الخميس، ديسمبر 31، 2015

تونس الخضراء 37


أفضل ما في الصلاة الثانية هو أنك تصلي صلاة العصر بعد أن تنتهي شعائر صلاة الجمعة مباشرة، صلاتان في وقت واحد. كان الأمر جديدا ومثيرا، وزادت الإثارة وقت أن أعلنت الفتاة إسلامها.  قلت لغسان: ما السر في إسلام عدد كبير من النساء الأجنبيات مقارنة بالرجال؟
-         رغبتهن في الزواج من مسلمين. أجاب غسان.
عند بابَيّ الخروج كان زحاما شديدا، لذا توقفنا قليلا في ساحة المسجد حتى يخف الزحام، كانت هناك بقايا من مياه أمطار تغطي الساحة، وكان الهواء منعشا. بالقرب من صومعة الجامع الكبيرة – صومعة تعني مأذنة- كانت هناك لوحة زجاجية كبيرة مكتوب عليها تاريخ الجامع منذ نشأته، قرأت فيها تاريخا طويلا يمكن تلخيصه فيما يلي: "كان الجامع حين إنشائه على أغلب الظن بسيطاً صغير المساحة، تستند أسقفه على الأعمدة مباشرة، دون عقود تصل بين الأعمدة والسقف. وقد حرص الذين جددوا بناءه فيما بعد على هيئته العامة، وقبلته ومحرابه، وعملوا كذلك على زيادة مساحته. ولقي اهتمام الأمراء والخلفاء والعلماء في شتى مراحل التاريخ الإسلامي، حتى أصبح معلماً تاريخياً بارزاً ومهما. و يعتبر هذا المسجد من أضخم المساجد في الغرب الإسلامي وتبلغ مساحته الجملية ما يناهز 9700 متر مربع، ومقياسه حوالي 126 مترا طولا، و 77 متر اعرضا، وبيت الصلاة فيه واسع ومساحته كبيرة، ويستند إلى مئات الأعمدة الرخامية، هذا بالإضافة إلى صحن فسيح الأرجاء تحيط به الأروقة، كما أنه يحتوي على كنوز قيمة؛ فالمنبر يعتبر تحفة فنية رائعة وهو مصنوع من خشب الساج المنقوش ويعتبر أقدم منبر في العالم الإسلامي، ولا يزال محتفظا به في مكانه الأصلي ويعود إلى القرن الثالث للهجرة أي التاسع ميلادي."

ياإلهي، أحقاً أقف الآن بالجامع الكبير؟ أحقا صليت الجمعة والعصر فيه؟ أحقا جئت إلى القيروان؟ من فضلك اضربني على رأسي يا غسان كي أتبين حقيقتي من خيالي!

الثلاثاء، ديسمبر 29، 2015

تونس الخضراء 36


عزيزي القارئ سامحني إن لم أستطع أن أنقل لك بدقة مشاعري وأنا في طريقي إلى الجامع الكبير لصلاة الجمعة. اعذرني إن لم تساعدني الكلمات في وصف المكان، اغفر لي اضطرابي وشرودي، تجاوز عن تقصيري في نقل هذا الموقف تفصيليا كما اعتدت مني، فقد كنت في حال غير الحال، ولك أن تتخيل معي مسجدا بهذا القدم وبهذا التاريخ، رجالاً ونساءً يتوافدون إليه بزيهم التقليدي، الأبيض للرجال والأسود للنساء، ولا تنسى الأطفال ببراءتهم، أصواتا تتلوا القرآن الكريم تأتيك عبر مكبرات صوت، وفي الأفق البعيد كان الحمام يسبح محلقا مستمتعا في سلام.
طالت بي هذه الحال حتى وجدتني أجلس أمام منبر الجامع الكبير، لم يكن قد صعد عليه الإمام بعد، كل شئ كان مهيئا لقدومه. شعور بالرهبة، بالراحة، بالخشوع، أو كلهم مجتمعون لا أدري، لم يطل المقام حتى قدم الإمام، كان يتكؤ على عصاه، صعد المنبر وهو ممسك بها، عرفت فيما بعد أن هذا تقليد يتبعه أئمة المغرب العربي، فهم على مذهب الإمام مالك.
 كان الإمام شيخا كبيرا، يرتدي حلة بيضاء وعمامة حمراء. جلس الإمام على المنبر فرفع المؤذن الأذان، و على غير عادة المؤذنين قام بتريدد بعض الأحاديث النبوية فور أن انتهى من أذانه، ثم قال: أنصتوووووا يرحمكم الله.
وقف الإمام على منبره ممسكا بعصاه، ثم استفتح خطبته بقوله: " الحمد لله المقيت بالأيام والأعوام، المسيَّر للأفلاك بنسق وانتظام، المدَّبر لحياة العباد باقتدار وإحكام، نحمده سبحانه ونسأله أن يبارك لنا فيما نستقبل من جديد العام"

فهمت من فوري أن الخطبة ستدور حول ذكرى هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد كان، وكانت خطبة موجزة، لم تستغرق سوى عشرين دقيقة، بعدها نزل الإمام فصلى بنا ركعتي الجمعة، ثم سلم تسليمة واحده، وسريعا صدح المصلون بالتسبيح والتهليل والتكبير بصوت مرتفع وفي جماعة، انتابتني قشعريرة، استمر سريانها في جسدي حتى بعد أن توقف التكبير. بعده قام الإمام فصلى ركعتي السنة وتبعه المصلون، وبعد أن فرغ الجميع من صلاتهم رأيت المؤذن وقد أخذ الميكروفون وذهب به إلى غرفة جانبية كل حوائطها من خشب الأربيسك وتبعه الإمام. دقائق معدودة وسمعنا صوت الإمام يرج المكان: أبشروا، شابة فرنسية تعلن إسلامها. قولي يا بنتي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله. وسمعت الفتاة تردد كلمات الإمام بلكنتها الأجنبية التي تنطق الحاء هاء. عندها هاج الجمع وماج مرددين: الله أكبر.

الأحد، ديسمبر 27، 2015

تونس الخضراء 35


خلف سور الجامع الكبير رأيت ساحة كبيرة، برزت فيها عدة مقابر مطلية باللون الأبيض، وخلف هذه المقابر كانت ساحة أكبر، إلا أنها كانت خالية من أي شئ، يفصلها عن البيوت شارع رئيسي، عبرناه فإذا بنا أمام مطعم صغير يبيع الكفتاجي.
-         السلام عليكم، معي ضيف مصري وأريده أن يجرب الكفتاجي. قال غسان.
-         أهلا وسهلا بالمصري، كسكروت أم طبق؟ سأل البائع.
من خبرتي السابقة عرفت أن كسكروت تعني ساندوتش، لذا فقد أجبته على الفور: كسكروت من فضلك.
أجلسنا البائع، عرفت فيما بعد أنه صاحب المطعم، يعمل فيه هو وأخويه وزوجته. زوجته تجمع النقود من الزبائن، وأخويه يساعداه في تجهيز الطعام، أما هو فعليه إعداد الطعام وتقديمه للزبائن إما في كسكروت وإما في أطباق. ترى ما هو جمع كلمة كسكروت؟ ربما كسكروتات!
كنا نجلس على منضدة هي الوحيدة في المطعم، أخرج لنا أحدهم زجاجتين من المياه الغازية، اخترت الكولا واختار غسان واحدة تشبه السفن أب، كل الناس يعرفون المياه الغازية، وقليلون هم من يعرف شيئا عن الكفتاجي.
-         ما هذا الكفتاجي يا غسان؟
-   الكفتاجي عبارة عن فلفل حار، و بيض طازج يقليه الرجل في الزيت سريعا، وطماطم مقطعة قطعا صغيرة إضافة إلى بطاطس مقلية، كل هذه الأصناف يخلطها الرجل مع بعضها البعض وتقدم ساخنة.
نظرت إلى الساندوتش (الكسكروت) فوقعت في غرامه، بالتأكيد لن تكفيني وحدك أيها الكسكروت، حتما سأحتاج لغيرك.
تجاذبنا أطراف الحديث مع أصحاب المطعم، كانوا ودودين للغاية. جائني شعور بأن مطعم الكفتاجي هو أقرب ما يكون لمحلات الفول والطعمية عندنا في مصر. قال غسان: الكفتاجي هو من الأكلات الشعبية السريعة لدى أهل القيروان.
كنت أظن أن كسكروتا واحدا من الكفتاجي لن يكفيني، ولكن بعد أن التهمته كاملا أحسست أنني شبعت، الأكل التونسي ذو مذاق رائع، إلا إنه حراااق إلى درجة يصعب احتمالها.

من بعيد سمعنا أصوات ترتل القرآن الكريم، نهض غسان يدفع حساب ما أكلناه، ثم ودعنا أصحاب المطعم وتوجهنا صوب باب الجامع الكبير، جامع عقبة بن نافع. أخيراً سيتحقق الحلم.

الجمعة، ديسمبر 25، 2015

تونس الخضراء 34


إيه يا قيروان بالله هبي وأعيدي حديث أهل الضاد
أسد بن الفرات والبلوي        من تعدتك في حماة العوادي
وابن سحنون وابن نافع والقوم العظام الأجلة الأطواد[1] 
ما أجمل القيروان وما أهدأها، أحب المدن القديمة ذات التاريخ العريق، وحبي للمدن القديمة التي لم تغير جلدها أشد. بيوت القيروان قديمة ومازالت محتفظة بشكلها القديم كذلك، معظم البيوت من طابقين، حوائطها الخارجية مطلية باللون الأبيض، والأبواب كما هو الحال في المهدية مطلية باللون الأزرق. أبيض وأزرق هما لونا النقاء والصفاء بالنسبة لي.
شوارع القيروان ضيقة ومتعرجة، ستتوه فيها حتما لو لم يكن معك مرشد مثل غسان. أين نحن الآن يا غسان؟
-         انظر، هذا هو الجامع الكبير، جامع عقبة بن نافع!
ما أبهاه! أصاب جلدي قشعريرة لرؤية حائطه الشاهق الارتفاع، من الخارج أحسست أنه يشبه جامع عمرو بن العاص، ثمة وجه شبه، ربما عبق التاريخ، أو ربما الصانع نفسه. متى بني هذا الجامع يا غسان؟
" بناه عقبة بن نافع، القائد العربي الكبير، وقت أن حط برحاله في القيروان سنة 50 هجريا" أجاب غسان ثم أضاف سائلا: وهل تعرف لم سميت القيروان بهذا الإسم؟ كان جوابي بالنفي مما فسح المجال لغسان كي يواصل حديثه، قال:
"القيروان ليست كلمة عربية بل فارسية، وتعني مكان السلاح ومحط الجيش، أو تعني استراحة القافلة وموضع اجتماع الناس فى الحرب. عندما أنشأها عقبة بن نافع كان هدفه أن يستقر بها المسلمون، إذ كان يخشى إن عاد المسلمون إلى بلادهم أن يعود أهل إفريقيا إلى دينهم."
-         وما السر في اختيار هذا المكان؟ تساءلت.
" يقال أن عقبة بن نافع اختار هذا المكان لأنه يبعد عن البحر- الذي يسيطر عليه البيزنطيون -  بمسيرة يوم واحد، كما أنه يبعد عن الجبال- التي تسيطر عليها القبائل البريرية وقتذاك - بنفس المسير، علاوة على ذلك فإن أرض القيروان أرضا منبسطة، الأمر الذي  يسمح باستنفار الفرسان في يسر وسهولة. كما أنها قريبة من المناطق التى تنمو فيها السبخة وهي نبات يحبه الإبل."
اقتربنا من باب الجامع الكبير، كان الجامع مغلقا، إلا أن لوحة خشبية معلقة على إحدى جانبي الباب لفتت انتباهي، كان بها ورقة تحمل صورة لكتاب قرأته، هذا الكتاب نقله إلى العربية أستاذي الدكتور محمد شامة منذ أكثر من ثلاثين سنة.  الكتاب يحمل عنوان " الإسلام قوة الغد العالمية"، ترى هل دار بخلد الدكتور شامة أن يصل كتابه يوما إلى القيروان؟ سأسأله عندما أعود إلى القاهرة.



[1] الأبيات من قصيدة للشاعر التونسي الطاهر القصار

الأربعاء، ديسمبر 23، 2015

تونس الخضراء 33



يقولون إن الجمال محال
 ومازال في القيروان الجمال
فعفواً إلهي إذا قلت يوما
لقد حل في القيروان الكمال[1] 
ما أجمل واجهة هذا المسجد وما أقدمها، قال غسان بعد أن انصرف الشاب المسكين وخلا لنا الجو واتسع بنا المكان: هذا المسجد من أقدم مساجد المدينة، يعود إلى الحقبة الأغلبية، بناه محمد بن خيرون سنة 252ه، ولأن له ثلاثة أبواب متجاورة فقد سمي بمسجد الثلاثة أبواب، باب للرجال وباب للنساء وثالث للأطفال.
كان المسجد مغلقا، هنا تغلق المساجد بعد كل صلاة، سألت غسان: متى سنصلي الجمعة؟
نظر غسان في ساعته وقال: مازال أمامنا وقت، سنتناول الغداء أولا، ثم بعد ذلك نذهب فنصلى الصلاة الثانية في جامع القيروان الأعظم.
-         الصلاة الثانية! وعدتني أن تفسر لي معنى الصلاة الثانية!
أخذ غسان نفسا عميقا ثم أخرجه ببطء، بعده قال: تعرف أن يوم الجمعة هو يوم عمل في تونس، وأن عطلة نهاية الأسبوع هي يومي السبت والأحد، وهذا تقليد قديم يعود إلى أيام الاحتلال، وعندما استقلت تونس عام 1956 وجاء بورقيبة إلى الحكم أبقى كثيرا من الأوضاع الوظيفية كما هي، وعندما تضرر المواطنون التونسيون من حرمانهم من صلاة الجمعة، طلب بورقيبة من المشايخ يستفتيهم في الأمر فأفتوا بجواز تأخير صلاة الجمعة إلى ما قبل صلاة العصر، ثم قسّم المساجد يوم الجمعة إلى قسمين: القسم الأول يؤدي الصلاة في وقتها، بينما يؤجلها القسم الثاني إلى ما قبل صلاة العصر بحوالي نصف ساعة، وبهذا تتاح الفرصة أمام الموظفين لأداء صلاة الجمعة بعد انتهاء مواعيد عملهم الرسمية.
لم أكن أعرف أن يوم الجمعة ليس بإجازة في تونس، وكان علي أن أتبين ذلك وقت أن كنا في جامعة رقادة، لقد كان يوما دراسيا عاديا، كيف مرّ علىّ مثل هذا الأمر؟


[1]  من قصيدة للشاعر التونسي محمود الغانمي

السبت، ديسمبر 19، 2015

تونس الخضراء 32


أنقذني غسان من العجوز وإلحاحه. كيف؟ لا أدري، فقط رأيته يميل على أذن العجوز يحدثه، قال له كلمات لم أسمعها، ثم نهض فحياه مودعا، وفعلت مثل ما فعل. عند الباب كان في انتظارنا الشاب ذو الملابس البسيطة، ولكن هذه المرة كان يستند على دراجته الهوائية، أشار له عامل المتحف بتلويحة من يديه فهم منها أننا لم نشتري شيئا. مثل هذه الأمور أعرفها تماما، فقد عملت لسنوات عدة في السياحة. ما أتعس العاملين في هذا المجال وما أشقاهم!
-         هل تودان زيارة المسجد ذو الثلاثة أبواب؟ سأل الشاب.
-         نعم سنزوره، شكرا لك. أجاب غسان.
-         سأساعدكما في الوصول إليه، هيا من هنا. أمر الشاب.
-         لا داعي، فأنا أعرف الطريق جيدا. أجاب غسان.
لم يسمع الشاب جواب غسان، أو ربما سمعه وقام بتجاهله، ورأيته ينطلق أمامنا في زهو، يمسك الدراجة بيده اليمنى، ويطوح يده اليسرى كلما انحرف بنا الطريق، أو كلما أراد أن يقول لنا شئ. كنا نريد أن نسير في هدوء، نريد أن نستمتع بالمدينة، نستمتع بالبيوت البيضاء، بالحواري المتعرجة، بالأزقة الضيقة، بكل شبر في القيروان؛ فما أحلاها هي القيروان.
توقف الشاب أمام واجهة ذات ثلاث أبواب لمسجد قديم مغلق، ركن دراجته على حائط مقابل للمسجد، اقترب منا وأشار: هذا هو مسجد الثلاثة أبواب، وبدلا من أن يتركنا نرى المسجد ونتأمل أبوابه الثلاثة، طلب منا أن ندخل خلفه أحد المتاجر التى تصنع وتبيع السجاد. لم يمهلنا التفكير، أو حتى الرد عليه، سبقنا ودخل المحل ونادى علينا: تفضلا.
ياإلهي، لم نأتي هنا لنشتري. أردنا أن نعتذر للشاب عدم رغبتنا في الدخول لولا أن قامت صاحبة المتجر من خلف ماكينة الخياطة ونادت علينا: تفضلا.
اصطنعتُ ابتسامة لأحيي بها السيدة، أثنيتُ على صنيعها، كانت تريد أن تريني كل ما غزلته يداها، قالت: سأبيعك بأرخص الأسعار، خذ لك واحدة!

ما أصعب هذه المواقف، وما أثقلها على قلبي! كم أتمنى أن أكون غنيا، فقط لأشتري كل ما يبيعه هؤلاء.

الخميس، ديسمبر 17، 2015

تونس الخضراء 31


سلمنا الشاب إلى رجل عجوز وانصرف، كان العجوز ودودا لدرجة كبيرة، رحب بنا ترحيبا مبالغا فيه، كنا نقف في وسط الدار، ما كل هذا السجاد؟ تساءلت.
 يبدو أننا في متحف للسجاد، لا، ليس هذا بمتحف، وإلا فلماذا لم نشتري تذاكر دخول؟ وهل كان للمتحف الإسلامي برقادة تذاكر؟ يبدو أن متاحف القيروان مجانية.
كانت الدار خالية من الزوار، فقط الرجل العجوز، وشاب نحيل  رأيته عن بعد يبدو أنه أحد العمال. دخل بنا العجوز في أكثر من غرفة، جميع حوائط الغرف مزينة بسجاد، وبها أثاث قديم، الدار من طابقين، من وسط الدار يمكنك رؤية غرف الطابق الثاني وممراته، قال العجوز إن صاحب الدار كان محافظا للقيروان، أهدى داره للحكومة فحولتها دارا لصناعة السجاد.
في إحدى الغرف أخرج العجوز من داخل دولاب قديم طاقية حمراء وصدرية زرقاء وشال طويل أحمر. قال: هذا هو الزي التونسي التقليدي، ارتديه واجعل صديقك يلتقط لك صورة!
فرحت كثيرا بالزي التونسي، وطلبت من غسان أن يلتقط لي صورة. هل لى أن أحتفظ بالزي؟ سألت العجوز.
-         لا، هذا الزي عهدة، ولكن يمكنك أن تحتفظ بالصورة.
اصطحبنا العجوز لرؤية شئ جديد، فدخلنا غرفه صغيرة رأينا فيها سيدتين عجوزتين تغزلان السجاد، أشفقت عليهما كثيرا، لاسيما وقد أحنى الزمان ظهريهما. كانتا تغزلان بحرفية عاليه، أثنيت على ما يصنعنه، ثم خرجنا إلى صالة كبيرة، فيها نادى العجوز على العامل كي يعرض أمامنا ما صنعوه من سجاد. وبينما كان يعرض العامل سجاده أخذ العجوز يشرح لنا: هذا كليم من الصوف، وهذا قطيف من الحرير، وهذا مرقوم، وهذا بخنوق، وهذا حرام، وهذه قشابية، وهذا حولي، وهذه عبانة، وهذه جبة، وهذه بطانية.
-         نأمل أن تشتري منا شيئا يا سيد محمد.
-         يشرفني ذلك ولكن....
-         لدينا سجادا صغيرا، خذ لك واحدة للذكرى.
-         كم ثمن أصغر سجادة لديكم؟
-         45 ديناراً.
أحسست أنني في مأزق، فلم أكن قد أعددت للأمر عدته، وحاولت أن أغير موضوع البيع والشراء إلى موضوع آخر، فسألت العجوز:
-         كم تحتاج السجادة من وقت؟
-         زربية بطول ستة أمتار تحتاج إلى ستة أسابيع عمل. أجاب العجوز.
-         ما معنى زربية؟ تساءلت
-         سجادة، أجاب العجوز ثم عاود:

-         خذ لك زربية صغيرة، فلم نبع شيئا منذ أسابيع. 

الاثنين، ديسمبر 14، 2015

تونس الخضراء 30


جذبني غسان من يدي وانحرف بي هذه المرة ناحية اليمين.
-         إلى أين يا غسان؟ تساءلت.
-          تعالى لنشرب من بئر بروطة، فماؤه مثل ماء نهر النيل، من يشرب منه مرة يعود إليه من جديد.
صعدنا عدة درجات قربت من العشرين، فاستقبلتنا رائحة نفاذة من البخور، زادت حدتها كلما اقتربنا من البئر.
- ما هذا الجمل يا غسان؟
لم أكن أتخيل أن أجد جملا عند البئر، قيل لنا أن هذا تقليد موروث منذ مئات السنين، جمل يدور حول البئر، مربوط في جرار (جمع جره) معلقة بعجلة خشبية، كلما دار الجمل كلما غرفت الجرار من الماء لتصبه في جرة كبيرة من الفخار، وعند امتلائها يقوم العامل بتوزيع المياه في أواني صغيرة يشرب منها الزوار. ما أعزب هذا الماء وما أنقاه! قال لي العامل: هذا الماء يشفي من الإمساك! قلت له: نعم، ولكن الشافي هو الله.
في تونس يضربون "بجمل بروطة" المثل، يقولون: "يعمل مثل جمل بروطه" أي "داير في ساقية" كما يقول المثل المصري. وفي الماضي كان يدخل جمل بروطة الخدمة "حوارا" أي جملا صغيرا على رجليه، ويخرج على الأطباق أي مذبوحا. أما الآن فقد تغير الحال وصار الجمل يستبدل بآخر كل عدة أعوام.
خرجنا من بئر بروطة على أمل أن نعود إليه يوما ما، ترى هل سنعود؟ العلم عند الله. كان ينتظرنا عند الباب شاب نحيف، يرتدي ملابس غاية في البساطة، لا نعرفه من قبل، صاح بلهجته التونسية: تفضلا، من هنا.
-         ماذا؟ سأل غسان.
-         ألا تريدون زيارة متحف القائد العلاني للسجاد؟ سأل الشاب.
-         نعم سنزوره، أليس من هنا؟ سأل غسان

-         نعم تفضلا. أجاب الشاب، ثم سبقنا بعدة خطوات، أو بالأحرى نحن من تأخر عنه تلك الخطوات، فقد أدركنا أنه من أولئك الذين لا يقدمون الخدمة إلا بمقابل. تعمدنا أن نلتقط لأنفسنا صورا جعلنا خلفيتها إما أبوابا قديمة، وإما بيوتا أثرية. كان الشاب ينتظرنا من دون ملل أو كلل، ولم نجد بدا من أن نتبعه حتى وصلنا إلى دار غاية في الروعة والجمال.

السبت، ديسمبر 12، 2015

تونس الخضراء 29

هذه القيروان كبر وهلل        وترنم بمطرب الإنشاد
إنما أنت في بلاد قريش          إنما أنت في حمى الأمجاد
إنما أنت في بلاد بني الأغلب     أهل الرشاد والإرشاد
يوم كان الزمان عبدا وكنا      سادة الكون خيرة الأفراد[1]
اقتربنا من سور المدينة القديمة فهبت رائحة من عبق التاريخ، رائحة أعرفها جيدا، أشمها كلما اقتربت من فسطاط عمرو بن العاص أو مررت بقاهرة المعز، ما أزكاها من رائحة! ورأيت المآذن ترتفع في شموخ وجلال، مآذن كثيرة، متفاوتة الارتفاع والحجم، متشابهة الشكل والتصميم، مستطيلة وليست دائرية، ويسمونها صومعة.
توقفنا بجوار سور المدينة القديم، خطونا خطوات قليلة حتى باب الجلادين وهو أشهر أبواب المدينة، أمامه وقف الباعة الجائلون يعرضون بضائعهم، معظمها أدوات فخارية بألوان اختلط فيها الأبيض بالأزرق بالأحمر، أحب هذه الألوان كثيرا، وأحبها في الفن الإسلامي أكثر.
خلف باب الجلادين رأيت شارعا يشبة شارعي الموسكي والأزهر بالقاهرة، شارع طويل رصت على جانبيه دكاكين قديمة ومقاهي، كانت الدكاكين خالية من الزبائن، أما المقاهي فكانت عامرة.  أشار غسان على مقهى يحمل لافتة مكتوب عليها "مقهى عراك"، قال: في نهاية الزيارة سنجلس هنا لنحتسي القهوة، فهذا المقهي هو أقدم مقاهي المدينة.
واصلنا السير فمررنا بمحلات تبيع أنواعا مختلفة من الحلويات، لفت انتاهي لافتة صغيرة تحمل كلمة "مقروض"، ما هذا المقروض يا غسان؟ تساءلت.
-         المقروض هو نوع من الحلوى تشتهر به مدينة القيروان، هل تريد أن تجربها؟ سأل غسان.
-         لا، ليس الآن. أجبت
أكملنا السير وفجأة تفرع بنا الشارع إلى فرعين، اختار غسان أن يدخل أيسرهما -نسبة إلى اليسار وليس  إلى اليسر-  كان غسان يعرف الطريق جيدا، وكانت الأمطار تريد أن تعوق حركتنا، فاحتمينا منها بمظلة أعادت إلينا ذكريات جميلة.

-         أوَ ما تزال تحتفظ بهذه المظلة يا غسان؟ تساءلت.
رد غسان على سؤالي بسؤال:
-         هل تذكر هذه المظلة؟
-         نعم أذكرها وأحتفظ بها كذلك، بل وما زلت أحتفظ بالأقلام، والحقيبة، والترمس الحديدي المكتوب عليه اسم البرلمان الألماني. فسريعا تمضي هي الحياة، ولا يبقى لنا منها سوى تلك الذكريات يا غسان!



[1]  الأبيات من قصيدة للشاعر التونسي الطاهر القصار

الخميس، ديسمبر 10، 2015

تونس الخضراء 28


في قاعة المصاحف رأينا نسخا قديمة للقرآن الكريم، منها ما هو مكتوب على الرق ومنها ما هو مكتوب على الجلود، منها ما خط بخط واضح، ومنها ما وجدت صعوبة في قراءته. وأفضل ما رأت عيني في هذه القاعة كان المصحف الأزرق، وقد أخبرنا المرشد أن كتابة هذا المصحف تعود إلى القرن الرابع الهجري، وهو مكتوب بالخط الكوفي المذهب على ورق أزرق نادر، وقد تم العثور عليه في مكتبة الجامع الأعظم بالقيروان!
كم أشتاق لزيارة الجامع الأعظم، جامع عقبة بن نافع، هانت، قلت لنفسي، فنحن على بعد كيلومترات قليلة منه. سألت غسان: كم بقي على صلاة الجمعة؟!
-         لا أدري! أجاب غسان، ثم التفت إلى المرشد يسأله:
-         صلاة الجمعة في الجامع الكبير الأولى أم الثانية؟
-         الثانية. أجاب المرشد.
-         ما معنى الصلاة الأولى وماذا تكون الصلاة الثانية؟ تساءلت!
-         سأشرح لك لاحقا. أجاب غسان.
كانت قاعة المصاحف هي آخر زياراتنا في هذا المتحف الإسلامي الرائع، بعدها حرصنا أن نلتقط لأنفسنا عدة صور في جنبات المتحف، علّها تسجل لحظات من النادر تكرارها، ثم خرجنا فركبنا السيارة، ولوحنا بأيدينا إلى عمال المتحف والمرشد، شكرا لكم!
ما أن خرجنا من البوابة الخارجية للمتحف حتى توقف غسان، قال: هيا لنلتقط لأنفسنا صورة أمام هذه البوابة، فما أجملها! تحمست للفكرة ونزلت معه، أصر غسان أن يلتقط هذه الصورة بكاميرته، ضبط الكاميرا على عشر ثوان، بدأ العد التنازلي، عشرة، تسعة، ثمانية، سبعة.  وفجأة، توقفت بجوارنا سيارة للشرطة، خرج منها رجلان بزي ملكي، اقتربا منا، كانت تعلو وجوههما صرامة، تحدث أحدهما إلينا بحزم: هوياتكما الشخصية!
لم ينطق أحد منا بشئ، أخرجت جواز سفري، وأخرج غسان بطاقته. نظر الضابط إلىّ متسائلا: مصرى؟! لم ينتظر مني جوابا، وأخرج هاتفا لاسلكيا ليتحدث فيه. سمعته يملى على الطرف الآخر رقم جواز السفر، ثم رقم بطاقة غسان، سألني عن إسمي واسم أبى، وسأل غسان عن وظيفته، ثم أمر غسان أن يفتح حقيبة السيارة، أملى على الطرف الآخر رقم السيارة، سأل غسان لماذا تحمل في سيارتك هذه الأدوات الحديدية، أجابه: للظروف الطارئة.
لا أنكر أنني كنت متوترا، ولا أنكر أنني توقعت الأسوأ، ففي تلك اللحظات تخيلت كل شئ إلا شيئا واحدا وهو أن يمر هذا الموقف بسلام، توقعت أننا سنذهب إلى قسم البوليس، لماذ؟ لا أدري! توقعت أن يلفق لنا تهمة. ما هي؟ لا أدري! توقعت أن يتم ترحيلي قبل أن أرى الجامع الكبير بالقيروان؟ لا، لا أريد هذه! رحماك بنا يا ألله!
مد الضابط يده إلي بجواز سفري قائلا: هنا ممنوع التصوير. أومأت برأسي، بينما سأل غسان: لماذا؟ أو ليس هذا متحف؟
-         بلى، ولكن أنظر خلفه، هناك ثكنة عسكرية للجيش. أجاب الضابط، ثم أشار إلى زميلة أن يركب السيارة.

تنفست الصعداء، إلا أن دقات قلبي كاد يسمعها من بالمتحف، وبسرعة فتحت باب السيارة وارتميت على مقعدي، هيا بنا يا غسان!

الثلاثاء، ديسمبر 08، 2015

تونس الخضراء 27


انتظرنا "غسان وأنا" خارج المتحف حتى ركب وفد جامعة الدول العربية أتوبيسهم. تحرك الأتوبيس ومن خلفه سيارة الحراسة، خلى المكان من الزائرين، فرأيت على جانبي الباب الرئيسي للمتحف لافتتان من الرخام، الأولى عن يمينة مكتوب عليها ما يلي:
"تفضل المجاهد الأكبر فخامة الرئيس
الحبيب بورقيبة
بتقديم هذا القصر لوزارة الشؤون الثقافية
ليكون مقرا للعمل الثقافي المتخصص"
أما اللافتة الثانية فكانت عن يسار الباب ومكتوب عليها:
"المتحف الوطني للحضارة والفنون الإسلامية"
على الباب استقبلنا شاب عشريني وسيم بابتسامة ترحيب، اصطحبنا إلى قاعة المدخل، رأينا فيها نموذج خشبي رائع لجامع القيروان الكبير، جامع عقبة بن نافع، وأمامه علقت لوحة خشبية كبيرة كتب أسفلها "واجهة جامع الثلاثة أبواب"، وعن يمينها برزت لوحة كبيرة تحمل عنوانا طويلا:
" أسماء الخلفاء والملوك والأمراء والولاة الذين حكموا أفريقية منذ الفتح الإسلامي سنة 27 ه- 648م إلى آخر العهد العثماني سنة 1116 ه- 1706 م"
وقفت أمام اللوحة أتأملها فإذا بها قد جمعت أسماء أكثر من مائة خليفة وملك وأمير ووالي كلهم حكموا إفريقية، الأمر الذي إن دل على شئ فإنما يدل على أن الحضارة الإسلامية كان لها شأنا كبيرا في هذا البلد.  ورأيت غسان ينظر إلى و هو مبتسم، فعلمت أنه يتعجلني.
 تركت اللوحة بعد أن التقطت لها صورة احتفظت بها على هاتفي، ثم تبعت غسان ومعه مرشد المتحف. دخلنا قاعة الخزف، فرأيت أواني فخارية غاية في الروعة والجمال، منها ما يعود إلى الحقب الأغلبيّة (القرن التاسع الميلادي) ومنها ما يعود إلى العهد الفاطميّ (القرن العاشر الميلادي)، وجميع هذه الأواني قد تم جمعها من مواقع أثرية في مدينتي رقادة وصبرة بالقرب من القيروان.  بعد قاعة الخزف دخلنا قاعة النقود أو (قاعة التاريخ الاقتصادي العملة- الموازين) كما هو مكتوب على بابها، وفيها رأيت مجموعة من النقود التي تصوّر تاريخ إفريقيّة الاقتصادي على مدى أكثر من ستّة قرون، دراهم من فضة ودنانير من ذهب، وكانت نظرة واحدة إلى تلك العملات تكفي لمعرفة مدى الرخاء والازدهار اللذين كانت تتمع به تلك الممالك من عدمه.
أمّا أجمل قاعات المتحف من وجهة نظري فكانت قاعة القبّة، قاعة تشرف على حديقة القصر، تعلوها قبة بيضاء منقوشة بعناية فائقة، وبها زخارف وتنميقات زجاجية في غاية الروعة والجمال، وتحت هذه القبة جمعت بعض القطع الثمينة من البلّور والرصاص والبرنز.
ورأيت مرشد المتحف وقد أخرج من جيبة مجموعة من المفاتيح و توجه صوب باب مغلق يفتحه، ثم أشار إلينا بقوله: سوف أريكم ما لا يراه إلا كبار الزوار، وإذا بنا في قاعة المصاحف!