناسجًا على منوال الأمم الرّاقية في تعاملها مع تراثها، حتّى يعيش في وئامٍ مع كينونته ووجوده وصيرورته.
الخاتمة:                      
في ختام النّظر في كتاب "التشابه والاختلاف: نحو منهاجيّة شموليّة" يمكننا القول إنّ محمّد مفتاح آمن بمشروع نقديّ، فذهب إلى التّأسيس له متسلّحًا بترسانة من الآليات، والنّظريات، والمناهج، حتّى لا يسقط في التّعميم واللاّجدوى.
جوهر هذا المشروع، أنّ التّشابه قاعدة تحكم الكون، وفي الحقيقة إنّ الكتاب كما أشار المؤلّف، يحوي بين دفّتيه جملةً من الإيضاحات بشأن بعض القضايا المطروقة في كتابٍ سابق لنفس المؤلف، يبدو أنّها حازت اهتمام القرّاء، بيد أنّ لبوس الغموض حال دون فكّ رموزها، فتراءت للقرّاء زئبقيّةً وعصيّةً عن المسك.
وعليه فإنّ هذا المنجز النّقدي هو ضرب من التّواصل العلمي، لأنّه في عمقه تعرية لما تحصّن بالظلّ، ودليل لمن أنهكته المتاهة وأعيته الحيلة. فبعد الإشارة إلى المفاهيم المؤسّسة للمنهاجيّة الشّموليّة، بلغ عدّة نقاطٍ ذات بالٍ منها: تكوين رؤيا توحيديّة للثّقافة دشّنها الفلاسفة العرب والمسلمون مثل التّوحيدي وابن خلدون. بالإضافة إلى أنّه أسهم في حلّ بعض الإشكاليّات العالقة مثل تمييزه بين النصّ والخطاب، ومقاربة تجربة الشّابّي الشّعرية من مدخل يعتبر بدعةً في تاريخ النّقد العربي، إذ أنّه أخضعها لمقولة التّوازي فأضحى الفعل النّقدي فعلًا إبداعيًّا.
وعندما قارب كتاب البصائر فإنّه نبش في بناه العميقة وأقرّ انتظامه وتوازنه، وهو بذلك يفنّد أطروحة التّشتّت والفوضى. ثمّ حلّل مقولة التّشابه فبسط طرائق ترجمته، ومكانة الأيقون فيه، وسبل ترجمته.
بناءً على الإشارات السّابقة ليس من عجبٍ أن نعتبر كتاب "التّشابه والاختلاف" علامةً فارقةً في المسار النّقدي العربي، وهذا ليس إطراءً ملقًى على عواهنه، وإنّما إقرار بقيمة الكتاب العلميّة، وهو لذلك يمثّل مرجعًا متينًا للنقّاد، لما قدّم من مفاهيم ومصطلحات، ولما طرح من رؤى كانت في حكم المعدومة.

الهوامش:
1-    محمّد مفتاح، التّشابه والاختلاف: نحو منهاجيّة شموليّة، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، ط. 1، 1996، ص. 10.
2-    المصدر نفسه، ص. 13.
3-    المصدر نفسه، صص. 34 – 35.

4-    المصدر نفسه، ص. 209.

الاثنين، نوفمبر 06، 2017

رجاء حمدان تكتب: ملخص رواية لأني أحبك لغيوم ميسو




أولا نبذة عن الكاتب:
غيوم ميسو كاتب فرنسي من مواليد 1974، سافر إلى أمريكا في سن السابعة عشرة وله مؤلفات ذات شهرة عالمية منها هذه الرواية.

ثانيا ملخص الرواية:
مساء عيد الميلاد في قلب مانهاتن .. صعدت الموسيقية نيكول إلى الخشبة تحت دوي التصفيقات, كانت امرأة شابة في الثلاثينيات وبمظهر أنيق    ورزين, كانت مشهورة وبارعة فقد تلقت تكريمات لا تحصى على خشبة المسارح العالمية, ولكن قبل خمس سنوات نزلت عليها مصيبة دمرت حياتها وأثارت ضجة في وسط الصحافة والتلفزيون. وعلى مسافة تقل عن الخمسمائة متر من هنا انتصب رجل بمشقة على قارعة الطريق, وهذا الرجل هو الإس دي اف ( إختصارٌ يقصد به متشرد ), كان نحيلاً واهناً, لم يكن إلا في الخامسة والثلاثين مع أن مظهره يوحي أنه في الخمسين , في ما مضى كان لديه عمل وامرأة وطفل ومنزل أما اليوم فلم يعد سوى طيف تائه .

آخر نقرة قوس من نيكول أحنت بعدها رأسها وتلقت باقات الورود ثم تركت المكان هي ومساعدها إيريك لينزلا إلى السيارة, وفجأة جاء رجل من قُطاع الطريق لينتزع نقودهما, خضع إيريك له وناوله الساعة   والهاتف المحمول ثم وقف الرجل وسدد ضربة بالسكين لنيكول التي كانت  مندهشة وشبه منومة مغناطيسياً لحظتها .. أمر غريب يقال أننا في لحظات الموت نرى اللحظات المهمة من وجودنا ولكن نيكول لم تر إلا مشهداً واحداً : شاطيء ممتد مقفر إلا من اثنين يلوحان ناحيتها بفرح, الأول الرجل الذي أحبته منذ الأزل ولم تدر كيف تحتفظ به, والثاني إبنتها التي لم تحسن حمايتها, وحينها جاء رجل وحاول حمايتها فتلقى الطعنة بدلاً عنها بجسده النحيل ثم ارتمى على الأرض. جثت نيكول على الأرض على برودة الثلج لترى الرجل الإس دي اف الذي ساعدها, إنحنت باتجاهه ثم قالت لإيريك : إنه مارك زوجي !!.

إمتد مارك هاثواي على كنب الصالون بينما قامت الجارة الطبيبة سوزان مارك بفحصه, وأوضحت لنيكول أن جرحه بسيط ولكن حالته العامة غير جيدة, نظرت نيكول إلى مارك فوجدت إنه لم يعد ذلك الرجل الذي تزوجته, وحدها الشهادات والتكريمات التي تغطي الجدار تشهد أن مارك كان ذات يوم عالمُ نفسٍ عظيم  ومشهور, فقد كان نيكول ومارك يوماً من أشهر الثنائيات في نيويورك. كان كل شيء جميل إلى عصر يوم الأحد من آذار حين اختفت إبنتهما الصغيرة ليلى ذات الخمس سنوات في إحدى مركز اورونج التجاري, وآخر مرة شوهدت فيها كانت تحدِّق في الألعاب أمام واجهة ديزني ستور, وكانت حاضنتها الأستراليه قد تركتها لبضع دقائق لتشتري بنطالاً من إحدى المحال, لم تفض الإستفادة من أشرطة فيديو المراقبة إلى شيء لأن المكان كان يغص بالناس, وهكذا مرت الأشهر والسنوات ولكن ليلى لم تظهر. وبالنسبة لمارك فإن حياته توقفت في ذلك اليوم, فبعد ثلاث سنوات قرر أن يترك بيته دون أن يترك أي خبر لا لزوجته ولا لصديقه كونور, ولم تعرف نيكول بعدها طعم السعادة عدا عن  شعورها بالذنب الذي كان يتضاعف يوماً بعد يوم. إستفاق مارك وتبادل مع نيكول الحديث حيث قالت نيكول : أنت عالم نفس يا مارك, لقد ساعدت الناس على تجاوز مصائبهم .. لقد ماتت ليلى يا مارك, مضت خمس سنوات دون أدنى دليل وإذا تم العثور على شيء فسيكون جثمانها, غضب مارك ثم قال : إخرسي, لا أريد تجاوز هذا الألم, إنه الشيء الوحيد الذي يبقيني على قيد الحياة, أريد أن أستعيد إبنتي ثم خرج من البيت وسط صراخ نيكول : إنني بحاجة إليك !. حاولت نيكول الإتصال بكونور حينها ولكنه لم يستجب لاتصالاتها !.
الدكتور كونور ماك كوي كان قد أسس عيادته الأولى بالإشتراك مع صديق طفولته مارك, حيث كانا قد ترعرعا في حي بائس من أحياء شيكاغو ولكنهما حققا نجاحاً باهراً ما كان له  إلا أن يستمر لولا المأساة التي أصابت مارك, حينها مد كونور يد العون لمارك ولكن تلك المساعدة لم تكن كافية فكان مارك قد حطمه الغم. خرج كونور من عيادته واستلقى في سيارته إلى أن أخرجه رنين هاتفه من شروده, ورأى إسم نيكول هاثواي على الشاشة .. نيكول ؟, لم يعودا يتحادثان قط منذ أن كانت تخرج مع ذلك المحامي إيريك المغفل, وراح يهيأ نفسه للرد إلى أن جاءت لصة فتحت باب الراكب في سيارته واستولت على الحقيبة الجلدية التي فيها الملفات السرية التي تحتوي على أوراقه الخاصة وعلى الأسرار الأكثر شخصية لزبائنه. أخذ يركض ورائها إلى أن التقطها, كانت فتاة في الخامسة عشر من عمرها تدعى إيفي راحكونور, أخذ يتفحص وجهها فقد كانت ترتجف من البرد وخلف جفونها المحاطة بالكحل هناك عينان براقتان لصبية مذعورة, كان كونور يتملكه شيء غريب إزاء تلك الفتاة, كانت تذكّره بشخص ما بينما كانت إيفي تحدق بريبة ناحيته, لقد علمَتها الحياة أن ترتاب الرجال حتى مع وجود ذلك الشيء المطمئن الذي يفوح من ذلك الرجل, وبعد ربع ساعة كانت إيفي تجلس في إحدى المطاعم تلتهم وجبتها بشهيةِ من لم يتناول وجبته منذ يومين بينما كان كونور يجلس خارجاً يطالعها, لاحظ أنها تضع لصقات على رسغيها وهناك آثار حزوز ذاتية على باطن ذراعيها, تقاطعت نظراتهما وفهم كونور أن هذه الفتاة تذكره بنفسه, كان يحس أنهما يتقاسمان الوجع نفسه, ذهب إليها وعرض عليها مئة دولار مقابل أن تجاوب على سؤال فوافقت فقال كونور : ما حاجتك للنقود ؟ فقالت بجسارة : لكي أبتاع لنفسي بندقية !, تجمد كونور واجتازت صورة السلاح الناري ذهنه فجأة متبوعة بانفجار وعويل, ذكرى مدفونة منذ وقت طويل حينها أخرج من جيبه ورقة أخرى وقال : لماذا أنت بحاجة لبندقية ؟, فقالت : لأنني أريد أن أقتل رجلاً !, أخرج كونور قطعة ورقية ثالثة وقال : لماذا  تريدين قتل رجل ؟, قالت : كي أثأر لنفسي !, إنبثقت في رأس كونور ثلاث كلمات من الماضي (ثأر لا يعرف الصفح), ثم خرجت إيفي تاركة كونور في حيرة .... كان كونور يكرس حياته ليسرَّ أرواح الآخرين بينما كان نفسه رجلاً غامضاً وخفياً, كل مغامراته الغرامية بقيت دون منظر مستقبلي . رن هاتفه المنزلي, إنها نيكول بالتأكيد فلقد نسي أن يتصل بها, رفع السماعة لم تكن نيكول كان صوت امرأة شابة وقد تغير كلياً بفعل الخوف وكانت تتهم نفسها بقتل شخص ما ؟ !.
بعد ثلاثة أشهر .. منحنياً وغير مبال بما يحيط به تقدم مارك إلى زاوية الغرفة ووصل جهازه إلى المقبس الكهربائي فوصلته رسالة صوتية : مارك هذا أنا نيكول, ينبغي أن أخبرك بشيء, كنت على حق لقد وجدوها, إنها على قيد الحياة يا مارك, ليلى على قيد الحياه !!!! .. موجة كاوية عبرت جسده وصعقته حالياً, كان هو الذي يبكي ... غادر مارك مكانه     وركض إلى حد انقطاع نفسه واستقل المترو إلى بروكلين, وفجأة وسط الغموض الذي يكتنف دماغه إنبثق شيء ما, التاريخ إنه 24 آذار 2007   وقد تم العثور عليها في الأمس !, فقد كانت ليلى قد اختفت في 23 آذار 2002 مضى على ذلك خمس سنوات يوماً بعد يوم !. وصل مارك إلى بيته وكانت واقفة أمامه عربة البوليس, دخل إلى البيت فقال مارشال الشرطي المتكفل بقضية ليلى : غير متيقنين 100 % فتحاليل ال DNA  تحت الإعداد ثم ضغط مارشال على زر الحاسوب فظهر وجه طفلة حينها صرخ مارك دون تردد : إنها ليلى إنها ابنتنا, فقال مارشال : طفلة في الثانية عشر عُثر عليها بالأمس في أحد أروقة جاليري اورونج التجاري, عمرها ومحياها والسمات الوراثية جعلنا نعتقد أنها ابنتكما, لقد وجدناها في الساعة نفسها والمكان نفسه الذي اختفت فيه  مع فارق خمس سنوات !!, ولكن ليلى لم تتلفظ بأدنى كلمة ..
خرج بعدها مارك ليقص شعره ويشتري ملابس ليذهب فيها لإبنته, ورجع إلى المنزل ونادى على نيكول ولكن لا أحد يرد, إنتزع الكرت البريدي وقرأ بضع كلمات مكتوبة على عجل : حبيبي مارك لا تقلق بشأني, لا أستطيع الذهاب إلى لوس أنجلوس ولكن أكثر ما يهمني أن أكون معك ومع ابنتنا مجدداً لكن ذلك مستحيل الآن , في قادم الأيام ستفهم ذلك, مهما يكن ما سيحدث بعد ذلك فاعلم أنني أحببتك على الدوام وسأظل أحبك !!!!.
وصل إلى المستشفى مارك هاثواي وفرانك مارشال الذي أبدى استغرابه الكبير لعدم قدوم أم الطفلة لرؤيتها ثم قال : سأدع ليلى تعود معك إلى نيويورك بشرط أن تخضع ابنتك يومياً للمعاينة من قبل طبيب نفسي تابع للمكتب, وبمجرد أن تتكلم فنحن من سيأخذ أقوالها, قال مارك بعد أن قبض على ياقة العميل الفيدرالي : الطبيب النفسي هو أنا ولن ترى إبنتي شخصاً آخراً غيري ! .. وصل مارك إلى الباب فشاهد هالة من الشعر المعقوص الذي يبرز من بيجامة وردية واسعة ومن ثم طفلة صغيرة وبجانبها ممرضة, إنها هي !! لقد كبرت , لم تأت الطفلة بأي حركة, لم يقرأ في عينيها ذعراً ولا خوفاً ولا ألماً بل على العكس هاهي ترسم ابتسامة وتفلت يد الممرضة وتركض باتجاه مارك وترتمي في أحضانه .
أخذ مارك ليلى ليعودا إلى منزلهم, ولم تكن ليلى قد نطقت بأدنى كلمة ومع ذلك كانت تبدو كحورية وسعيدة برؤيته, وقد نامت في التاكسي بينما كان يستمع مارك إلى الموسيقى الجميلة, تفحّص مارك غلاف القرص في التاكسي فكانت عازفة كمان بثياب قليلة وكانت الصورة توحي بكائن ثنائي الرأس شهواني ومثير للقلق ومكتوب عليها : نيكول تعزف لباخ !, حينها استيقظت ليلى ووصلوا إلى المطار فتقدم منهم صحافي إسمه ميكائيل فيليبس ليأخذ تصريحات من ابنته فردعه مارك فقال الصحافي : أنت مصاب بلعنة مقدسة يا هاثواي وإنك حتى لا تعي ذلك, لدي معلومات تجيز لي التواصل معك, أنت لا تعرف الحقيقة لا عن امرأتك ولا عن ابنتك !.

إيفي .. كانت إيفي آخر النازلين من العربة, دلفت إلى قاعة المغادرة فبعد ساعات ستكون في نيويورك بعد العائق المؤسف وغير المتوقع الذي أجبرها على الذهاب إلى لوس انجلوس, وكان بإمكانها من الآن أن تصل إلى الرجل الذي تطارده وكان لديها عنوانه, ستقتله وبعد ذلك ربما صار الألم أقل قسوة .
أليسون .. شابة في السادسة والعشرين بشعر قصير وجينز ضيق, كان جسدها يرتعد بالكامل وكان عليها أن تعثر على جرعة الكوكائين لتسترد هدوئها وتنطلق إلى نيويورك.
إيفي, أليسون, ومارك .... ثلاثتهم في المسرح الصغير, كان بينهم شيء مشترك فثلاثتهم ساخطين وعلى وشك الإنفجار, لديهم ماض مؤلم ويحسّوا بأنهم ضحايا ومذنبين ولكنهم خلال دقائق سيعتلون الطائرة ذاتها ومن ثم ستتغير حياتهم !.
خلع مارك معطفه واجتاز البوابة الأمنية ولحقته ليلى التي أثار عبورها جرس إنذار نظام الحماية, فمرر الحارس جهازه على ليلى فكان الجهاز يضطرب حالما يمر بعنق ليلى مما يعني وجود كيان معدني مزروع تحت بشرة ليلى, تم استدعاء ليلى ومارك إلى غرفةٍ للتحقيق تخللها اتصال من السيد مارشال, حينها اعتذرت السيدة التي كانت تقوم بالتحقيق وأعادت لهم جوازات السفر, ذهبا بعدها لتناول بعض الطعام ثم غادرا, بينما جلست إيفي على نفس الطاولة بعد مغادرتهما لترتشف ما تبقى من عصير البرتقال والجريب فروت, ولاحظت إيفي صحيفة بجانبها فطالعت عنوان الصحيفة فكان : إنتحار الملياردير ريتشارد هاريسون, وفي آخر الخبر .. تعقّل وتقشّف السيد ريتشارد يتعارضان مع ابنته الوحيدة أليسون التي دأبت الصحافة الشعبية على تغطية مغامراتها .
كان مارك وابنته يجلسان في مقعدين متجاورين وكانت تجلس إلى جانب ليلى فتاة في الخامسة عشر بشعر متسخ ومنسول, أخذ مارك يتحدث إلى ليلى بينما كانت ترسم ابتسامة على وجهها, وأخرج لها رواية هاري بوتر فأخذتها وجلست تقرأ بعينيها, إنها حقاً تقرأ!!, من علّمها القراءة ؟؟؟.

أخذ مارك يتلوى على مقعده, كانت يداه ترتعشان وقطرات العرق تتلألأ على جبينه, كان يعرف سبب هذا التوعك (الفطام الكحولي) فلم يكن قد تناول قطرة من الكحول منذ ست وثلاثين ساعة. رفعت ليلى عينيها عن الكتاب كأن شيئاً ما يقول إن ابنته لم تكن غافلة عن حالته الصحية حينها سألت إيفي : هل أنت بخير سيدي ؟, فقال بخير وتعرّف عليها , شيء ما في مارك أوحى لها بالثقة, دفء في النظرة ذكّرها بالطبيب الذي التقته قبل ثلاثة أشهر ثم قالت : هل هي الحاجة إلى الكحول ؟ أمي كانت حالتها مثل حالتك قبل أن تموت, إشتدت آلام مارك فترك ليلى مع إيفي خمس دقائق وذهب ليغسل وجهه بينما بدأت الهلوسات تسيطر عليه, يرى أشياءاً غير موجودة بينما أخذت إيفي دور الأخت الكبرى وعينها على ليلى لا تفارقها, حينها رفعت ليلى عينها وكانت قد مضت عشر دقائق على مغادرة مارك, فتحت فمها وحدثت المعجزة : أخبريني كيف ماتت أمك ؟ وجّهت ليلى السؤال إلى المراهقة .
تذكرت إيفي ... في ضاحية من ضواحي لاس فيغاس ثمة شاحنة وفيها طاولة تجلس عليها إيفي  وكانت في الثالثة عشر من عمرها, راحت تقرأ الكتب بينما جاءت كارمينا تناديها بينما كانت أمها تيريزا هابير متمددة في المستوى الأدنى من السرير, وكانت في الرابعة والثلاثين من عمرها ومع ذلك تبدو وكأنها في سن يزيد عن عمرها بعشرين عاماً بسبب الإلتهاب الكبدي والذي تطور إلى تليف ثم إلى سرطان, إنطلقت إيفي والتي تعمل مع كارمينا في فريق النظافة في فندق أواسيس, كانت تعمل يومياً مقابل بضعة دولارات ومع ذلك كانت إيفي تحب الكتب كثيراً وبالأخص الروايات والشعر, وهكذا صار الأدب حديقتها السرية وجواز سفرها إلى كل مكان, وسيلة غير متوقعة للخروج من الدونية التي ألقت بها الحياة فيها. في أحد الأيام تسلمت إيفي أجرتها وأخرجت من حقيبتها كتاباً (البقاء على قيد الحياة) كانت قد عثرت عليه في الليلة الفائتة إلى جانب سرير إحدى غرف الفندق, وكانت دراسة مكتوبة بقلم عالم نفس عصبي من نيويورك يدعى كونور ماك كوي, بدا لها الكتاب وكأنه مكتوب من أجلها, أنهت إيفي الكتاب ثم كتبت قائمة من أمانيها التي تتمنى تحقيقها, كان في بدايتها (أن تتلقى أمي كبداً جديداً وأن تشفى), وفي نهاية القائمة (أن يغرم بي شخص ما ذات يوم) .
صعد مارك السلم الضخم ووصل إلى المقصورة العلوية إستراحة البار  وطلب كاساً من الويسكي, نظر حوله وكانت شابة غير هيّابة تتخذ لنفسها مكاناً إلى جواره بانتظار أن تطلب مشروبها, كانت أليسون وقد أثارت فضوله فحدق فيها بتمعن : شعر أشقر ذابل, رشيقة , مظهر بنت لافتة, وعندما انحنت لتلتقط حقيبتها لاحظ وجود وشم على خاصرتها, رمز بوذي هو دولاب القوانين, حينها تبادلا الحديث وتعرفا على بعضهما, ثم حملق فيها مارك وأحس أنها بحاجة إلى شخص تبوح له بما يدور في خلدها فقال : أخبريني يا أليسون بما فاتني منذ خمس سنوات ؟.
أنهت أليسون قصتها وخفضت عينيها وشعرت ببعض الضيق لكونها باحت بالكثير عن حياتها الخاصة لشخص مجهول تماماً, وكان مارك قد أصغى إليها باهتمام, كان يراودها شعور بالحماية, نظر مارك إلى الفتاة بتركيز  وقال : لأي سبب تسعين إلى معاقبة نفسك ؟, أدارت أليسون عينيها وانقبض شيء ما فيها, العَرَض المرضي الذي وضع مارك أصبعه عليه تماماً.  فتحت أليسون فمها ولثانية اعتقدت أنها على وشك أن تعترف له بسرها وتخفف من الألم الذي يقرضها منذ سنوات, لكن الكلمات بقيت محتجزة في بلعومها والدموع أطلت من عينيها, في الوقت ذاته أعلنت المضيفة أن الطائرة تجتاز منطقة مطبات هوائية وعلى الجميع الإلتزام بمقاعدهم, حينها انفصل كل من مارك وأليسون على أمل أن يلتقيا عما قريب.
قَلِقاً عاد مارك إلى مقعده, كيف له أن يترك ابنته دون اهتمام خلال ما يربو على النصف ساعة ؟, توقف على بعد أمتار وكانت ليلى لا تزال في مقعدها ترسم, وعندما رأى رسوماتها أحس بارتياح حقيقي, كانت رسوماً بألوان زاهية حيوية, فاقتنع أن تلوينات ليلى لم تكن من عمل طفل عانى صدمة عنيفة, حينها قلّب في الرسومات فرأى شكلاً هندسياً يتكرر على كل الأوراق وكان يمثل رمز دولاب القانون, قانون المصير البشري هذا الرمز الذي رآه منذ قليل على خاصرة أليسون !, حينها قال مارك : لماذا رسمت هذا يا حبيبتي ؟, أجابت الطفلة بهدوء : لا أعرف !!!, أصاب الذهول مارك فقد أجابته ليلى للتو, أحس مارك بأنه يعود إلى الحياة من جديد بعد أن طلبت منه ابنته البوظة وصارت ثرثارة فجأة, وكان عليه أن يستفيد من ذلك فسألها : هل تودين أن تحكي لي ما الذي حدث لك  يا حبيبتي ؟, قالت : ليس أمامك إلا أن توجه سؤالك لماما, كنت أراها غالباً والآن أريد أن أنام !!!.
تردّى مارك حينها في هاوية الحيرة ولكن مارك ظل يرفض تصديق أن نيكول استطاعت من قريب أو من بعيد أن تتورط في اختطاف ابنتها, تأمل مارك ليلى بحنان, ورثت ليلى ملامح نيكول ونظرة مارك كما يقول الناس, ومع ذلك كان مارك يدرك أن الأمر غير صحيح لمبرر وجيه وبسيط وهو أن ليلى لم تكن إبنته البيولوجيه !!, فعندما تعرف مارك إلى نيكول كانت في بداية حملها وكانت خارجة من علاقة مع رئيس الأوركسترا الفرنسي دانيال غريفين, ولكن مارك أحب ليلى كثيراً واعتنى بها كما لو أنها ابنته الخاصة, ولم يتحدثا إلى أحد بذلك فكان غريفين قد مات بأزمة قلبية ومع الوقت انتهى السر بأن تحلل إلى أن تلاشى بالكامل, وذلك لأن الحب هو ما ينسج العلاقات العائلية وليس الدم.
وبينما كانت إيفي تجلس بجانب النافذة لم تفتها نتفة من المحادثة بين مارك وابنته رغماً عنها, شكرها مارك وسألها إن كانت ابنته قد حكت شيئاً أثناء غيابه فقالت إيفي: إنها سألت عن موت أمها, فأراد مارك أن يعرف قصة إيفي أيضاً ؟, قالت إيفي مكملة بقية القصة عن والدتها: كان الوقت يقارب منتصف الليل وكان جرس الهاتف المحمول يرن, كانت مكالمة من المستشفى, ولقد أعلن لها الدكتور كرايج دافيس خبر توفير عضو من أجلها ويجب المجيء في الحال, وبالفعل انطلقنا إلى المستشفى وذهبتْ أمي إلى غرفة العمليات, مرت ساعة ولم يكن يفترض إلا أن ينتظرا سوى مدة قصيرة قبل بدء العملية, وأخيراً عاد الطبيب وقال : لدينا نتائج التحليل, لقد شربتِ الكحول مؤخراً وهذا يُبطل الإتفاق , حينها قالت الأم تيريزا مشدوهة: لم أشرب شيئاً يا دكتور وأقسمتْ على ذلك, وبعدها نادى الطبيب الشخص التالي الذي على القائمة وكان الكلام الأخير الذي وجهته لأمي : إنني أكرهك, وبعد ذلك ماتت ..
كان هناك امرأة تراقب إيفي وهي تتابع من بعيد مراسم جنازة أمها, وعندما وصلت إيفي على مقربة منها قالت لها: إسمي ميرديث دوليون وكنت أنا من قتل أمك قبل عام, فقد أظهرت الفحوصات إصابتي بسرطان الكبد, وكانت فصيلة دمي نادرة مثل فصيلة دم أمك, وكانت هي العائق أمام شفائي كما أخبرنا الطبيب دافيس, حيث قال الطبيب إنه إذا كنا على استعداد للقيام بمسعى مالي فسيتدبر الأمر لزحلقة أمك من برنامج المستقبلين, لقد فهمت إيفي أخيراً أنهم تلاعبوا بتحليلات الدم الخاصة بإمها, أكملت مريديث : إنني أريد أن أقول إنني لم أفعل ذلك من أجل أطفالي ولكني فعلت ذلك لأنني كنت خائفة من الموت, وذلك كل شيء  حيث تضعنا الحياة أحياناً في أوضاع صعبة لا نستطيع أن نتخلص منها إلا بالتخلي عن القيم التي ندافع عنها, وقد عرفت إيفي لاحقاً أن الطبيب قد غادر إلى نيويوك بعد وفاة أمها وقررت أنها ستقوم بما تراه مناسباً لتقتل الطبيب كرايج دافيس.
توقفت إيفي عن الكلام ثم تحججت في الذهاب إلى الحمام بينما رفع مارك هاتفه فوجد عدة مكالمات فائتة من رقم مجهول, فأعاد الإتصال فكانت نيكول, حينها فتحت ليلى عينيها فقال مارك : أتريدين أن تحكي مع ماما ؟ فقالت ليلى : لا وبلهجة قاطعة, إنبهر مارك فقالت نيكول : مارك يجب أن أنهي الإتصال, أعرف ما حدث لليلى أنا آسفة, حينها جاء صوت من الخلفية: (هذا يكفي), سأل مارك : من هذا يا نيكول ؟ من بجوارك, حينها جاء الصوت مرة أخرى: (أغلقي السماعة أو ستفسدين كل شيء), فقالت نيكول : أحبك وأغلقت الهاتف !. عاد في باله الصحفي الذي صرفه في المطار ومن ثم ابنته وبدا له أنهما كانا يحذرانه بالتناوب من نيكول, لم يعد يعرف ما العمل ؟.
إنحنت إيفي على مرحاض الحمام كي تتقيأ وجبة الإفطار الضئيلة, كانت وعكاتها الصحية تتكاثر, دوار وآلام في الرأس وطنين في الآذان, نهضت ومسحت وجهها وحينها أحست بحكة أجبرتها على أن تخمش نفسها, حينها طوت كمها فتراءت لها علامة بنفسجية خلف كتفها الأيسر فاستدارت لترى الشكل الغريب الموشوم لترى رمز دولاب القانون !!. أغلقت إيفي باب الحمام وقد أفزعها ما عاشته للتو, الوشم الذي على كتفها يشبه العلامة اللعينة التي صنعتها الطفلة الصغيرة الجالسة إلى جوارها ؟, إجتازت الطريق ووقعت حقيبتها فالتقطها مارك والتقط كتاب كونور الذي كان قد وقع منها فأخبر إيفي أنه صديقه فسألته : هل كل ما يرويه في كتابه حقيقي؟, فقال : كل شيء حقيقي, فقالت : ولكن ليس كل الحقيقة, هناك أشياء هامة لم يستطع كونور حكايتها. أغرق مارك نظراته في إيفي, كان يعرف أنه بوسعه أن يثق بها إنها منا أكد له ذلك صوته الداخلي فقال: لم يحكِ كل الحقيقة لأنه لم يذهب إلى السجن !.
تذكر مارك ... حي غرينوود في الطرف الجنوبي من شيكاغو, حيٌّ مليء بمشاهد الخراب, إنها بغداد تحت القذائف في قلب أمريكا, كان مارك الصغير يعيش مع أبيه الذي يعمل حارساً لمدرسة عامة, وكانت أمه قد هجرتهما لأنها لم تكن سعيدة, وتعرّف على كونور في نفس الحي حيث كان تلميذاً غريباً ومتوحداً وبملامح فوق أرضية وأصبحا صديقين, وبينما كان مارك يتسم بروح المبادرة والمثابرة والتعاطف فقد كان الأكثر هشاشة, وبالمقابل كان كونور هادئاً متأملاً ولكن أيضاً شديد التكتم ومعذباً بالبحث عن المطلق, إكتشفا سوية أن الحياة ليست سوى ألم أو وحشة وأن      العلاقات الإنسانية فيها تتشكل دون قوة, كانا يحلمان بالحصول على منحة للإلتحاق بإحدى كليات داون تاون, وكانت علاماتهما عالية ولكن ليس بالقدر الكافي لغض الطرف عن السمعة السيئة لمدرستهما, ويلزمهما الكثير من النقود, والنشاط الوحيد للحصول على بعضٍ منها هو الإتجار بالمخدرات, ولكن كونور كان له رأي مخالف فقال : إذا تخلينا عن قيمنا نكون قد تخلينا عن كل شيء , سنكون محظوظين لا أعرف كيف لكنني أقسم لك أننا سنخلص أنفسنا من هذا الوضع.
في أحد الأيام تعرض كونور لحريق من قبل أثنين من تجار المخدرات في المنطقة بينما كان يجلس بين سلات القمامة يدرس, كان في الخامسة عشرة من العمر ويريد فقط أن ينجز واجباته المدرسية, تحول كونور على أثر الحروق لمومياء مزخرفة بالحقن والشرائح الخشبية, وعندما رأى حروق جسده تلوّى أكثر, لقد صار وحشاً. كانت الطبيبة لورينا هي من اعتنت بكونور خلال فترة علاجه, وطمأن مارك كونور وقال له: إنها منا.
منذ حادث الإعتداء عليه لم يأت رجال الشرطة إلا مرة واحدة, وقد أعطاهم كونور الأسماء والعناوين ولكن لم يتبع ذلك أي شيء, فلا زال التاجران يتسكعان داخل الحي ليلاً نهاراً, وبدأت تتبرعم في ذهن كونور فكرة الثأر الذي لا يعرف الصفح !, كان كونور ليخفف عن نفسه يرسم الوجه نفسه دائماً, وجه يمنحه السكينة, وجه أنثوي ينبثق من حيث لا يعلم إمرأة لم يعرفها ...
لم تكن هناك وسيلة لخنق الألم الذي يحس به كونور سوى الإنتقام الذي لا يعرف الصفح, ولم يستغرق الأمر طويلاً فقد جمع المعلومات عنهما وصار الوقت لأن تنقلب الأدوار, الضحية أصبح جلاداً والجلاد أصبح ضحية, رش عليهما البنزين ثم أشعل عود ثقاب وبدأت النيران بالسريان, وأخذ صندوقاً مليئاً بالنقود كان بحوزتهما وهرب, وكان مارك ينتظره في الأسفل وهربا سوية .
لم يصدق مارك أنه قد باح بهذا القدر من أسراره لدرجة أنسته خيانة نيكول, بينما كانت إيفي قد أصغت لقصة مارك بافتتان ووجدت في قصة كونور صدى لقصتها الخاصة, فعندما كان كونور شاباً وجب عليه أن يواجه نفس الأسئلة التي تطرحها اليوم على نفسها : كيف نتخلص من الألم؟, وهل يمثل الثأر أفضل رد على الفظاعة ؟.
إنتابت مارك رغبة في الوصول إلى الرقم الذي اتصلت منه نيكول, إنطلق إلى رجل يتصفح أسعار البورصة على الإنترنت, تظاهر مارك أنه يترنح أمام الرجل وأسقط على نحو واعٍ عصير الفاكهة على قميص وبنطال الرجل, حينها صرخ الرجل وقام بإيداع حاسوبه في خزينة الأمتعة واتجه إلى الحمام بينما اتجه مارك ليسرق الحاسوب, وعلى الفور وضع رقم الهاتف على إحدى البرامج واستلم النتيجة الغريبة : كونور ماك كوي مركز تايم ورنر نيويورك .. !!!!, إذاً كان الصوت الذي يعطي نيكول الأوامر هو صوت كونور صوت أعز أصدقائه, ولكن ماذا كانت تعمل امرأته عنده بالضبط ؟, حينها قرر أن يفتح الهوتميل الخاص بنيكول ولكنه لا يعرف كلمة السر, وبعد عدة محاولات نجح في ذلك, كانت أغلب الرسائل عادية إلا رسالة غريبة من مصدر مجهول وكانت عبارة عن فيلم مسجل بواسطة كاميرا مراقبة, وعندما ظهر وجه ليلى على الشاشة تجمد الدم في عروقه وتوقف العالم عن الحركة حوله, كان الفيلم قد صور في اليوم الذي اختفت فيه ابنته, حينها اندهش مارك لأن البوليس أكد له أنه لا وجود لصورة التقطت لإبنته عن طريق كاميرات المراقبة, وهذا دليل أن رجال الشرطة كانوا يعرفون أشياءاً لم يقولوها قط , عاد إلى الكمبيوتر, توقف الفيديو, حينها تنازعه الغضب والغيظ وكان وقتها الرجل صاحب الكمبيوتر قد انتزع الجهاز من يديه وأراد أن يشتكي عليه.
إستيقظت ليلى وطلبت المثلجات فقام كل من ليلى وإيفي ومارك لتناولها, كان مارك للمرة الأولى يرى إيفي مع ابتسامة ولقد أدخل ذلك البهجة إلى نفسه, شعر بالحسرة لأنها لم تروِ نهاية قصتها لكن شيئاً ما كان يقول له أنه سيعرف المزيد عنها قبل الهبوط في نيويورك, فما من لا شك فيه أن هذه الرحلة كانت عظيمة وثرية بالحكايات ومفعمة بالإندهاشات الرائعة .
بعدما هرب  كونور ومارك إلى مانهاتن كان مارك يوجه دفة الأمور, فعثر على شقة صغيرة ليست بعيدة عن الحرم الجامعي, ثم وضع كل طاقته كي يأتي على آخر العوائق الإدارية لتسجيلهما في الكلية, فلم يواجها أي عوائق مادية  بفضل النقود التي حصل عليها  كونور لدى بائعي  المخدرات, كانا يدركان بالضبط ما يريدا عمله وهو الحصول على الدكتوراة لكي يفتتحا ذات يوم عيادتهما الخاصة. كان كونور يسترد عافيته تدريجياً ولكنه مع الفتيات كان على الدوام لديه ذلك الإنطباع بأنه يغشهن في السلعة, فبسبب تلك الحروق المغطية لجسده الداخلي فإنه كان يتعجل ليكون هو الذي يهجر عوضاً أن يكون هو من يُهجر, ومع ذلك فقد كان الرجلان تاجرا المخدرات لا يفارقان كوابيسه, وشعر بالأسف الشديد لقتله إياهما لأنه أصبح مثلهما .
نظر مارك لإيفي وقال : ليس عليك أن تعملي مثل كونور, ليس عليك أن تفسدي حياتك فيما تسعين للإنتقام, أستطيع أن أفهم ألمك, لقد تعرضتْ أمك لعمل إجرامي ومن الطبيعي أن تمتلئي بالغضب ولكن حوِّليه إلى قوة إيجابية, لو قتلتي ذلك الطبيب لن يعيد ذلك أمك ولن يعود شيء كما كان من قبل, عليك أن تصفحي وهذا لا يعني أن تنسي أو أن تغفري له فعلته, أتعرفين يا إيفي إن الشخص الحقيقي الذي تسعين لقتله هو أنت نفسك لأنك وضعت كلام أمك موضع شك، حينها استسلمتْ إيفي ودفنت رأسها في كتف مارك من دون أن تكون قد توقعت ذلك, كان قد حرر فيها شيئاً مطموراً في الأعماق السحيقة . ثم ذهبت إيفي إلى الحمام مع ليلى بينما لمح مارك أليسون وذهب إليها, فمنذ حدّة محادثتهما السابقة كانت تتمنى أن يعود فكان هذا الرجل الذي لم يكن وجهه غريباً عليها يمتاز بجاذبية غريبة لا تقارن بالسحر والفتنة, قال مارك : طرحتُ عليكِ سؤالاً هذا الصباح لكنك لم تردي عليّ , لماذا تسعين لمعاقبة نفسك ؟, في البدء بقيت أليسون صامتة ثم أحست نفسها منجذبة نحو حاجة لا تقاوم إلى الإفضاء بكل شيء, بالطبع كان بوسع النتائج أن تكون مرعبة, السجن الخزي يكون عند النظر بتمعن للأمر, فقد صارت حياتها منذ سنوات سجناً ثم قالت  : لقتلي صبياً صغيراً !.
كانت أليسون قد دعست طفلاً صغيراً أثناء أيام طيشها بينما تكفّل أبوها ريتشارد في دفنه حتى لا تنتشر الفضيحة, في اليوم الأول لم يحدث شيء وليس أكثر من ذلك في اليوم الثاني والثالث والرابع .. بعد أسبوع إعتَبر ريتشارد أنهم لن يصلوا إليهما أبداً وأن ابنته تخلصت من الورطة ... لكن كيف يسع المرء أن يمحو فِعلاً كهذا من ذاكرته ويتوهم أنه لم يحدث ؟.  زلزت قصة أليسون مارك وأرعبته فقال : ليس ثمة ما لا يغتفر عبثاً, ستتكبدين كل آلام العالم لكن ذلك لن يعيد الطفل إلى الحياة, حياتك لم تنتهِ, بإمكانك أن تجلبي المساعدة لأطفال آخرين, لا تبقي سجينة لماضيكي, ربما كان الألم لا يُجدي أبداً إلا أنه يفتح الطريق إلى شيء آخر, بعدها قام مارك ناسياً محفظته على الطاولة وحين لمحتها أليسون كان مارك قد غادر المكان, قاومت إغراء فتحها ووضعتها في جيبها وتعهدت بإرجاعها إليه في ما بعد على سبيل الوعد برؤيته مرة ثانية .
في اللحظة ذاتها في مانهاتن ألقى كونور نظرة ثانية على ساعته بعد أقل من ساعة, كان عليه أن يقابل مارك وهي اللحظة التي كان ينتظرها في مزيج من نفاذ الصبر والخشية, وعلى بعد أمتار منه تجلس نيكول تسأله : كيف ستكون ردة فعل مارك حين يعرف الحقيقة ؟, هو أيضاً كان قد طرح السؤال على نفسه هل ستصمد الصداقة التي كانت تربطه بمارك أمام ما يوشك أن يحدث ؟, ولكي يقنع نفسه بذلك تذكّر ليلة عيد الميلاد المفزعة, تلك الليلة حيث ثلاثة كائنات بلا هدف آلت إليه .
ليلة عيد الميلاد ... كان الثلج يتلألأ تحت مصابيح سوهو, بعدما ركن كونور سيارته صعد إلى شقته, إستشعر فراغاً كبيراً في داخله, أغلق كونور عينيه حيث كانت صورة إيفي مستمرة في التأرجح في أعماقه, حينها رن هاتفه فمن المؤكد أن المتصل نيكول ولكنه كان صوت فتاة هلعة تقول : أبي هو من دلني عليك, قال لي أنك الوحيد الذي يسعه مساعدتي, لقد قتلت شخصاً أنا أليسون هاريسون !, قال كونور : أين أنت الآن, أجابت: أسفل شقتك تماماً. بعد ساعة كانت أليسون نائمة على الكنبة, كان كونور يعرف من تكون فقد سبق وأن رأى صورتها في الصحف والمجلات, فإسمها دائماً كان مرادفاً للفضيحة والصحافة الشعبية, وخلال ساعة تقريباً روت أليسون قصتها المرعبة : حادث في السيارة الذي كلف الصبي الصغير حياته, الجثة الذي قام والدها بإخفائها, تكلمت عن الكبت واستحالة العيش ودوامة التدمير الذاتي ومحاولات الإنتحار, باحت أليسون في نهاية قصتها : الطفل الذي قتلته يظهر كل ليلة في أحلامي !, حينها انتابت كونور قشعريرة وهو يستمع إلى المرأة الشابة وكأنه يصغي إلى نفسه. في نفس الليلة أتاه اتصال آخر من الشرطة يقول : إثنين من رجالنا قبضوا على فتاة في عمارة إسمها إيفي هاربر وقالت إنها مريضتك, فكذّب كونور وقال : نعم إنها مريضتي, وأحس الطبيب بنوع من النشاط لمجرد التفكير أنه عثر على إيفي مجدداً, حينها كانت أليسون تصرخ إبتعد يا جيرمي!, كانت تحلم فأيقظها كونور فقالت : إسم الطفل الذي قتلته جيرمي, كان مدوناً على سلسلته التي وجدتها في سيارتي ثم أخرجت السلسلة لتريها للطبيب.
راح الطبيب يلبس معطفه ليأخذ إيفي وغادر الشقة ليستطيع أن يعبر عن ألمه, كان يعرف من يكون جيرمي !!!!!, أخذ كونور إيفي من مركز الشرطة واصطحبها إلى عيادته وبعدها جاءه الإتصال الثالث في الليلة ذاتها وكانت نيكول وقالت : عليك أن تساعدني, أحدثك بخصوص مارك, كان يعيش في الشارع, إنه منهك القوى ولديه مشاكل صحية عديدة إذا لم نقم بشيء سيموت !, عاش كونور للتو ليلة غريبة خلالها آلت اليه ثلاثة كائنات جريحة وهي أليسون وإيفي ومارك, أحس أنه يرزح تحت مسؤولية ثقيلة, هل سيكون قادراً على مساعدتهم وكيف ؟.
تابعت الطائرة هبوطها بينما قالت ليلى : لقد رأيتك عندما كنت في الظلام في النفق نفق المترو .. إستغرق مارك لحظة طويلة ليفهم أن ليلى تعرف أنه كان يمضي حياته في أنابيب المجاري وأنفاق مانهاتن, عامان دفن خلالهما نفسه حياً في عالم المهمشين ثم أكملت : لقد شعرت بالحزن لأنني رأيتك, لقد كنتُ في الأعلى !! وصوبت أصبعها نحو السقف !, حينها قال مارك : لماذا لم ترضِ أن تتحدثي إلى ماما ؟, قالت : لأنها كانت تعرف ذلك في حينه .. كانت تعرف أنني ميتة !!!!!!.
في اللحظة ذاتها في المقصورة العليا كانت أليسون تضم بيدها المحفظة, دفعها الفضول لفتحها فكان هناك صورة لمارك وزوجته, حملقت أليسون في نيكول فوجدتها جميلة جداً وأنيقة, وبينما كانت تتأهب لإغلاق المحفظة لاحظت صورة أخرى ملتصقة خلف صورة الزوجين, كانت صورة شخصية لفتاة في حوالي الخمس سنوات بهيئة صبي متأنث في يدها سلسلة فضية نقش عليها إسم جيرمي !!!, لقد فهمت أليسون أنها صدمت إبنة مارك وبسبب خوفها وهلعها هُييء لها أنه صبي, ولعلها علمت في ما بعد أن السلسلة تنتمي إلى ابن عم ليلى الذي كان قد قدمها هدية لها عندما كبر معصمه ولم يعد يتسع لها, حينها نهضت أليسون وهرولت إلى المقصورة الرئيسية . أكملت ليلى كلامها لمارك : أنا منذ البداية متوفية منذ ارتطمت بي السيارة, كنت قد خرجت من المحل كي أتسلى فضعت بسبب العاصفة فكان من المسلّي المشي تحت المطر, نعم لقد مت ولكن يجب عليك ألا تحزن, حينها صرخ مارك في محاولة أخيرة : كلااااا !!.

إستدار الطبيب فرأى أليسون تريد أن تخبره بما عرفت, إستدار مارك وأليسون نحو مقعد ليلى, البنت الصغيرة لم تعد هناك !! لكن ذلك ليس كل شيء, المضيفات والستمائة راكب تلاشوا, كانت الطائرة في الهواء خاوية ولم يكن قد تبقى سوى ثلاثة أشخاص : مارك, إيفي, واليسون !!, لا يوجد حتى طيار أو مساعد له, كانت الطيارة تتحرك منقادة لقوة غير مرئية, إقترب مارك وأليسون وإيفي من بعضهما, تلامست أيديهم وأكتافهم وكانوا خائفين, حاول كل دماغ منهما أن يجد تفسيراً عقلانياً لما هم بصدد عيشه, أهو الحلم أم هلاوس كوكائين أم أنهم يتهيأون للموت ؟, قبل تحطم الطائرة ببضعة ثوان همست أليسون لمارك : أنا آسفة ! بينما استدار مارك نحو إيفي وقال لها : لا تخافي !, إرتطمت الطائرة بسطح الماء بعنف ثم تعالت صرخة مبتورة ثم بعض الأزرق يليه بعض الأسود وبعد ؟؟ و بعد ...

ثلاثة أجساد مارك وأليسون وإيفي, ثلاثة أجساد ممددة جنباً إلى جنب في رواق المستشفى, ثلاثة رؤوس غُطيت بخوذة مزودة بأقطاب كهربائية موصولة بجهاز كمبيوتر, وكان كونور ونيكول ينتظران استيقاظهما .. لم تكن ثمة طائرة ولا رحلة ولا حادثة تحطم إطلاقاً, إلتقاء مارك وأليسون   وإيفي كان سيناريو من سيناريوهات العلاج الجماعي المؤسَّس على التنويم المغناطيسي بهدف معالجتهم جميعاً, معالجة الثلاثة أشخاص الذين أتوا طالبين مساعدته في ليلة عيد الميلاد الشهيرة !, لم يكن كونور ولا نيكول اللذان حاولا أن يعلنا لمارك أن ليلى قد ماتت, فمن شأن مكاشفته بذلك أن تحوله نحو الإنتحار أو الجنون, فكانت تلك الخطة التي وضعها الدكتور كونور ليجتذب إيفي نحو التخلي عن انتقامها وجعل أليسون تتقبل إثم قتل ليلى !.

بدأ المنوَّمُون الثلاثة بالإستيقاظ, تقدم كونور نحو مارك ووضع يده على كتفه مطمْئِناً إياه, ثم استيقظت بعده أليسون ثم إيفي, تم إضاءة ضوء الحجرة تدريجياً فتراءى لعيون الجميع الدكتور كونور, وكان مُطرّزاً على جيب سترته رمز العيادة وهو رمز دولاب القانون !, هل أفلح كونور في رهانه ؟, لطالما فتنه التنويم المغناطيسي, حيث في حالة التنويم المغناطيسي يقوم الطبيب ومريضه بالولوج إلى خزائن اللاوعي وإلى الذكريات المنسية ويعيش الأحلام كما لو كانت واقعية, كان على إيفي وأليسون ومارك مواجهة شياطينهم ومخاوفهم الأكثر عمقاً, وهكذا لعب التنويم المغناطيسي بإعطائهم إيحاءات للحداد والقبول والصفح, واستخدم كمسرِّعٍ للعلاج متيحاً لأرواحهم أن تحرز في بضعة ساعات التطورات التي كانت تتطلب سنوات من العلاج التقليدي !, بعدها غادر المرضى الثلاثة العيادة وتبعهم كونور وراح يراقبهم من بعيد لأنه ليس بوسع المرء أن يتوقع نتائج هذا النوع من العلاج, فالنتائج ليست مضمونة, حينها ابتعدت أليسون مشيرة إلى سيارة التاكسي ومودعة الطبيب النفسي بإشارة من يدها, بينما ابتعدت نيكول نحو سيارتها, وجلس مارك بجانب كونور يقول : لو رأيت كم كان وجهها حقيقياً, كانت واقعية جداً وحية جداً !!, شكراً لسماحك لي بالتحدث إليها مرة أخرى, كان أمراً مهماً بالنسبة لي !, ثم اقتربت نيكول لتسأل مارك : أين تريد أن تذهب ؟ فقال دون تردد : إلى بيتنا !.
كانت الشمس قد اختفت تدريجياً وكانت إيفي تجلس بالقرب من سياج أحواض السفن, فجلس كونور إلى جانبها وسألها عن حالها فقالت بخير, كان عليه أن يتأكد أن إيفي لن تنتقل إلى التنفيذ لقتل ذلك الطبيب, وبعد ترددٍ أخيرٍ إقترب من إيفي أكثر وأخرج من جيب معطفه مسدساً ذو مقبض حديدي .. لم تكترث إيفي لرؤية المسدس ثم قال : لقد عثرت على كرايج دافيس, إنه يعيش في شارع القديس جون الديفين, أعرف رقم شقته وبوابة المدخل ومواعيد دوامه, لو تطلبين مني القيام بذلك فأنا على استعداد أن أذهب لقتله, إذا أردت أن تثأري لنفسك فإن ذلك سينتهي هذا المساء .. مرت دقيقة قبل أن تلحق إيفي بكونور ومن دون كلمة إنتزعت المسدس من يديه وبمزيج من النفور والإفتتان نظرت إلى السلاح وألقته بكل قواها في المياه الباردة !.
لم يعد مارك قط إلى عمله في عيادة كونور, فبعد شهرين من جلسة العلاج حصل على وظيفة طبيب شوارع نفساني يعالج المتشردين بكل ما أوتي من علم, وفي ذات صباح علم مارك من الراديو بخبر وفاه أليسون هاريسون بحادث سقوط هيليكوبتر في الأمازون, واستُغرق عدة أشهر لتحديد مكان حطام الطائرة ولكنهم لم يعثروا قط على جسد الطيار أو على جثة الوريثة الثرية, وبعدها بأشهر تلقى مارك بطاقة عليها إشارة دولاب القوانين دون توقيع, ولكنه فهم على الفور أنها من أليسون تقول : غالباً ما أفكر فيك لعلك كنت على صواب, من واقع القول أن بوسع المرء أن يبدأ حياته من جديد ولا يكتفي بمواصلتها, فقط الأمل هو ما أتشبث به من الآن فصاعداً ... ثم سلسلة أرقام عرف من خلالها أنه المكان الذي دُفنت فيه ليلى حسب موقع ال جي بي إس. وانطلقا سريعاً هو ونيكول ليقولا للصغيرة وداعاً, ثم استولت عليهما الحياة مجدداً فرزقا بطفل أول ثم بثان بعد ثلاث سنوات !. ومرت السنون, وبعد عشر سنوات حدثت مصادفة غريبة إذ إلتقت عيني مارك بامرأة وتأكد أنها أليسون هاريسون, فيزيائياً كان قد طرأ عليها تحول غريب, لم يكن يشعر بأي مرارة نحوها وتمنى أن تكون قد وجدت السكينة. خمن حينها مارك أن أليسون قد بدأت حياتها تحت هوية أخرى برفقة كابتن الطائرة الذي ساعدها في اختلاق موتها, وأنها سعيدة في نهاية المطاف !. من جانبها تعرّفت أليسون إليه ومع أنهما لم يتبادلا سوى نظرة طويلة فقد رأى كل منهما في نظرة الآخر إنعكاس لكل ما قاساه .
خرجت إيفي جرياً من المستشفى وناولت التاكسي عنوان المطعم, كانت قد مضت عشر سنوات منذ لقائها بكونور, وصارت المراهقة إمرأه جميلة في الخامسة والعشرين, حصلت على شهادتها الجامعية في الطب, أرادت إيفي أن تشكر كونور على كل ما فعله من أجلها فهو من دفع تكاليف دراستها واستقبلها في أحضان العائلة التي يشكلها مع مارك ونيكول, ومن ثم كان لديها اعتراف يجب أن تبوح به, شيء ما كان يثقل قلبها منذ وقت طويل. فتشت إيفي في ملفات كونور القديمة في المستشفى ووجدت رسوماته القديمة وصورة وجه المرأة التي كان يرسمها, لقد كان وجهها, وهذا أعطاها الشجاعة للإعتراف بحبها لكونور.
وصل كونور مبكراً إلى المطعم وأخذ يتذكر كل ما مر به وأنه قد حصل على لقب أفضل دكتور في أمريكا قبل عامين, أما على المستوى العائلي فكان مارك هو الشخص الوحيد الذي تجرأ فباح له بالسر الذي يعذبه ويتصارع معه منذ قرابة العامين. لم تكفّ إيفي خلال كل تلك السنوات عن مباغتته محاولة دونما توقف أن تنال إعجابه. من جانبه ولوقت طويل إتّسمت علاقتهما بتواطؤ قوي ثم ابتعد عنها حينما تأكد له أنه واقع في غرامها, لقد أحب كل شيء فيها, حينما يكون معها يحس باستيقاظِ ما كان يفتش عنه في أعماقه وهو الأمل والرغبة في الإنفتاح والثقة بالمستقبل, هو الآن في الخامسة والأربعين من عمره, تذكر ذلك ثم ترك المكان وذهب إلى حي طفولته, تحدى خوفه وتذكر كل ماضيه, وحينما خرج كانت إيفي بانتظاره قرب السيارة, عثرت عليه في أعماق نفسها, بثقة تقدمت تجاهه, كانت تعرف أن كل شيء سيسير على ما يرام من الآن فصاعداً لأنه هنا, حيث نتحاب لا يخيم الليل أبداً .