الأحد، يناير 31، 2016

تونس الخضراء 48


في شقة منير، وبعد أن صلينا الفجر، أخذني منير من يدي ودخل بي إلى المطبخ، كان أبوه واقفا يغسل بعض الأطباق، ناداه فعرّفه بي، وعرفني عليه بقوله:
-         خليفة، والدي.
-         أهلا وسهلا بك عم خليفة.
استأذن منير لينام، وأشار عم خليفة أن أنتظر معه، أخبرني بلهجته التونسية سريعة الإيقاع أنه قضى أكثر من نصف حياته في ألمانيا، هناك تزوج وهناك أنجب أولاده الأربعة، وبعد الثورة عاد إلى تونس مع ابنه منير. كان عم خليفة يقطع المطبخ ذهابا وإيابا، إيقاع حركته سريع وإيقاع كلامه أسرع، الأمر الذي أفقدني صوابي، وأشعرني بتوتر، واضطرني أن أستأذن منه لأنام.
نمت حتى التاسعة، وعندما استيقظت وجدت رسالة من الأخ محمد رابح يخبرني فيها أنه قادم إلينا بعد قليل، أسرعت إلى غرفة منير فأيقظته وأخبرته بالرسالة، نهض منير فارتدى ملابسه وارتديت ملابسي أنا الآخر، ثم تناولنا فطورا سريعا قطعه صوت هاتف منير.
كان المهندس محمد رابح ينتظرنا أسفل العمارة، كان لديه برنامجا أعده خصيصا لزيارتي. تحدث إلى منير يستشيره في البرنامج، هل نذهب اليوم إلى قرطاج وسيدي بوسعيد، أم نتجول في وسط العاصمة؟
لم يأتي معنا منير، فقد كان على موعد مع بعض العمال لتصليح أشياء في الشقة. إلى أين يا أخ رابح؟ تساءلت.

-         إلى قرطاج.

الثلاثاء، يناير 26، 2016

توس الخضراء 47


في مسجد عثمان بن عفان، كان عدد المصلين ليس بالكبير، وكما هو الحال في المساجد الأخرى؛ فالإمام يقرأ برواية قالون عن نافع، ويصمت طويلا قبل الركوع، ويسلم تسليمة واحدة. وقد أصبحت كل هذه الأمور عادية بالنسبة لي، إلا أمراً واحدا لفت انتباهي؛ فبعد أن انتهت الصلاة وهممنا بالخروج من المسجد وقعت عيني على ورقة معلقة على الباب مكتوب فيها ما يلي:
"ماذا يقول العلماء حول مسألة الجماعات العاملة للإسلام
لا مانع أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام ما دامت الوحدة متعذرة عليهم بحكم اختلاف أهدافهم واختلاف مناهجهم، واختلاف مفاهيمهم، واختلاف ثقتهم بعضهم ببعض على أن يكون هذا التعدد تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تعارض وتناقض، ويتم بين الجميع على قدر من التعاون والتنسيق، حتى يكمل بعضهم بعضا، ويشد بعضهم أزر بعض، ويقف الجميع صفا واحدا في كل القضايا المصيرية التي تتعلق بالوجود الإسلامي وبالعقيدة الإسلامية وبالشريعة الإسلامية، وبالأمة الإسلامية.
وعلى أية حال يكون حسن الظن والتماس العذر فضيلة يتصف بها جميع الأطراف فلا تأثيم ولا تضليل ولا تكفير بل تواص بالحق، وتواص بالصبر وتناصح في الدين، مع التزام الحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.
ومثل هذا التعدد أو الاختلاف – اختلاف التنوع- لايؤدي إلى تفرق ولا عداوة، ولا يلبس الأمة شيعا، ويذيق بعضها بأس بعض، بل هو تعدد واختلاف في ظل الأمة الواحدة، ذات العقيدة الواشجة. فلا خوف منه، ولا خطر فيه، بل هو ظاهرة صحية ولكن الذي يدمي القلب حقا أن يوجد بين الدعاة والعاملين من لا يقدر هذا الأمر حق قدره، وأن يبذر بذور الفرقة أينما حل، وأن يبحث عن كل ما يوقد نيران الخلاف، ويورث العداوة والبغضاء، وتركيزه دائما على مواضع الاختلاف، لا نقاط الاتفاق، وهو دائما معجب برأيه، مزك لنفسه وجماعته، متهم لغيره. والحق أن الاختلاف في ذاته ليس خطرا، وخصوصا في مسائل الفروع، وبعض الأصول غير الأساسية، إنما الخطر في التفرق والتعادي الذي حذر الله ورسوله منه".

كشفت لي هذه الورقة عن وجود خلاف ما من نوع ما، فما كانت هذه الورقة لتكتب وتعلق على باب المسجد بهذه الطريقة التي تكررت فيها كلمة الاختلاف ومشتقاتها أكثر من عشر مرات إلا لكون شئ ما قد حدث. ترى ماذا حدث ومن هم أطراف الصراع وما هو سبب  هذا الاختلاف؟! 

السبت، يناير 23، 2016

تونس الخضراء 46


قبل أن نصعد إلى شقة منير كنا قد عرجنا على مطعم يبيع البيتزا، أكلت فيه نصف واحدة، ثم حملنا النصف الثاني لنأكله وقت أن نجوع. كانت الشقة في الطابق الرابع، في منطقة جديدة يسكنها الأغنياء، تسمى حدائق المنزه. أدخلني منير إلى غرفة بها سرير ودولاب، قال هذه غرفتك، كان يتحدث إلي همسا، ولما سألته عن السبب، قال: حتى لا نزعج والدي الذي ينام في الصالة. قلت له: فليأت والدك لينام هنا وسأنام بدلا منه في الصالة. رفض منير متعللا بأن والده هو الذي اختار.
رميت بجسدي فوق السرير أو أن جسدي هو من رمى بنفسه لا أذكر، كل ما أذكره هو أنني سمعت منير يطرق باب غرفتي في الخامسة صباحا، هيا لنصلي الفجر.

توضأنا سريعا، ثم تحسسنا طريقنا إلى باب الشقة حتى لا نوقظ والد منير، استخدمنا السلم للوصول إلى الطابق الأرضي؛ فالمصعد كان معطلا. عند بوابة العمارة خيَّرني منير بين أن نركب السيارة فنذهب إلى مسجد في أعلى الجبل، إذ المنطقة التى نسكن فيها واقعة عند سفح هضبة مرتفعة، أو أن نذهب إلى مسجد قريب سيرا على الأقدام. اخترت أن نترجل فنذهب إلى المسجد القريب، كان الهواء منعشا، به لمسة من برودة، وكان الطريق به آثار أمطار. بعد حولي خمس دقائق عبرنا فيها طريقا سريعا ثم أرضا فضاءا تعثرت أقدامنا في وحلها، وصلنا إلى مسجد من طوابق ثلاث، اسمه مسجد عثمان بن عفان، كان عدد المصلين ليس بالكبير، وكما هو الحال في المساجد الأخرى؛ فالإمام يقرأ برواية قالون عن نافع، ويصمت طويلا قبل الركوع، ويسلم تسليمة واحدة. وقد أصبحت كل هذه الأمور عادية بالنسبة لي، إلا أمراً واحدا لفت انتباهي؛ فبعد أن انتهت الصلاة وهممنا بالخروج من المسجد وقعت عيني على ورقة معلقة على الباب مكتوب فيها ما يلي:

الخميس، يناير 21، 2016

تونس الخضراء 45


في تونس العاصمة..
كان الوقت متأخرا وقت وصولي محطة برشلونة، نزل الناس من القطار كالفيضان، وبحثت عن منير فلم أجده، كنت أسير مع السائرين، لا أعرف إلى أين المسير، تعمدت أن أبطئ حركتي حتى تتلاشى الجموع، فرأيتني أقف عند البوابة الرئيسية، التفت عن يمني وشمالي فلم أجد أحدا، كانت المحطة خالية أو تكاد، أخرجت هاتفي وبحثت عن رقم منير، وبينما أضع الهاتف على إذني إذ بي أراه يمسك بيدي ويقول: هأنذا، منير.
شاب في بداية العقد الثالث، نحيف، أبيض البشرة، أطول مني بكثير، لغته الأم هي الألمانية، ولكنه يعرف الإنجليزية، ويتحدث الفرنسية بطلاقة، ويحاول الحديث معي باللغة العربية. أصر منير أن يحمل عني حقيبتي، آه نسيت: دمث الخلق إلى حد لا يمكن تصوره، مرحبا بك بعد طول بعاد يا منير.
لم تكن الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بعد، إلا إن جميع المحلات كانت قد أغلقت أبوابها، وكانت الشوارع شبه خالية من المارة ومن السيارات كذلك. مرحبا بك يا منير.
منير قليل الكلام، أعرف ذلك، ولكن المقام لا يحتمل صمتا يا منير، قل لي: ما هذا الشئ الذي يشبه المسلة الفرعونية ويحمل في قمته ساعة مضيئة يا منير؟
-         إنها ساعة تذكارية، وهذا هو شارع الحبيب بورقيبة. أجاب منير باقتضاب، ثم ساد الصمت بيننا.

مد منير يده ليضغط على زر السي دي، فخرج منه صوت يحي الفخراني، كانت حلقة من مسلسل "قصص الحيوان في القرآن"، أخبرني منير أن هذا المسلسل يساعده على تعلم اللغة العربية، وقلت له: إن هذا المسلسل يساعدني على النوم.

الثلاثاء، يناير 19، 2016

تونس الخضراء 44


إلى تونس العاصمة...
كان القطار مزدحما بشكل غير طبيعي، بالكاد وجدت موضع قدم لي ولحقيبتي، وقفت أتحدث مع رجل تعرفت عليه أثناء انتظارنا القطار، كنت مجهدا، متعبا، أريد أن أنام، وكان الرجل كثير الكلام، حكى لي عن عمله كمهندس ميكانيكا في ألمانيا لعدة سنوات، ثم عن عودته لتونس بعد الثورة، ومن ثم رحلة بحثه عن عمل كانت نتيجتها أن يعمل نقاشا باليومية. كنت أحاول أن أبدو متأثرا لكلامه، وكنت أهز رأسي موافقا إذا كان الكلام يحتاج لموافقة، ورافضا إذا كان الكلام يحتاج لرفض، بينما لسان حالي يقول: أرجوك، اتركني وشأني.
في هذا الزحام الخانق رن هاتفي، كان منير، أخبرته أنني في القطار وأنها مسافة السكة، وسمع مكالمتي شباب هائجون، فالتفتوا نحوي سائلين: الأخ مصرى؟
أومأت برأسي موافقا ثم اصطنعت ابتسامة، قال أحدهم: عادل إمام، ههههه، وأطلق ضحكة مدوية، انتبه إليها جميع من في العربة، وأحسست أن الأنظار كلها تتجه نحوي، بل لقد توجهت نحوي بالفعل، وانضم إلى الشاب شباب آخرون، وانهالت عليّ الأسئلة: من أين أنت في مصر، ولماذا جئت إلى تونس، وما رأيك في تونس؟ ورأيتني عاجزا عن الرد، أود لو تنشق بي عربة القطار فأختفي أو يختفون. وحمدت الله أن توقف القطار فحدثت جلبة وتفرق الجمع، ووجدت مكانا لأجلس فيه.

ظننت بجلوسي أن الأمر سينتهي، إلا إنها دقائق وجائني اتصال آخر، كان هذه المرة من الأخ محمد رباح يطمئن على حالي، أخبرته أن كل شئ على مايرام، وأنها دقائق وألتقي بأخينا منير، وانتهت المكالمة، وعلى الرغم من محاولتي الحديث بصوت منخفض الإ إنني سمعت من خلفي أصواتا نسائية تضحك، ههههه، مصري!

الاثنين، يناير 18، 2016

ولا عزاء للرجال


اسمح لي أن أحكي لك قصة حدثت لى مع ميكروباص التحرير!
أول أمس وكالعادة، ركنت سيارتي بجوار مسجد الحصري ثم عبرت الطريق خلف محطة البنزين، هناك ساحة كبيرة جعلتها الحكومة منذ وقت قريب موقفا للميكروباصات، أفضِّل أن أركب ميكروباصات الموقف على أن أركب الميكروباصات التي تتوقف كل دقيقة في الشارع لتحمل الزبائن أو ترميهم، ميكروباصات الموقف أغلى من ميكروباصات الطريق بنصف جنيه، إلا إنها نادرا ما تتوقف في الطريق، فركابها غالبا ما ينزلون في المحطة الأخيرة، محطة عبد المنعم رياض.
هذه المرة حدث لى شيئا ظننته في بداية الأمر عفويا وغير مقصود، ولكنك ستعرف في ثنايا القصة أنه شئ له دلالة. ذلك أنني عندما اقتربت من ميكروباص التحرير وهممت بالدخول فيه إذ بامرأة تغطي وجهها بشال أسود دفعتني لتدخل أولا، أفسحت لها الطريق مفترضا حسن النية، ورأيتها تجلس في الكرسي الأخير من الميكروباص بجوار النافذة، فجلست في نفس الكرسي ولكن بجوار النافذة المقابلة، وجاء رجل بدا من هيئته أنه موظف مرموق إذ كان يرتدي بدلة برابطة عنق فجلس بيننا. نادى السائق أنه يريد واحدا ليتم به الميكروباص الواقف أمام ميكروباصنا، وهنا اندهشت السيدة الجالسة بجوار النافذة المقابلة لنافذتي وتساءلت: لماذا بدأو في تحميل هذا الميكروباص قبل أن ينتهوا من الأول؟! ونظرت إليها فإذا بها قد أزاحت الشال عن وجهها.
تحرك الميكروباص وبدأ الجميع في إخراج نقودهم، أعطيت الجالس بجواري خمسة جنيهات فأعطاني جنيها حديديا جديدا، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا النوع من الجنيهات، جنيه مطبوع عليه صورة قناة السويس الجديدة، سأحتفظ بك أيها الجنيه للذكرى.
سمعت السيدة صاحبة الشال المتأرجح بين الصعود والنزول وهي تقول: لا، أنا بادفع الأجرة الرسمية، تلاته جنيه ونص.
 لم يعجب الرجل البدين الذي كان يجلس أمامي مباشرة كلام السيدة، فرد النقود إليّ من دون أن يلتفت، بينما أخذ يتمتم بكلمات سمعت منها: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم. أخذتُ منه النقود ورددتها إلى السيدة، فقامت بإعطائها رجل غيره وهي تقول: ربنا يهدي.
كنا قد خرجنا من الموقف، وعبرنا مسجد الحصري ثم اجتزنا المطب الأول، فالمطب الثاني واقتربنا من المطب الثالث. عندها سمعت الراكب في الصف الأول خلف السائق يقول: يا جماعة فيه نص جنيه ناقص.
ردت عليه السيدة وهي تقول: أنا بادفع الأجرة الرسمية والسواقين كلهم عارفين.
مد الرجل يده بالنقود إلى السائق قائلا: أجرتك يا أسطى.
استقام الميكروباص في طريقه، وانشغل الركاب بسماع ما يبثه المذياع من برامج صباحية، وانشغلت أفكر في الطريق وما يجري فيه من إصلاحات، كل عام يقومون بعمل تجديدات للأرصفة، يزرعون شجرا وينزعوه بعد أن يكبر، يقيمون ميدانا في بداية العام ويزيلوه في نهايته، يبنون إشارات إلكترونية حديثة ثم يهدمومها بعد وقت قليل من بنائها. وقطع تفكيري صوت السائق وهو يقول: الأجرة ناقصة نص جنيه يا جماعة.
صاحت السيدة صاحبه الشال المرفوع قائلة: الأجرة الرسمية ثلاته جنيه ونص يا اسطى، ولو مش عاجبك نروح للبوليس.
-          هو انتي؟! تساءل السائق وهو ينفخ نفخة شريرة.
-          أيوه أنا، وبعدين مش اسمها إنتي، اسمها حضرتك، أنا الدكتورة ....
-          يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم ع الصبح! صاح السائق
-          طب والله العظيم ما أنا سيباكم، أوقف عند الداخلية اللي عند هايبر يا أسطي. صاحت السيدة
أشاح الرجل بيده في إشارة منه أن افعلي ما تشاءين.
وصلنا عند ميدان جهينة فكان العمل يجري فيه على قدم وساق، فقد أزالوا منه جميع النخل الذي كان يزينه لسنوات، ثم بدأو بصب خرسانة يبدو أنهم يريدونها نافورة أو شئ من هذا القبيل.
مررنا بجامعة النيل، زويل سابقا، ثم بالصحراء على الجانبين فسمعت صوت السيدة صاحبة الشال ترتل القرآن، كان صوتها مرتفعا، وتلاوتها سريعة. قطعت السيدة التلاوة لتسأل الرجل بجواري: هل اقتربنا من هايبر؟ أجابها باقتضاب: لسه.
بالقرب من هايبر ماركت وقع بصري على عسكري مرور يفرك يديه من البرد، نادت السيدة على السائق كي يتوقف، لم يسمعها السائق، أو ربما سمعها وقام بتجاهلها. علا صوت السيدة صارخة: أوقف يا أسطى، والله ما سيباك.
-          يا ستي ما اصطبحناش ع الصبح، الله يهديكي. صاح السائق.
-          لا، لازم توقف. انت بتغلّي الأجرة وكمان مش عاجبك؟! قالت السيدة.
كنا قد ابتعدنا عن نقطة الشرطة بعدة خطوات تجاوزت المائة، عندها بدأ السائق بوضع قدمه على مكبح السيارة حتى توقفت ببطئ، لتزيد معها عدد الخطوات فتصبح حوالي مائة وعشرين. فتح السائق بابه ثم نزل فدار حول الميكروباص مقتربا من نافذة السيدة، فتحت السيدة نافذتها ثم صاحت: لو سمحت روح هات البوليس.
-          لا، اتفضلي انتي روحي ها تيه، أنا مستنيكي هنا.
-          لو سمحتوا يا جماعة حد يروح ينادي على الظابط. صاحت السيدة.
لم يستجب أحد، نظرتُ إلى الركاب فلم يكن من سيدة سواها، صاحت مرة أخرى:
-          يا جماعة أنا عارفه، لو أنا نزلت السواق ها يسيبني ويمشي، من فضلكم حد يروح ينادي على الظابط.
-          يا ستي مفيش حد في الكمين. قال أحدهم.
-          من فضلك لو سمحتي أنا عندي امتحان ومتأخر. قال آخر.
-          ياستي مش مشكلة علشان اللي عنده امتحان ده. صاح ثالث.
-          أنا كمان متأخره على شغلي، بس إحنا لازم ندافع عن حقوقنا يا جماعة. قالت السيدة.
-          لو حضرتك معاكي رقم الضابط ممكن تكلميه يجي. قال الرجل بجواري.
أخرجت السيدة هاتفها ثم بدأت بالبحث عن رقم الضابط، اتصلت به فلم يرد، عاودت الاتصال فلم يرد، قالت: يبدو أنه لا يسمع الهاتف.
-          لا يسمع إيه يافندم، هو فيه ظابط ها يوقف في الكمين دلوقتي؟! تساءلت في اندهاش.
-          أيوه يا فندم فيه ظابط في الكمين. أجابت السيدة في ثقة.
-          يا فندم اللي واقف كان عسكري مش قادر يصلب طوله من البرد.
في الخارج كان يقف السائق ومعه بعض الركاب في شد وجذب. وفي الداخل كانت السيدة تحاول الاتصال بالضابط مرة أخرى، وعندما فشلت في الوصول إليه استدارت نحوي قائلة:
-          على فكرة، المشكلة في أكتوبر إن عدد الضباط قليل جدا. قالت السيدة.
-          تمام، يبىقى نتكل ع الله ونمشي لشغلنا، على ما عدد الضباط يكتر. أجبت في حدة.
-          لا يا فندم، احنا لازم نكون إيجابيين وما نسيبش حقنا. قالت السيدة.
-          يا فندم كنا إيجابيين وفي الأخر ما حدش كان بيعبرنا وبيوقفوا مع السواقين ضدنا.
ركب السائق وركب الركاب، واستعد السائق للانطلاق ثم صاح: حرام عليكي، ليه الأذى ع الصبح، والله لو كنت شوفتك في الموقف ما كنتش ركبتك، بس انتي بتيجي متخفيه في النقاب.
-          ملكش دعوه بالنقاب، ده حرية شخصية، صاحت السيدة.
هنا فهمت السر وراء تدافعها ووراء تغطية وجهها، والحق أني تعاطفت معها، بل استجدعتها، امرأة  بخمسة عشرة رجلا، ولكنها تسبح ضد التيار، وتحارب أشباح وبلطجية، لا الوقت ولا الصحة يسمحان بذلك، ربما لديها الوقت ولديها الصحة! ربما.
ساد الصمت لدقيقة، قطعته بصوتها المرتفع.
-          على فكره الأجرة الرسمية تلاته جنيه ونص.
-    طب لما هيا تلاته جنيه ونص فين الرقابة؟ ولا كل يوم احنا نعمل مشاكل مع السواقين؟ مش المفروض الضباط هم اللي يطبقوا القانون؟ ولا يسبونا احنا نطبقه؟
-          لا يافندم حضرتك عدد الضباط قليل، لأنهم عمالين يتقتلوا، فلازم لما احنا نشوف غلط نبلغ عنه؟
-          واشمعنا عددهم كبير في القاهرة؟
-          لأن القاهرة عاصمة وفيها مؤسسات كتيرة زي البرلمان وزي الوزارات.
-          يا سلام، نموت احنا بقى علشان هما يحموا العاصمة؟  مش احنا بندفع ضرايب برده ولا لأ.
استدار شاب يجلس بجوار الرجل البدين، نظر إلى قائلا: لو سمحت سيب الست تقرأ قرآن ما تعطلهاش. ورتب الرجل بجواري على كتفي قائلا: خلاص يا ابني.
لم تسكت السيدة، وواصلت حديثها إلي مدافعة عن الشرطة، ثم قالت:
-          حضرتك لو عندك وقت تعالى معايا وأنا أثبت لك إن الشرطة شغالة على أكمل وجه.
-          للأسف أنا معنديش وقت، أنا عندي مراقبة.
-          خمس دقائق فقط  مش ها أخرك.
-          ان شاء الله في مرة قادمة.
حاولت السيدة أن تسترسل في الحديث فاستدار إليها رجل كبير في السن بقوله: والله يا بنتي أنا واخد سبع برشامات ع الصبح وتعبان.
استدرت أنظر من النافذة بعيدا عن السيدة، فانشغلت هي بقراءة القرآن حتى وصلنا بالقرب من فندق ماريوت في جزيرة الزمالك، عندها استدارت السيدة نحوي قائلة:
-          حضرتك ها تيجي معايا علشان تشوف بعينك الشرطة شغالة ولا لأ؟
-          يا فندم شغالة إيه بس؟
-          خمس دقائق بس مش ها أخرك؟
-          مرة تانية ان شاء الله.
-          والله مش ها نتأخر، أنا كمان عندي شغل، بس لازم نبقى إيجابيين.
-          مرة تانية ان شاء الله
ساد الصمت حتى دخل الميكروباص الموقف فانتظرت حتى نزل الجميع. كنت أحاول أن أبطئ من حركتي حتى تنصرف السيدة التي ارتبت في أمرها، إلا أنها انتظرتني خارج الميكروباص ولما رأتني خارجه اقتربت قائلة: الضابط واقف هناك، تعالى علشان تشوف بعينك ازاي هما شغالين وها يجبوا لنا حقنا.
كان أحد الركاب يرمقني بعينيه، يريد أن يعرف ماذا سأفعل، كنت مترددا، ولكن إلحاحها جعلني أستسلم.
عبرنا الشارع حتى اقتربنا من الضابط، عنده قالت السيدة:
" صباح الخير يا فندم، أنا الدكتورة هالة، دكتورة في القانون، أنا كلمت الرائد على، والمقدم ابراهيم، واللواء سعيد مدير أمن أكتوبر لأن السواقين بيغلوا علينا الأجره، وبيخلوها أربعة جنيه وهيا رسميا تلاته جنيه ونص، والأستاذ مش مصدق إن الشرطة شغالة"
-          نظرت إليها في اندهاش واستغراب ولم أنطق.
قاطعها الضابط بقوله:  يعنى حضرتك عاوزه إيه دلوقتي؟
-          حضرتك بيغلوا الأجره.
-          هو السواق فين اللي بيغلي الأجره؟
-          في الموقف يا فندم لسه داخل حالا.
-    خلاص روحي لفهمي بيه اللي قاعد في العربية الملاكي هناك تحت الكوبري وهو ها يتصرف، ثم نادى على عسكري كان يقف في إشارة المرور ليبحث عن سائق الميكروباص. أعطته السيدة رقم الميكروباص ثم ذهبنا سويا للقاء فهمي بيه.
سلمت السيدة على فهمي بيه وأعادت نفس الكلام الذي حكته لزميله:  
" صباح الخير يا فندم، أنا الدكتورة هالة، دكتورة في القانون، أنا كلمت الرائد على، والمقدم ابراهيم، واللواء سعيد مدير أمن أكتوبر لأن السواقين بيغلوا علينا الأجره، وبيخلوها أربعة جنيه وهيا رسميا تلاته جنيه ونص، والأستاذ مش مصدق إن الشرطة شغالة"
-          يخرب بيتك، والله أنا مصدق!  قلتها في سري.
-          يعنى حضرتك عاوزة إيه؟
-          بيغلوا علينا الأجره يا فندم.
في هذه الأثناء رأيت العسكري قادما ومعه السائق، اقترب السائق من فهمي بيه، قالت السيدة: الأجرة تلاته جنية ونص وهو أخد منا أربعة جنية.
-          لا الأجرة أربعة جنية إلا ربع، وبعدين أنا بكلم الباشا مش بكلمك انتي، صباح الخير يا باشا. قال السائق
-          رخصتك! أمر فهمي بيه
-          اتفضل ياباشا.
-          فيه خط السير؟
-          حاضر ها اجيبة من العربية.
ذهب السائق ليحضر خط السير وانصرف العسكري بينما راح فهمي بيه يخط بيمنه على ورقة بيضاء كتب فيها اسمي واسم الدكتورة هالة، ثم قال: والله لو كل الناس زيكوا كده إيجابيين كانت البلد انصلح حالها. ولو حضراتكم عندكم وقت ممكن تروحوا تعملوا محضر ونسجنه.
-          لا، سجن إيه يا فندم، مش لازم، وكمان مفيش وقت. أجبت.
-          أنا ها اعمل له مخالفة بـ 1800 جنيه علشان يحرم يعمل كده تاني.
-          أهم حاجة يا فندم انه يبلغ زمايله علشان ما يغلوش علينا الأجره.
-          الكلام سهل إنما الفعل صعب. أجاب فهمي بيه.

مددت يدي إلى فهمي بيه أحييه، بينما انحنت الدكتورة هالة لتأخذ منه رقم هاتفه، ثم نظرت إلى نظرة فهمت منها: الشرطة شغالة ولا مش شغالة؟!!

الأحد، يناير 17، 2016

تونس الخضراء 43


كان غسان هادئا، وكدت أنفجر من القلق، ما العمل إذن؟ ماذا لو غادر القطار المحطة؟ لقد تركت الكسكسي على أمل أن ألحق بك أيها القطار، فلا كسكسي أكلت ولا قطار لحقت! أكاد أن أنهار.
ضحك غسان ضحكة قطعت معها سكون المحطة، وأخرجت رجلا عجوزا من جحره رأيناه قادما يشق الظلام، سأله غسان:
-         متى سيأتي القطار؟
-         العلم عند الله! أجاب العجوز.
-         ألم يأت القطار بعد؟! تساءلت.
-         لا لم ينطلق حتى الآن من سوسة. أجاب العجوز.
-   الحمد لله. قلتها بصوت مكتوم وقلب منفطر، ثم أسندت ظهري إلى الحائط وتذكرت الكسكسي، يبدو أنني قد تسرعت!
-         هل تريد العودة؟ سأل غسان.
-         وماذا لو جاء القطار؟ تساءلت.
بدأت أقدام أخرى تدب على رصيف المحطة، كان رجلا وامرأتان ومعهم طفلة صغيرة، اقتربوا منا، سأل أحدهم:
-         هل تحرك القطار من سوسة؟
-         لا، أجاب العجوز، ثم اختفى.
-         كم يستغرق القطار من وقت حتى يصل إلى هنا؟ تساءلت.
-         حوالي ثلث الساعة، على فرض أنه انطلق، قالت إحدهما.
-         يا حسرتاه على الكسكسي!
-         نعم؟! تساءلت إحداهما في استغراب.
-         لا شئ، فقط أتحسر على أكلة لذيذة سرقها مني هذا القطار.

ضحك الجميع، ثم دار بيننا حوار استمر لمدة ساعة حتى وصل القطار.

الخميس، يناير 14، 2016

تونس الخضراء 42


أصابني الهلع وقت أن علمت أن القطار سيصل المحطة بعد عشر دقائق، عليّ أن أختار، بين أن أترك الكسكسي بالحوت، أو أن أترك القطار.
كان من الصعب علىّ تفويت القطار، فقد اتفقت مع "منير" أن ينتظرني في (محطة برشلونه) المحطة الرئيسية بتونس العاصمة، وكان من المستحيل أيضا تفويت أكلة مثل الكسكسي بالحوت. لذا انقضضت عليها كالمحروم، كنت آكل بكلتا يداي، ليس لطعم الكسكسي بالحوت مثيلا، ما أطعمه! تمنيت لو كان لي فمان وأربعة أيادي! كنت أنظر إلى الساعة أرجوها ألا تتحرك، ماذا لو توقفت آله الزمن للحظات!
حاول غسان طمأنتي، أخبرني أن هذا القطار دائما ما يتأخر عن موعده، وأنه لا شئ يدعو للقلق، وأن أكله الكسكسي بالحوت فرصة لن تعوض، كُل يا راجل كُل!
رآني غسان وقد هممت واقفا، فاقترح على المبيت عندهم هذه الليلة وفي الغد أسافر إلى تونس، وعندما لم أوافق اقترحت والدته أن تلف لي الكسكسي بالحوت كي آخذه معي.
ما أصعب فراقك أيها الكسكسي! وما أسرع الوقت هذه المرة! ساعة الحظ لا تعوض، إلا إنها دائما ما تأتي متأخرة.
ودّعت مَنْ في البيت على أمل اللقاء، نعيش هذه الدنيا على أمل، ووقت أن يتحقق الأمل، نكون على موعد مع القطار.

وفي محطة قطار القلعة الكبرى، وهي لا تبعد سوى سبع دقائق بالسيارة، لم نر قطارا ولا ركابا، كانت المحطة خالية، ساكنة، سكونها رهيب، لا أحد، لابشر، أين الناس؟ يا إلهي! حتما قد غادر القطار؟!