الاثنين، نوفمبر 30، 2015

تونس الخضراء 24


وقد يجمع الله الشتيتين بعدما *** يظنان كل الظن ألا تلاقيا
وجاء غسان، وجاءت معه ذكريات شهر كامل مر عليه ثلاثة أعوام وآلالف الكيلو مترات. لم تتغير يا غسان، نفس الابتسامة الهادئة، ونفس الوجه الصبوح! ما أروع اللقاء بعد طول فراق!
هل تذكر يا غسان يوم التقينا في برلين؟ أو أيام غدونا ورواحنا إلى البرلمان الألماني؟ لابد وأنك تذكر يوم أن علمتني أغنية تونسية شهيرة مطلعها "يا سواق يا ترياس زيد السرعة فى الفيتاس"؟ أو لعلك لم تنس صلاتنا على سجادتك البلاستيكية الخفيفة التى كنت تحملها دوما في جيبك؟ ما أروع تلك الأيام ياغسان، وما أروع تلك الصحبة!
 نعم أذكر، قالها غسان مبتمسا وهو يجذبني من يدي ويعبر بي الطريق بعيدا عن كورنيش بوجعفر حتى وصلنا إلى مقهى يعرفه.
-         ماذا تشرب؟ سأل غسان.
-         شاي، وياحبذا لو كان مغليا! أجبت.
لم أستطعم طعم الشاي التونسي، وتعجبت كثيرا بل تساءلت: لماذ يقدمونه باردا؟ ولماذا هو أخضر؟ ألا يوجد هنا الشاي الأسود؟ ولم أشأ أن أضيع الوقت في التفكير؛ فمعي من هو أهم، كيف حالك ياغسان؟
مر الوقت سريعاً، أكثر من ساعتين، تحدثنا خلالهما في كل شئ، لا، لم يكن كل شئ؛ فحديث الأصدقاء لا ينتهي، لذا تواعدنا أن نكمل الحديث في اليوم التالي وفي مكان آخر.
أصر غسان أن يوصلني إلى الفندق، ومشينا من طريق مواز لطريق الكورنيش، طريق امتلأت جوانبه بمقاهٍ وملاهٍ ليلية فاحت منها رائحة الخمور، وعلت فيها أصوات ضحكات خليعة لفتيات ليل، وزادت فيها دقات الطبول، وارتفعت فيها الموسيقى الصاخبة، ووقف على أبوابها بودي جاردات بعضلات مفتولة يرمقوننا. قال غسان متأسفا: تجنب المشي في هذه الأماكن بمفردك ليلا يا عزيزي!

لا أدري لماذا تذكرت ما حكاه لي أحد الأصدقاء من أمر فتيات الليل، ربما لأنني رأيت ما حكاه لى وقد تحقق أمام عيني على الطبيعة، أو ربما لأنني ظننته يبالغ في الأمر؟! لا، واضح أنه لم يكن يبالغ، فقد حكى لي أن شابا عرض عليه أن يأتيه بفتاة ليل مقابل مائة دينار، بل ظل يراوده حتى نزل بالسعر إلى خمسة عشر ديناراً! ساعتها لعنَّا الفقر والجهل و الإرهاب!

السبت، نوفمبر 28، 2015

تونس الخضراء 23


عدنا إلى الفندق وقد اقترب قرص الشمس من الغوص في قاع المحيط، أسرعت إلى غرفتي، وما أن دخلتها حتى رن هاتفي المحمول يعلن عن اتصال، كان غسان، أخبرني أنه في القطار العائد من تونس إلى سوسة، وأسعدني حينما قال: يمكننا أن نلتقي الليلة في الثامنة عند صخرة النجم الساحلي على كورنش بوجفر!
 فرحت كثيرا وأسرعت بتناول العشاء، ثم تهيأت للقاء غسان، كانت لا تزال السابعة مساء، وكانت هناك بوادر سهرة جديدة على مقهى الأمس، سرت مع الساهرين الثلاثة: دكتور محمود أبو شعير، دكتور أحمد عبد الإمام والشاب الألماني راسموس براند، حتى القهوة، وأغراني فائض الوقت بالجلوس معهم، فقضينا هذه الساعة في شرب الشاي التونسي واستمعنا إلى حكايات حكاها كل منا عن نفسه.
ولما حانت الثامنة استأذنتهم بالانصراف. كان الكورنيش عامرا بالبشر، وكانت مياه البحر تتلألأ فيها أنوار الأعمدة، فتخترقها حركة السفن ببطئ، وتسمع وقع حوافر الخيل القادمة من بعيد تجر عربات الحنطور فتشعر بأنها موسيقى تصويرية لمشهد رومانسي حالم، ما أروع هذا المكان!
جلست أنتظر غسان، وكان قد مر على موعد لقائنا ربع ساعة، جربت الاتصال به فجائني صوته الهادئ، وكأنه وشوشة: "معك غسان، أنا في اجتماع، يرجى الاتصال في وقت لاحق"
ماذا؟ اجتماع، وقت لاحق، يرجى الاتصال؟!
غسان هل تسمعني؟ تيت تيت تيت، انقطع الاتصال.
انعقد حاجباي في حركة لا إرادية، وعدت أنظر إلى هاتفي، هل الرقم الذي اتصلت به هو رقم غسان أم أنني أخطأت؟ بالطبع رقم غسان، لقد كان الصوت الذي سمعته هو صوته؟ ولكن أي اجتماع، ألم يخبرني أنه في القطار؟ عاودت الاتصال به مرة أخرى فجائني صوت آخر يقول: الهاتف مغلق أو غير متاح!!
ماذا أفعل؟ لقد مر نصف ساعة ولم يأت غسان؟ هل أعود أدراجي إلى الفندق، أم أواصل الانتظار؟! لن أخسر شيئا لو انتظرت ربع ساعة أخرى!
من خلفي كانت صخرة النجم الساحلي تتأمل المارة وتراقب الجالسين، راودني إحساس أنها تراقب توتري وقلقي، تراقب نظري المتكرر إلى الهاتف، أدخلت هاتفي في جيبي وفردت ذراعي في الهواء محاولا إزاحة التوتر وطرد القلق. وقع نظرى على فتاة بدى من هيئتها أنها أجنبية، ربما كانت الأجنبية الوحيدة على هذا الكورنيش، كان يحوم حولها شاب طويل، في صدره سلسلة ذهبية لمعت عندما صدمها ضوء أعمدة الإنارة، لم تتحرك الفتاة ولم تبدي أي انزعاج، اقترب منها الشاب أكثر، ثم جلس بجوارها. وهنا رن هاتفي، كان رقما غريبا:
-         ألو!
-         أيوه أنا غسان، آسف على التأخير سأتيك بعد عشر دقائق!

 الحمدلله، قلتها ثم سحبت شهيقا طويلا أعقبه زفير أطول، والتفت فلم أجد الفتاة ولم أجد الشاب!

الخميس، نوفمبر 26، 2015

تونس الخضراء 22


طريق عودتنا من المهدية كان على خلاف طريق الذهاب، طريقا زراعيا تزينه أشجار التين الشوكي المثمرة، في هذا الطريق كانت أشجار التين الشوكي تحتل مساحات أكبر، حتى رأيتها تغطي على أشجار الزيتون، قيل لي أن محافظة القصرين تحتل المرتبة الأولى من حيث مساحة زراعته، ومن حيث الإنتاج كذلك. وقيل لي: في فصل الصيف من كل عام تنتشر صناديق التين الشوكي لتباع للمارة. وعندما سألت صديقي التونسي غسان عن كيفية جمع هذه الثمرة الشائكة قال لي: عند الصباح الباكر وعندما يكون الجو هادئا تبدأ عمليات قطف “الهندي” من “الضلف” أي أوراق التين الشوكي باعتماد ما يسمى “الكماشة” (عود طويل يتفرع إلى ثلاثة أفرع في نهايته ليقطف الثمرة) وهي تختلف من شخص إلى آخر، وغالبا ما تكون من أغصان شجرة الدفلى وأحيانا تصنع من الحديد. بعد القطف يوضع “الهندي” على الأرض يتم مسحه للتخفيف من الشعيرات الشوكية العالقة بالثمرة ويفرش الصندوق ببعض النباتات لحماية الثمرة، ثم ينقل للبيع إما على قوارع الطريق أو في بعض المدن القريبة من مناطق إنتاجه. وينادي عليه البائعون بقولهم: "هندي تالة يا وكَّالة" أي (هندي تالة يا أيها الآكلون) أو بقولهم "هاو سلطان الغلة" أي (هذا سلطان الغلال).
من لي بثمرة تين هندي الآن؟
تركنا التين الهندي وشأنه، والزيتون وحاله، ثم مررنا بعدة قرى، بعضها مكتظ بالسكان، وبعضها خال منها، حتى رأيتنا نتوقف أمام سور طويل لمبنى مرتفع يحمل لافتة مكتوب عليها ( كلية الحقوق والعلوم السياسية)، تذكرت أن موعد لقاءنا بالدكتور رضا جنيح وعميد كلية الحقوق والعلوم السياسية قد حان، وقد يكون من الممل هنا أن أتحدث عن تفاصيل هذه الزيارة، إذ أنها لم تعد كونها زيارة روتينية جافة، من نوع تلك الزيارات التي يتعرف فيها الباحثون على بعضهم البعض، ثم لا يجدون سوى ممرات الجامعة و مكتبتها أماكن تستحق الزيارة.
 ولو سُمح لي بالحديث عن مشاعري الداخلية وما خرجت به من هذه الزيارة لأفضت وأبحت، فقد كان بطل هذه الزيارة بلا منازع هو الدكتور سامح اسماعيل، فبسببه فُتحت لنا الأبواب الموصدة، ولأجله انتقلنا إلى القاعة المغلقة، ورأيته يُحمل من على الأرض حملا، ويمشي في مقدمة الجمع.

لقد حُرم الرجل من ساقين تحملانه، فسخرنا الله له لنحمله عند كل درج، وضاق باب مكتب العميد أمام عجلته، فانفتحت لأجله قاعة الاجتماعات، واشرأبت أعناق الأساتذة فخرا وزهوا فانحنت أمامه تلك الهامات لتسلم عليه. وإن في ذلك لعبرة لأولي الألباب.

الأربعاء، نوفمبر 25، 2015

تونس الخضراء 21


كان لا يزال أمامنا وقت، قلت للدكتور سامح لنذهب فنتجول في أحياء المدينة العتيقة، تعلل الرجل بأنه على موعد مع شابة تونسية ستأتيه من صفاقس، تركته وتركت لقداماي العنان تختار أي الطرقات تذهب، دخلت في شوراع ضيقة جعلها اللون الأبيض على جدران البيوت واسعة، فلا تشعر فيها بضيق، وأضفت عليها زرقة الأبواب جمالا أبهرني، كنت أقف أمام كل باب لا أبرحه حتى ألتقط له صورة، ولم تكن نوافذ البيوت بأقل روعة من أبوابها، أما الشوارع فنظيفة، وخالية من المارة، أين البشر؟ تساءلت!
التفت عن شمالي فإذا بي أرى البحر؟ أوَ لم يكن البحر عن يمني؟ تذكرت أن المهدية شبه جزيرة تحدها المياه من ثلاث جهات، أقف الآن في الجهة المقابلة، ما أجمل البحر من هذه الناحية! أمامي مراكب صغيرة تسبح في المياة الزرقاء الساكنة، ما أسعد هؤلاء الصيادين وما أهدأ بالهم!
أدركني الوقت فأسرعت بالعودة، ولكن كيف لى أن أعود وقد ضللت طريقي، وليس أمامي أحد أسأله، يا إلهي أين البشر؟
 من بعيد رأيت عجوزا تجلس بجوار دكانها، اقتربت منها وسألتها عن الطريق إلى الجامع الكبير، أمرتني أن أرجع بضع خطوات للخلف ثم أدخل من شارع جانبي فأسير فيه حتى أجد مدرسة ابتدائية، عندها أنحرف يسارا حتى نهاية الشارع ثم يسارا حتى الجامع الكبير.
 عند الجامع الكبير كان يجلس دكتور سامح كما تركته، لم تأته الفتاة بعد، انتظرت معه قليلا حتى وصلت، هي باحثة دكتوراة في العلوم الاجتماعية، قطعت مسافة طويلة كي تستكمل مع الدكتور سامح حوارا بدءاه في عمان بالأردن تحت عنوان "المتخيل في الدرسات الاجتماعية"، ولأنني لم أكن أفهم الموضوع وما يدور حوله فقد آثرت الانزواء.

 كنا أول العائدين حيث المكان الذي اتفقنا أن نجتمع عنده بعد ساعتين ونصف، تركت الدكتور سامح مع صديقته التونسية وذهبت أتجول بالقرب من المكان، دخلت محلا يبيع السلع الصينية، قال لي صاحبه إنها تأتيهم تهريبا عن طريق ليبيا، وماذا عن الصناعات المحلية؟ أجاب الرجل بأسى: دمرها الاحتلال الصيني!

الثلاثاء، نوفمبر 24، 2015

تونس الخضراء 20


استئذنا موظف القلعة بالدخول فسمح لنا، كل القلاع متشابهة، وأكثر الشبه وأوضحه يكمن في حسن اختيار الموقع، فموقع هذا البرج فريد، يطل مباشرة على ميناء المدينة، ومنه يمكن رؤية أسطح المنازل بوضوح، المدينة ساكنة، هادئة، وشاحها أبيض وأزرق، سماؤها صافية، وأمواج شواطئها تلتطم بالصخور على خجل واستحياء!
لم نمكث كثيرا في البرج، نزلنا المنحدر من دون أن نبذل أي مجهود، كنا في غاية السعادة بعد أن لفحتنا نسمات البحر المعبئة برائحته الجميلة، سألت عن مطعم يبيع وجبات خفيفة، كاد الجوع يأكلني، أشار شاب إلى مطعم بالقرب من الجامع الكبير، أوَ هذا هو الجامع الكبير[1]؟ تساءلت في اندهاش، فلم يكن للجامع مئذنة!
تركني الدكتورسامح أدخل المطعم وحدي، فلم تكن لدية رغبة في تناول أي طعام، خصوصا وأن معدته تحتاج إلى بعض الراحة بسبب أكل الفندق!
كان المطعم خاليا من الزبائن، والحال كذلك مع المدينة الساحرة، فلا سياحة ولا حركة، كنت الزبون الوحيد في المطعم، استقبلني صاحبه بحفاوة، وخصوصا عندما علم أنني مصري، عرض الرجل بضاعته، فاخترت مكرونه ودجاج، وأحضر معهما سلطة كانت لذيذة.
حدثني يوسف صاحب المطعم، وهو شاب ثلاثيني، أن الحال واقف، والكساد كبير، والغلاء فاحش؛ فمنذ أحداث سوسة، بل ومن قبل سوسة وهو يعاني قلة الزبائن. حاولت التخفيف عنه فغيرت حديثي، قلت له هل تشاهد الأفلام المصرية؟ أجاب: نعم، أحب عادل إمام.
في تونس يعشقون عادل إمام، ويحفظون جميع مسرحياته وأفلامه، ويغنون لحليم، ويطربون لأم كلثوم، وينصتون بخشوع إلى عبد الباسط والمنشاوي. محلاها تونس ومحلا شعبها الأصيل.




[1] يعود بنـاء هذا الجـامع إلى فترة تأسيس المدينة، وهو الجـامع الرسمي المخصص للخليفة ولحـاشيته. شهد المعلم العديد من التغييرات انتهت بتحويله إلى كنيسة ومقبرة لقواد الجيش الإسبـاني في أواسط القرن السـادس عشر ميلادي. وقع تجديد الجامع وتوسعته في نهاية القرن الثامن عشر من قبل الأتراك. تعود الهيئة الحالية للمعلم إلى سنة 1962 حيث أعيد بناؤه مع احترام مسـاحته الأصلية والإبقـاء على واجهته الرئيسية ومدخله الذي يشبه قوس النصر الرومـاني.

السبت، نوفمبر 21، 2015

تونس الخضراء 19

إلى المهدية...

بعد الجم كانت المهدية، وما أدراك ما المهدية، سألت السائق عن رأيه في المهدية، فابتسم وأخذ نفسا عميقا كأنما أراد أن يستجمع قواه استعدادا لقول شئ مهم، وبدوري اعتدلت في جلستي وانتظرت أن أسمع منه حديثا شيقا عن المدينة وتاريخها وأفضل معالمها، إلا أنه لم ينطق سوى بجملة واحدة مكونة من أربع كلمات، قال: "المهدية جميلة برشا برشا"
كدت أقول له المقولة الشهيرة لقاضي مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" "نورت المحكمة"، ذلك عندما سأل القاضي عادل إمام عن ماهية عمل القتيلة، أجاب إمام: إنها تعمل راقصة .. ووو .. فسأله القاضي عما إذا كان لديه إضافة أخرى، فقال: أريد أن أضيف (علاوة على أنها راقصة كانت ترقص!!) فما كان من القاضي إلا أن علق تعليقته الظريفة المعبرة ذات المغزى : يا عيـــــني .. نورت المحكمة! لم يضف السائق لي كذلك شيئا يذكر، فقوله "المهدية جميلة برشا برشا" شئ مفروغ منه، وكنت أود لو يحكي لي عن أفضل ما فيها، أو لعله ذكر لي شيئا عن تاريخها أو موقعها الجغرافي أو حتى الصناعات التي تشتهر بها.
ولم يمض طويل وقت حتى رأيت كل شئ بنفسي على الطبيعة، بدءا من "باب الفتوح" ويسمونه "باب زويلة" أو "سقيف الحكلة"، مرورا بجامع "المهدية الكبير" وهو أول مسجد بني في المهدية، وصولا إلى "البرج الكبير".
وحيث أن محرك السيارة قد توقف عند الثانية عشرة وخمس دقائق وعشرين ثانية بالقرب من وسط المدينة العتيقة، مدينة المهدية[1]، فقد اتفقنا جميعا على أن نعود إلى نفس المكان بعد ساعتين ونصف، ترى هل هذا وقت كاف لرؤية المدينة الساحرة؟
بالطبع لم يكن وقتا كافيا، لا سيما وقد أضعنا أكثر من ثلثه في التسوق، حتى وجدتنا نسرع (الدكتور سامح اسماعيل وأنا) نحو القلعة القديمة أو كما يطلقون عليها برج المهدية الكبير أو البرج التركي، فصعدنا منحدرا كبيرا أرهقنا صعوده، حتى وصلنا بابها الخشبي الكبير، عنده عرفنا أن القلعة يعود بناؤها إلى زمن الأتراك الذين شيدوها على أنقاض قصر القائم بأمر الله الذي تولى الحكم بين سنتي 934 و945 م.



[1] تم تـأسيس المدينة على يد الفاطميين وجعلوهـا عـاصمة للخلافة سنة 308هـ./920م، حيث اتخذهـا الخليفة الأول عبيد الله الفـاطمي عـاصمة له بسبب موقعهـا الجغرافي المميز؛ فهي تطل على البحر المتوسط من ثلاث جهـات، جعلت من المدينة حصنـا منيعـا قادرا على التصدي للغزوات الخـارجية وجعلهـا مركزا تجـاريا هـامـا بالحوض المتوسط.
وبعد خروج المعز لدين الله الخليفة الفـاطمي إلى مصر سنة 360هـ./970م، وتـأسيس مدينة القـاهرة حكم الصنهـاجيون إفريقية ولكنهم تـألبوا فيمـا بعد على الفـاطميين، فانتقم هؤلاء منهم وأرسلوا إليهم القبـائل الهلالية التي ساهمت في نشر قدر كبير من الفوضى، ومنذ ذلك التـاريخ توالت الحملات ضد المدينة من الأساطيل الأوروبية وخاصة الإسبانية حيث تراوحت حال المدينة بين السقوط والاسترداد، وقد انتهى كل ذلك بتدميرها وحرقهـا من طرف الإسبان في سنة 1555م. وبذلك فقدت المدينة أهميتها كعـاصمة إلى أن قامت العناصر التركية بإعادة إعمارها حيث أعطتهـا طابعـا جديدا تحولت بموجبه إلى مدينة نـشطة يتعـايش فيهـا المسلمون والمسيحيون واليهود ويرتكز اقتصـادها على قطـاعات متعدّدة.

الخميس، نوفمبر 19، 2015

تونس الخضراء 18


 تركنا قصر الجم يعود لوحدته وعزلته، فلم يكن هناك من يؤنس وحدته ويشغل عزلته غيرنا وبعض الموظفين والحراس، تركنا القصر وصعدنا إلى مدينة الجم حيث حركة الناس كبيرة، والمقاهي ممتلئة، والأسواق عامرة، والمحلات مفتوحة، وقد أعطاني هذا شعورا بأن المدينة صاخبة، فعلى الرغم من أنها مدينة صغيرة تقع في وسط سهلٍ كان خصيبًا في الماضي، إلا أنها  تشتهر بأمور ثلاثة جعلتها متميزة عن باقي المدن، فتشتهر بالآثار السياحية، والأعمال الزراعية، وكذلك بصناعة  الجلود و الأقمشة والملابس والفسيفساء التي لها مع  مدينة الجم تاريخا يمتد إلى عشرات القرون، ويشهد على ذلك اللوحات الفسيفسائية التاريخية الموجودة بالمتحف الأثري بالجم، والتي قلّ أن يوجد لها نظير بالعالم. وقد زرنا هذا المتحف واقتربنا من لوحاته الفسيفسائية البديعة، وإن كان من تعليق لي على  هذا المتحف وما به من آثار فيمكنني أن أقول:  لقد بني هذه المتحف لتجمع فيه أرضيات البيوت الرومانية القديمة لتكون قطعا فنية خالدة، فما بالنا لو جمعت معها أثاثات تلك البيوت! لقد كان هنا حضارة!
بقي لي في الجَم شيئين لم أذكرهما، الأول وهو معنى كلمة الجَم، والحق أنني بحثت كثيرا عن معناها، وعرفت أن هذا الإسم أطلقه الفاتحون العرب عند قدومهم إلى هذه المدينة، وكانوا يقصدون به "الحصن" أو "القصر"، ثم كانوا ينطقونه "الأجم" فتحول مع مرور الزمان وتعاقب الأجيال إلى أن أصبح "الجم".

و الأمر الثاني وهو تساؤل برئ لم أجد له جوابا حتى الآن، ويكمن التساؤل في عدم معرفة السبب في أن محلات الملابس تعرض سراويل (بناطيل) الرجال من الخلف أي أنها تركز على مؤخراتهم؟!

الثلاثاء، نوفمبر 17، 2015

تونس الخضراء 17


دخلنا حلبة المصارعة في قصر الجَم، فشعرت برهبة كبيرة وألم؛ فكم من دماء أسيلت على أرض هذا المكان، وكم من أرواح أزهقت، وكم من قهقهات وضحكات ودموع! تجولنا في الحلبة حتى وصلنا عند باب يقودنا أسفلها حيث رواقان يصلهما الضوء من الفتحة الوسطى للحلبة، إضافة إلى فتحتان من جانبي الحلبة كانت تستخدم لرفع الوحوش من أسود ونمور، والمصارعين من أسرى الحرب، هكذا أخبرنا أحد حراس المكان وأضاف: كان المصارعون والوحوش يأسرون في غرف تحت الحلبة ليتم إطلاقهم في الأعياد والمناسبات الضخمة، التي تشهد إقبالا جماهريا ضخما من الشعب والنبلاء، الذين يجلسون في المدارج لمشاهدة مصارعات الوحوش ومعارك المصارعين من أسرى الحروب وسباقات العربات.
-         وماذا عن هذا الممر المغلق؟سأل أحدنا
-         هذا الممر المغلق كان عبارة عن طريق بطول أربعين كيلو متراً تحت الأرض يصل هذه الحلبة بمدينة المهدية وقت الحرب؟! أجاب الحارس.
-         أربعون كيلو متر؟ تعجبت!
لست أدرى إذا ما كانت هذه المعلومة صحيحة أم أنها من تأليف حارس المكان، فبحكم عملي السابق في السياحة أعرف أن ثمة مبالغات وأساطير تحكى من العاملين في السياحة لإثارة السائحين وجذب انتباههم، وعلى كل فلا شك عندي في أن هذا المعلم الضخم قد شهد عدة معارك، ويقال أنه أثناء الفتح الإسلامي لإفريقية أوائل القرن الثامن الميلادي احتمت به الملكة البربرية "ضميا" الملقبة بالكاهنة مع جيشها لمدة أربع سنوات، إثر هزيمتها في المعركة الثانية أمام القائد حسان ابن النعمان. وفي سنة 1695 تم هدم الجانب الغربي لهذا الأثر بأمر من باي تونس بعد أن اتخذه السكان حصنا لهم في ثورتهم ضد حكم الباي وقتذاك.

في الكلوسويوم أو في القصر كما يسمونه هنا وبالتحديد في حلبته، و بالتحديد أكثر على مدرجاته، ووسط أحجاره، وممراته، التقطنا صورا كثيرة، جماعية و فردية، صورا حملت معها جزءا من الماضي البعيد، جزءا يحتاج إلى تأمل، ولو كان الأمر بيدي لجلست فيه وقتا أكبر، فقد كنا على موعد آخر لرؤية شئ جديد.

السبت، نوفمبر 14، 2015

تونس الخضراء 16


إلى المهدية...
ما أسعدني وقت أن علمت أننا اليوم سنزور مدينة المهدية، وما أتعس جفوني، إذ لا نوم ولا راحة؛ فبعد أن تناولنا فطورنا كانت هناك سيارتان سياحيتان في انتظارنا أمام باب الفندق، كنا عشرة، فقد غادَرَنَا من حان وقت وداعه، وحزنت كثيرا لفراقهم.
ركب كل خمسة في سيارة. كانت سيارتنا تحمل كل من (دكتور عاصم حفني، دكتور سامح اسماعيل، دكتور سعيد فارس، والدكتور أحمد عبد الإمام وأنا)، وفي السيارة الثانية ركب كل من (الدكتور البريشت فوس، والدكتور أحمد عبد السلام، والدكتور عيد محمد، والدكتور محمود أبو شعير، والشاب الألماني راسموس براند)
في التاسعة وخمس دقائق دار محرك السيارة متجها صوب المهدية، ولم يتوقف المحرك إلا بعد مرور ساعة ونصف قطع فيها مسافة 65 كيلو متر، وهي المسافة التى تفصل مدينة سوسة عن مدينة الجم.
-         الجم؟ سألت السائق، فأجاب:
-         نعم، هكذا هو البرنامج؟
-         وماذا عن المهدية؟!
-         سنزورها لا حقا.
  نزلت من السيارة فأصابتني رعشة، فقد رأيتني أقف أمام مبنى ضخم أشبه بمنبى الكلوسويوم في روما. ولولا أنني لا أشك لحظة في قواي العقلية لأصابنى الدوار، هل جئنا إلى روما؟!
لا، أجابت لوحة كبيرة كتب عليها ما يلي:-
"قَصْر الجَمّ أو مَسْرَح الجَمّ، اسمه الروماني كُولُوسِّيُومْ تِيسْدْرُوسْ  Colosseum Thysdrus، واسمه في بعض الكتابات العربية القديمة قصر الكاهنة، وهو مسرح أثري يقع بمدينة الجمّ أو مدينة (تِيسْدْرُوسْ Thysdrus في العهد الروماني) التابعة جغرافيا وإداريا لولاية المهدية في تونس. أُدرج هذا الأثر التاريخي سنة  1979على لائحة مواقع التراث العالمي من طرف اليونسكو." و "يعد قصر الجم الروماني ثاني أكبر مسرح في العالم بعد مسرح كولوسيوم روما المصنف من عجائب الدنيا السبع".

 والحق أنني زرت كلوسيوم روما عام 2005، إلا إنني أرى أن هذا الأثر أكثر منه جمالا، وأفضل منه صيانة؛ فقد قام جورديان الثاني بتصميمه بشكل تجاوز فيه كل الأخطاء الهندسية الموجودة في نظيره بروما على مستوى الشكل. كما أن مدرجاته تتسع  لـ 35 ألف متفرج مما أهله ليكون أكبر بناء أثري روماني في أفريقيا.

الأربعاء، نوفمبر 11، 2015

تونس الخضراء 15


 انتهت جلسات المؤتمر ولما تنتهي فعالياته بعد، ففي المساء كنا على موعد مع سهرة على كورنيش سوسة الشهير كورنيش "بوجعفر"، كان المكان مقهى يغلب عليه الطابع الشعبي، وقد انعكس الكساد الذي تمر به مدينة سوسة جراء قلة السياح على المقهى، فلم يكن من أحد سوانا، لذا أطلقنا العنان لضحكات وقهقهات تخرج لا إراديا عندما يجتمع المصريون بعضهم ببعض.
مر الوقت سريعا حتى كاد أن ينتصف معه الليل، فسريعا تمر هي أوقات الصفاء، التى نادرا ما تأتي، واضطررنا لمغادرة المقهى بعد أن رأينا أصحابه يهمون بإغلاقة. ولم نستسلم لإغلاق المقهى فعدنا أدراجنا إلى الفندق نحاول أن نمسك بتلك اللحظات، وطال بنا المقام حتى اقترب الفجر!
في صباح اليوم التالي - أو إن شئت فقل في فجره - أيقظني رنين الهاتف، ونهضت من فوري أنظر في الساعة فإذا بها السادسة والثلث، كنت في أشد الحاجة للنوم، كانت جفوني متعانقة، بذلت جهدا كبيرا كي أفك هذا العناق فلم أستطع، عاد صوت الهاتف يصرخ من جديد، مددت يدي ألتقط السماعة، سقطت من يدي، تحسست مكانها، بالكاد عثرت عليها، ولكن بعد فوات الأوان، فقد انتهى الصراخ. ترى من كان المتصل؟ تذكرته؛ دكتور سعيد فارس، كان يريد أن يرى سوسه في الصباح كما رأيتها بالأمس، ما أحلاكي يا سوسة بعد الفجر، وما أثقل جفوني؟!
اتصلت بالدكتور سعيد في غرفته فلم يرد، عاودت الاتصال به فلم يرد، خرجت إلى الشرفة فرأيته يتجول في حديقة الفندق، لوحت إليه بإشارات أن ينتظرني، فأجاب بإيماءة من رأسه تعني الموافقة.

على كورنيش "بوجعفر" كانت هناك حركة بدأت تدب، شباب يتريضون، ورجال ونساء قد خرجوا لتوهم من البحر، شئ غريب لاحظته على الكورنيش وهو أن الرجال يحاولون إزاله ماء البحر عن أجسادهم  بماءٍ عذبٍ أحضروه معهم في سياراتهم، فلا توجد على الشاطئ مياه عذبه، ولست أدري ما السبب!

الثلاثاء، نوفمبر 10، 2015

تونس الخضراء 14


اليوم الثاني من أيام المؤتمر- الثالث على وصولى تونس- كان يوما طويلا ومرهقا، كنت فيه متوترا أشد التوتر، وكلما اقترب موعد كلمتي كلما ازداد توتري، وكلما نظرت في وجوه الحاضرين وتخيلت موقفي أمامهم كلما ازاداد التوتر أكثر فأكثر، ورأيتني من دون أن أدري أخرج من القاعة، فأذهب إلى الحمام تارة، أو أعرج إلى حديقة الفندق لأستنشق هواءً جديداً تارةً أخرى.
 افتتح الدكتور مارك-خليل بودينشتاين الجلسة الصباحية بكلمة عن (التعليم الديني للإسلام في الدولة العلمانية) وتبعه الدكتور  هاري-هارون بيير بكلمة كان عنوانها (نحو نهج توظيفي للدين ضمن الإطار الدستوري، من منظور مسلم ألماني) وجاء بعده الدكتور ألبريشت فوس فتحدث عن (اللاهوت والدولة والإسلام، رحلة بين فرنسا والمغرب العربي). وقد جاءت الكلمات الثلاث بدون فواصل، الأمر الذي قلل من إمكانية إهدار الوقت في تعليقات سردية طويلة، وهو الأمر الذي يبدو أن منظموا المؤتمر قد فطنوا له، فأجلّوا طرح الأسئلة  لتكون بعد نهاية الكلمات الثلاث.
وبعد الاستراحة كنا (الدكتور محمود عبدالله والدكتور محمود أبوشعير وأنا) على موعد لإلقاء كلماتنا، فكانت البداية مع الدكتورمحمود عبدالله بكلمة عن (مجلس حكماء المسلمين- صراع الدعاة بين الدين والسياسة) وتلاه الدكتورمحمود أبو شعير بكلمة عن (مسألة الإمامة/الخلافة بين الخلافات الكلامية في الماضي وصراعات الإسلام السياسي في الحاضر) ثم جاء دوري لأتحدث عن (الإسلام السياسي في ظل التغيرات التي طرأت على الربيع العربي- مصر نموذجا). وقد أدار الدكتور عبدالراضي رضوان هذه الجلسة بحرفية عالية لا تخلوا من مزاح مقصود ليخفف به- فيما يبدو- ما رآه باديا عليّ من توتر .
بعد الغداء كنا على موعد مع الجلسة الثانية والتى استهلها الدكتور سامح اسماعيل بكلمة عن (تجديد الخطاب الديني- مقاصد الدعوة لا مآرب السياسية) ثم تبعه الدكتور سعيد فارس بكلمة عن (عقيدة الولاء والبراء- التفكيكية والبنوية في الثورة المصرية) ثم كان الختام مع كلمة الدكتورأحمد عبد السلام (المؤسسة الدينية وإدارة الدولة/ المجتمع، قراءة في وثائق الأزهر).

والحق أنني استفدت من هذه الأبحاث أيما استفادة، وأحسست أنني محظوظ لأبعد مدى، وهذا إحساس قلما يأتيني، وهذا إحساس أتمنى لو يدوم!

الاثنين، نوفمبر 09، 2015

تونس الخضراء 13


انتهى اليوم الأول من المؤتمر (الثاني على وصولنا تونس) ولما يصل الدكتور عاصم حفني بعد، والسبب هو عدم حصوله على التأشيرة. الدكتور عاصم هو أحد منظمي المؤتمر، أرسل أوراقه إلى القنصلية التونسية في بون بألمانيا قبل المؤتمر بشهر، ولما تأخرت التأشيرة وحان وقت المؤتمر اتصل بالقنصلية فأخبروه بأنهم سوف يرسلون إليه التأشيرة عبر بريده الاليكتروني، ونظرا لظروف الإجازات في تلك الأيام فقد تأخرت التأشيرة ولم تصله إلا بعد أن مر يومان على بداية المؤتمر، الأمر الذي إن دل على شئ فإنما يدل على أن تأخر التأشيرة التونسية ليس في مصر وحدها، بل لقد سمعت كثيراً عن حكايات مشابهة حدثت في الأردن وقطر. وبات مؤكدا لي أن من له جواز سفر أوروبي أو أمريكي لا يحتاج إلى تأشيرة دخول!
في المساء وبعد أن انتهت جميع فعاليات اليوم الأول كنا على موعد مع عشاء فاخر في فندق علاء الدين بمدينة حمام سوسة، كانت سهرة ثقافية بامتياز، امتزج الحديث فيها عن ثقافات ثلاث؛ مصرية وتونسية وألمانية. أحب مثل هذه السهرات كثيرا، خصوصا إذا كان العشاء فيها فاخرا.
في هذه السهرة اقتربت كثيرا من معرفة المزاج السياسي لأهل الساحل التونسي وأهل مدينة سوسة على وجه الخصوص؛ فمعظمهم يقف ضد حركة النهضة وضد الإسلاميين عموما، الأمر الذي انعكس على التصويت لصالح السبسي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وعرفت كذلك أن سوسة والساحل هم مصنع الساسة التونسيين منذ ما يقرب من نصف قرن، ففي المنستير ولد الحببيب بورقيبة، وفي حمام سوسه ولد بن على، ووزيره الأول (رئيس الوزراء) الهادي البكوش، ووزير الخارجية السابق كمال مرجان، وغيرهم.
وعرفت كذلك أن من أهل الساحل من يري في أهل الجنوب رجعية وتخلف، وهو أمر غير جديد بالنسبة لي؛ ففي معظم دول العالم  كثيرا ما يحدث مثل هذا الأمر.

السبت، نوفمبر 07، 2015

تونس الخضراء 12


في الفندق توجهت من فوري صوب مكتب الاستقبال أسأله عن عملتي منتهية الصلاحية، هل لي أن أبدلها في الفندق أم علىَّ أن أذهب إلى البنك المركزي؟ فأجابت الموظفة: نعم يمكنك أن تغيرها من خزينة الفندق.
 طرت فرحا، وقفزت على موظف الخزينة، عرفت منه أن كل عملة من فئة عشرة دنانير تحمل صورة الحبيب بورقيبة وبجانبه معصرة زيتون، أو تحمل صورة ابن خلدون، أو صورة عليسة مؤسسة قرطاج، أو تحمل صورة القائد القرطاجني حنبعل قد انتهت صلاحيتها.
تنفست الصعداء بعد أن عادت الحياة تدب في نقودي من جديد، وبدأت أستعد لليوم الأول من أيام المؤتمر، فجدول أعمال المؤتمر يوحي بأن اليوم طويل، وأن ثمة مناقشات ومداخلات تلوح في الأفق القريب. وهو ما حدث بالفعل عندما انتهى الدكتور معاذ خلفاوي من حديثه عن الإسلام والديموقراطية في تونس، والذي ذكر فيه أن سبب الثورة في تونس كان سببا اقتصاديا بحتا، الأمر الذي أثار حفيظة الحضور وجعلهم يتساءلون عن الأسباب الأخرى مثل انسداد الأفق السياسي، والقبضة الأمنية، وانعدام الحرية، و انتشار الفساد وعموم المحسوبية وغيرها.
بعد كلمة الدكتور معاذ خلفاوي جاءت كلمات أخرى تركزت معظمها على الشأن التونسي مثل كلمة الدكتور عبد القادر فتح الله عن "الإسلام في دستور الجمهورية الثانية"، وكلمة الدكتور أمين محفوظ عن "الصراع حول الفصل الأول من الدستور التونسي"، وكلمة الدكتورة أسماء نويرة عن "الحرية الدينية ونقيضها في الدستور التونسي الجديد"، و كلمة الدكتور أحمد عبد الإمام عن (مشاركة المرآة في الحياة العامة من منظور إسلامي. قراءة في فكر الغنوشي). أما كلمة الدكتور رضا بن حماد عن "الاسلام والحكم في الفكر السياسي الإصلاحي المصري والتونسي في القرن التاسع عشر" فقد انتقدت من بعض المشاركين إذ أنها تبعتد عن موضوع المؤتمر والذي هو بالأساس يرتكز على ما بعد الثورتين التونسية والمصرية.
لاحظت فيما لاحظت أن بعض المشاركين يسهبون في طرح أسئلتهم، فيتحدثون بمقدمات طويلة قبل طرح السؤال، أو يعقِّبون فقط لمجرد التعقيب، كما لاحظت أن الجميع – ولا أستثني نفسي- يستخدمون هواتفهم المحمولة بغرض التقاط الصور، ومن ثم رفعها على الموقع الأشهر (الفيس بوك) وينشغلون باستقبال الإعجابات أو إرسالها، أو ينشغلون بتصفح المواقع الإخبارية، أو التواصل مع الأصدقاء على برامج المحادثة. ولو كان الأمر بيدي لطلبت من المشاركين إغلاق هواتفهم! 

الخميس، نوفمبر 05، 2015

تونس الخضراء 11

خرجت من مطعم الحوت بشعور مختلف عن الشعور الذي دخلت به، شعور من فقد نقوده، فقبل دخولي المطعم كنت أملك عشرة دنانير، الآن وقد تبخرت، فلم يعد يمكنني أن أشتري شيئا آكله، ولم يعد بوسعي حتى الجلوس على مقهى! لقد انكسرت!
سرت في طريقي مكتئبا حزينا، وما أخرجني من هذا الشعور سوى ورقة معلقة على حائط، ورقة استوقفتني لبضع دقائق، كي أفك طلاسمها، كانت عبارة عن طلب مدرسة لغة انجليزية استبدال مكانها بمكان آخر في معهد آخر، وكانت الورقة مكتوبة كالتالي:
" مناقلة
أستاذة لغة إنقليزية بمعهد حمام سوسة 2 ترغب في مناقلة مع أستاذ أو أستاذة من معهد الذكور بسوسة أو معهد الفتيات بسوسة."
لفت انتباهي في هذه الورقة أمران: الأمر الأول وهو العنوان الذي توسط أعلى الطلب: مناقلة؟ كلمة ثقيلة، لا نستخدمها في مصر وبحثت عن مرادفها في لهجتنا فرأيت (مبادلة أو بدل). والأمر الثاني وهو طريقة كتابة اللغة الإنجليزية، فهم يستبدلون الجيم بالقاف.
تركت الورقة بعد أن احتفظت بصورة لها على هاتفي ثم واصلت السير صوب وسط المدينة، وإذا بقدماي تقودانني حيث سور قديم، تبينت بعد قليل وقت أنه سور لقلعة أثرية كبيرة، وقف أمامها عدد كبير من الميكروباصات، جميعها باللون الأصفر وتحمل كل واحدة منها لوحة مكتوب عليها اسم المحطات التى تنطلق منها و التى تعود إليها. في هذا المكان أحسست أنني في القاهرة، لا سيما وأن صوت المنشاوي وعبد الباسط كانا يصدحان في المكان فأضفا عليه هدوءً وسكينة، على الرغم من حركة الناس التى بدأت تزداد شيئا فشيئا.
سرت مع السور لنهايته، ورأيتنى أقف في ميدان كبير شممت فيه رائحة البحر، ثم نظرت عن يميني فإذا بي أرى مبنى البنك المركزي بسوسة، اقتربت منه على أمل أن أغير عملتي المنتهية الصلاحية بعملة جديدة سارية الصلاحية، إلا إن الوقت كان لايزال مبكرا، فلم تكن قد دقت السابعة بعد، لذا وليت وجهي شطر البحر حتى وصلت إلى كورنيش بوجعفر، وأول ما لفت انتبهاي في الكورنيش هو صخرة كبيرة تلتطم بها أمواج البحر، رسم عليها شعار فريق النجم الساحلي وتشتهر بـ "نجمة بو جعفر" عندها يلتقي الأحبه، فيجعلونها في كثير من الأحيان خلفيه لصورهم. كان الكورنيش خاليا من المارة، وكذلك شاطئ البحر، أما مياهه فكان بها بضعة رجال ونساء يسبحون، كما كان هناك أيضا بعض الصيادين الهواه، وودت لو كانت معي سنارة لأصطاد بها، فأنا أهوى الصيد كثيرا.

الفنادق المطلة على الكورنيش معظمها مغلق، إما للترميم، وإما لخلوها من السياح، وصدق الدكتور جنيج حينما قال: "سوسة مدينة منكوبة".

الاثنين، نوفمبر 02، 2015

تونس الخضراء 10


أسعار المأكولات بدت لي خرافية وغير منطقية، فكسكروت التن بألفين، وهو نفس سعر الحوت المشوي؟ سألت الرجل وما الحوت المشوي؟ فأراني سمكة صغيرة أشبه بسمك السردين! سألته: وهل هذه بألفين؟ أجاب نعم ألفي مليم أي دينارين للحوت الواحد.
-         أوَ تطلقون على السردين حوتا، فماذ تطلقون على الحوت الكبير إذن؟
-         نطلق عليه حوتا كبيرا.
أراد الرجل أن يبين لي أن تسميتهم للسمك الصغير بالحوت قد وردت في القرآن الكريم واستشهد بقوله تعالى في سورة الكهف: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) )
ومن جانبي فقد ذكّرته بقوله تعالى: (فالتقمه الحوت وهو مليم) الآية 142 سورة الصافات، وأخبرته بأن لفظة الحوت قد وردت في القرآن الكريم خمس مرات في أربع سور[1]،  ثم امتد بنا الحديث بعد ذلك وتشعب، حتى رأيت الرجل يفتح درج خزينته كي يرينى العملة التونسية، حينها أخرجت له من جيبي عشرة دنانير ورقية سألته أن يفكها، وما كاد الرجل يرى العشرة دنانير حتى تغيير لون وجهه، ودون أن يستأذن مد يده فاختطف العشرة دنانير من بين يدي متسائلا: من أين حصلت عليها؟ أجبته: من صرافة في مصر؟ قال: هذه الورقة لم تعد متداولة، لقد ألغيت منذ بضعة أشهر!
أصابتني صدمة، أفقدتني التفكير في كل شئ، إلا شيئا واحدا انتبه تفكيري إليه وتوقف. عشرة أوراق أخر من نفس النوع، نوع هذه العشرة دنانير الورقية الملغية، يا إلهي لقد تركتهن جميعا في الفندق؟ لقد خدعت؟!
رأى الرجل صدمتي، فحاول أن يساعدني، قال أمامك حل واحد ووحيد، عليك أن تذهب إلى البنك المركزي ومعك جواز سفرك، وهناك، هناك فقط سوف تستبدل هذه العملة بالعملة الجديدة.
البنك المركزي؟! وأين البنك المركزي؟ أجاب الرجل: هنا في سوسة.
عرفت بعد ذلك أن للبنك المركزي التونسي اثني عشر فرعا تكاد تغطي خريطة تونس: تونس العاصمة، بنزرت، سوسة، صفاقس، نابل، قابس، قفصة، القصرين، القيروان، مدنين، جندوبة، المنستير.
وقبل أن أودع الرجل كان لا يزال سؤالا يلح عليّ، ولم أجد بدا من أن أسأله، قلت له: هلا أخبرتي بالسر وراء إلغاء هذه العملة؟ أجاب بلا تردد: لأنها تحمل شعارات تعود إلى حقبة بن علي!
وبعد أن ابتعدت عدة خطوات عن المطعم تذكرت شيئا مهما اضطرني للعودة إليه، قلت للرجل: ماذا لو أبدلتني العشرة دنانير الورقية بثمان معدنية؟!




[1] سورة الأعراف الآية 163، سورة الكهف الآيتين 61 و 63، سورة الصافات الآية 142، سورة القلم الآية 48

الأحد، نوفمبر 01، 2015

تونس الخضراء 9

بعد سفر يوم طويل، استيقظت فيه قبل الفجر، وقطعت فيه آلاف الكيلومترات برا وجوا بوسائل نقل مختلفة بالإضافة إلى حضور الجلسة الافتتاحية للمؤتمر ثم تناول العشاء، كل هذا جلعني أعتذر عن الخروج مع الزملاء للسهر على إحدى مقاهي سوسة، واضطرني لأرتمي فوق  السرير.
 استيقظت على صوت المؤذن ينادي لصلاة الفجر، توضأت ونزلت أتتبع صوته حتى وصلت إلى مسجد صغير من طابقين، فاجئني العدد الكبير للمصلين، وفاجئني أكثر أن معظم المصليين من الشباب. لاحظت اختلافا بين صلاتنا في مصر والصلاة في تونس؛ فالإمام يقرأ القرآن برواية قالون عن نافع، ويصمت صمتا طويلا بعد أن ينتهي من القراءة قبل الركوع، حتى أنني ظننته قد نسي ويحتاج لمن يذكره، ولاحظت كذلك أنه يسلم بتسليمة واحدة بقوله "السلام عليكم" !
عند باب الخروج سألت أحد الشباب عن الطريق إلى وسط المدينة، تحدث إلي بلهجة تونسية بها كلمات لم أفهمها مثل: لواج، هز، فِسا فِسا، طول طول! عرفت بعد ذلك أنه يقصد: اركب (هز) مكروباصا (لواج) سريعا (فسا فسا) على طول (طول طول)!
قلت له لا أريد أن أركب سيارة، أريد أن أمشي، فأشار إلى الطريق!
أشياء كثيرة لفتت انتباهي على طول الطريق أهمها اللافتات، وقد لا حظت- كما كان الحال كذلك عند زيارتي للمغرب العام الماضي- أن هذه اللافتات مكتوبة باللغتين العربية والفرنسية، ولاحظت كذلك أن اللغة العربية ما هي إلا ترجمة حرفية لما كتب بالفرنسية، وأن هذه الترجمة قد تكون في بعد الحالات غير مفهومة لي كمصري؛ فلافته تشير إلى "ممر مرتفع" احترت في فهم المقصود منها، وتبين لي بعد فترة أنها تعني "مطب صناعي"، أو (بوليس راقد) في اللغة التونسية الدارجة، أما لافتة "مأوى بأجر" فلم أستطع فهم مقصودها إلا بعد أن فسرها لي صديق تونسي، وعرفت منه أنها تعني "جراج أو ساحة انتظار للسيارات"، أما لافتة "أولوية مطلقة للمترجلين" فلو كانت موجودة عندنا في مصر لكتبت "الأولوية للمشاة"، وضحكت لرؤية لافتة مكتوب عليها "افسح المجال" ولا أدري من يفسح لمن؟ ولفت انتباهي كذلك أنهم يطلقون كلمة "نهج" على الشارع الجانبي، وإذا كان الشارع ضيقا مسدودا أطلقوا عليه اسم "زنقة".

أما عن أسماء الأطعمة التى تباع في المحلات فحدث ولا حرج، أسماء تحتاج إلى قواميس لشرحها، فقد استوقفتني لافتة على مطعم واجهته زجاجية تشير إلى ثلاثة أصناف من الطعام: الصنف الأول "حوت مشوي"، والصنف الثاني "بريك"، والصنف الثالث "أكلة شعبية". أما بالنسبة للصنف الأول "الحوت المشوي" فقلت لنفسي: مستحيل أن يكون بداخل هذا المطعم الصغير "حوتا" إلا أن يكون مقطعا ويباع بالقطعة، وعليه فكان ينبغي على صاحب المطعم أن يكتب "قطعة حوت مشوي"، أما أن يكتب "حوت مشوي"، فهذا محال. وأما عن الصنف الثاني فلم أفهمه، وكذلك لم أفهم ما تحتوية الأكلة الشعبية من مكونات. ويبدو أن صاحب المطعم أدرك حيرتي فخرج إلى يدعوني للدخول، وعندما دخلت المطعم زادت حيرتي أكثر وأكثر، فبدل أن يشرح لى الرجل أصنافه بلغة مفهومة وبسيطة، شرحها بلهجته التونسية، الأمر الذي ضاعف التعقيد، ولما رآني الرجل لم أفهم شيئا مما قاله أشار إلى لافته معلقة على الحائط بها مزيد من أنواع الأطعمة وأمام كل نوع سعره: وكانت القائمة كالتالي:
كسكروت تن 2000
صحن تونسي   4500
لبلابي          2000
دوزة تن               2000
عظم           300
يا إلهي!  ما معنى كسكروت، وما معنى تن؟ وما هي مكونات الصحن التونسي أم أنه يقدم فارغا؟ وما هو اللبلابي، وهل يؤكل العظم؟!

كل هذه الأسماء كانت عبارة عن ألغاز لم تحل إلا عن طريق المشاهدة، فقد أراني الرجل أن كسكروت تعني ساندوتش، وتن تعني تونه أي أنه ساندوش تونة، وعلمت بعد ذلك أن الصحن التونسي يتكون من أشياء كثيرة لم أتبينها، واللبلابي سأحكي عنه فيما بعد، أما العظم فهو البيض!