الأربعاء 3 سبتمبر 2003
....... مضي شهرعلى إقامتى في مدينة جوتنجن، ولم يتبق
على عودتى إلى مصر سوى أياما معدودات. مرَّ الشهر سريعا، فاقت سرعته سرعة البرق،
مرَّ من دون أن يستأذن، كنت أود لو أستمتع أكثر بهذه المدينة الجميلة، كنت أود لو
أبقى.. مر الشهر قبل أن أكتشف أشياءً كنت في أشد الحاجة لاكتشافها، مرَّ ولم أكن أعلم
أن مكتبة الجامعة تظل تفتح أبوابها حتى الثانية عشرة ليلا.. آه لو كنت علمت.. لما كنت
تسكعت في الطرقات، ولما ارتميت على المقاهي، ولما تجولت بالدراجة حتى تورمت مؤخرتي،
واشتدت علىّ عضلات ساقي.. آه لو كنت علمت لما اضطررت أن أتوقف مئات المرات أمام
إشارات المرور المنتشرة على قوارع الطرقات وجوانبها.. آه لو كنت علمت لكنت اعتكفت
في المكتبة حتى آخر دقيقة، فالانترنت فيها مجانا، والكتب بالآلاف، والهدوء هو
السائد والمسود.
الليلة فقط علمت أن المكتبة تظل مفتوحة حتى منتصف
الليل، هكذا أخبرنى صديقي جوتس. سألني متى سأسافر إلى باريس؟ أجبته: لن أسافر
إليها هذه المرة يا صديقي؛ فالوقت ضيق، وأرى من الأفضل أن أزور برلين؛ فليس من
المنطقي أن أكون في ألمانيا ولا أزور عاصمتها "شكلي ها يكون إيه قدام
الناس في البلد لما يسألوني عن برلين" وأشارعلىّ: إذا فلنذهب إلى لوحة
الإعلانات في الجامعة، علّنا نجد إعلانا من أحد سيسافر بسيارته إلى برلين؛ فالسفر
بالقطار مرتفع التكلفة، وهو مع الأشخاص أرخص بكثير. وافقته على الفور، فكل سنت
أوفره سيصب في مصلحتى.. ودخلنا الجامعة
وتوقفنا أما لوحة توسطت لوحتين كبيرتين، امتلأ جميعهم بقصاصات من الورق دٌوّنت
عليها إعلانات مختلفة؛ فهذا يعلن عن حاجته لشقة، وآخر يعلن عن غرفة يعرضها
للإيجار، وثالث يريد تعلم لغة، ورابع، وخامس و ... ولم نجد مبتغانا بين هذه
القصاصات، فاقترح "جوتس" أن نذهب إلى المكتبة، فنبحث في الإنترنت علّنا
نجد من سيسافر إلى برلين بسيارته، ولديه استعداد لاصطحاب غيره معه نظير أجر
رمزي .. و تعجبت كثيرا، وبادرته بسؤالي: " هو فيه كده في النت" وكان
جوابه: وأكتر من كده. وتذكرت أن المكتبة تغلق أبوابها في السادسة مساءاً،
فلما أخبرته بذلك قال: ولكنها تعاود فتح أبوابها في السابعة، وتظل مفتوحة حتى
منتصف الليل!!
فتح جوتس صفحة الإنترنت، ثم كتب عنوانا عرفت بعد ذلك
أنه:- (www.mitfahrgelegenheit.de) ثم بدأ بإدخال ما طلب منه من بيانات من قبيل: من مدينة جوتنجن إلى
مدينة برلين، وأضاف التاريخ والوقت و مدخن أو غير مدخن وبيانات أخرى. بعدها أخرج
جوتس ورقة وقلما، ثم بدأ يدوّن أرقام تليفونات منزلية وهواتف محمولة، ولما انتهى
أعطاني الورقة وقال: عليك أن تتصل بهم واحدا واحدا، فربما تجد من يسمح لك بالسفر
معه!.
عدت إلى غرفتي ولم يكن في الشقة أحد سواي، فأخذت
التليفون وبدأت في الاتصال بكل الأرقام. وكلما اتصلت بواحد منها أبدى لي صاحب
الرقم عذرا مختلفا عن غيره. قال أحدهم: آسف فالمقاعد كلها قد حجزت. وقال
الآخر: عفوا فلن أسافر غدا. ووجدت تليفون الثالث مغلقا. ولم يتبق أمامي سوى رقم
واحد فهل سيصيب؟
اتصلت بالرقم الأخير، وأجابني بالإيجاب، وتواعدنا
أن نلتقي في الغد أمام مطعم ماكدونالدز، الذي يقع على أطراف المدينة ....
الخميس 4 سبتمبر 2003
بدأت يومي بالذهاب إلى مكتبة الجامعة، وقضيت معظم الوقت أمام
الكمبيوتر، أتفحص المواقع الإخبارية العربية والأجنيبة، وكذلك بريدي الإلكتروني،
ثم جائتني فكرة البحث عن مواقع المساجد في برلين، فلربما ترميني الأقدار للمبيت في
إحداها، أو على الأقل لو ضاقت بي الدنيا سألجأ إليها... جمعت عددا لا بأس به من
عناوين المساجد، ثم قمت بجمع معلومات عن الأماكن
السياحية والأثرية التى يمكنني زيارتها في برلين، ونظرت في الساعة فوجدتها اقتربت من
الواحدة ظهرا، عندها قررت الذهاب إلى المسجد لأصلى الظهر؛ فقد تكون هذه هي الصلاة
الأخيرة لي هنا؛ فما سأقوم به اليوم لا يعدو عن كونه مغامرة غير مضمونة النتائج ..
صليت الظهر في المسجد ثم ذهبت إلى ( Lidel) وهو سوبر ماركت كبير ومشهور في ألمانيا، ومنه اشتريت بعض الأشياء
التي سوف أحتاجها في سفري؛ من عصائر، وأكل، وفاكهة وغير ذلك، ثم عدت إلى البيت فعاودت
الاتصال بالرجل الذي سأسافر معه اليوم، زيادة في التأكيد، واطمئنانا بأن الأمور
تسير على ما يرام، وبما أن الاتصالات مجانية (أبو بلاش كتّر منه) فلم أجد أمامي
عائقا من أن أتصل بأستاذي الدكتور " توفيق برج" وأخبره بأنني مسافر
الليلة إلى برلين.
أصر أستاذي على
أن أذهب إليه في هامبورج بعد أن أنتهي من زيارة برلين. والحق يقال أنني لم أرغب في
الذهاب إلى هامبورج مرة ثانية، فقد كنت أفضِّل أن أذهب إلى أي مدينة أخرى "
هانوفر" على سبيل المثال. ولم يكن لي أن أعصي أمرا لأستاذي، فقبلت الدعوة.
الوقت يمر بطيئا.. فما يزال أمامي أكثر من ثلاث ساعات،
لذا قررت أن أعود إلى المكتبة. وهناك تحدثت في الشات مع زميلة الكورس البولندية
"أوولا"، وجدتها قد عادت إلى بلدها، أخبرتها بأنني مسافر إلى برلين، طلبت
مني أن أبعث إليها بهدية برلينية! هكذا من دون خجل!
وجاء وقت صلاة العصر فذهبت إلى المسجد، ولما وصلت إليه
كان المصلّون قد انتهوا من الصلاة، إلا أن شابا يمنيا جاء متأخرا، فانتظرته لنصلى
سويا، ثم جلسنا نتحدث لبعض الوقت. عرفت منه أنه جاء منذ سنتين ليدرس هنا، وسيبقى
لسنة أخرى، بعدها سيعود إلى اليمن. قلت له:
يا بختك، ها تستني هنا كمان سنة!
أخذت حقيبة ظهري ثم استودعت الله في حقيبتي الأخرى، وركبت
دراجتى متجها حيث أطراف المدينة، عند مطعم ماكدونالدز. مررت بمحطة القطار، ألقيت
بنظرات الوداع على مشهد طالما أحببت النظر إليه، نظرت إلى موقف الدراجات؛ "مئات
من الدراجات المركونه أمام المحطة، أشكالها وألوانها تسحرك، يا له من مشهد يأخذ
العقل!. ياليتنا في مصر نستخدم مثل هذه الدراجات. وانتبهت، فاستعذت بالله من
الشيطان الرجيم، فأنى لنا في مصر بشارع من شوارع ألمانيا، ثم استعذت به مرة أخرى
لكوني أفكر في مثل هذه الأمور!
اقتربت من المكان المحدد، وأردت ان أركن دراجتي في مكان
يسهل رجوعى إليه، ويكون آمنا من عبث العابثين ومن سرقة السارقين. وجدت موقفا
للدراجات أمام أحد المولات الكبيرة، ركنت دراجتي فيه، ووقفت أتمتم ببعض من الأدعية:
"اللهم احفظ لي دراجتي وردها إليّ وردني إليها.."
ترجلت حاملا فوق ظهري حقيبتي، وبدأت أبحث عن مكان
ماكدونالدز. سألت أحد المارة عن المكان، فأوصاني أن أستمر في طريقي، ففي نهايته سأجد
المطعم، واصلت السير لمسافة قصيرة، ثم وجدت لافتة كبيرة مكتوب عليها ماكدونالدز،
فاستبشرت خيرا، ولما وصلت إليها ظللت واقفا تحتها، ومرّ والوقت، وجاءت السابعة ولم
يأت أحد، ومرّ بعدها خمس دقائق ولم يأت أحد، فبدأ القلق يدب في قلبي؛ فما تعودت من
الألمان تأخيرا، ولم أعتاد منهم عدم انضباط، ثم ساورتني الشكوك هل سيأتي الرجل أم
لا؟ وماذا لو حدث له مكروه، من الذي سيخبرني؟! ياليت معي تليفونا محمولا.. لا حل
أمامي سوى الانتظار.
التفت حولي فوجدت كابينة تليفون في الشارع، ومن
دون أن أشعر وجدتني بداخلها، أخرجت رقم الهاتف، رميت بقطعة اليورو داخل التليفون
الحديدي، وانتظرت أن يرد، فلم يرد. نزل اليورو من جهاز التليفون، فأعدته إليه
مرة أخرى، ولم يرد الرجل، فازداد شكى وازداد قلقي. أعدت المحاولة للمرة الثالثة، عندها
سمعت صوته، فعادت إلىّ روحي. سألنى: أين أنت ؟ أجبته: بجوار ماكدونالدز،
وسألته: وأنت؟ قال: وأنا أيضا بجوار ماكدونالدز. وضعت السماعة وبدأت أبحث عنه يمنا
وشمالا فلم أجده. سألت أحد المارة ألا يوجد ماكدونالدز آخر هنا؟ فأجاب:
لايوجد هنا ماكدونالدز، هذا مجرد إعلان عن ماكدونالدز. ماكدونالدز الحقيقي يبعد حوالي 500 متر عن هنا ياعزيزي !!
لم أدرِ ساعتها ماذا قلت، وبقيت ألعن غبائى، ثم أخذت
ألهث بحقيبتي الثقيلة، وأخذ العرق يتصبب منى، وارتفعت ضربات قلبي حتى كاد أن
يسمعها الآخرون.. وبعد مسافة ليست بالقصيرة بدأت أنوار ماكدونالدز تظهر لي بوضوح،
وأدركت أني قد وصلت إلى الهدف، فتوقفت عن الجري، وبدأت أسمع ضربات قلبي ترتفع
أكثر فأكثر، وأخذت أجفف من عرقي ..
رأيت من بعيد رجلا يقف بجوار سيارة فخمة من نوع مرسيديس
الشهيرة، وقد راح يلوح نحوي بيديه، قلت لنفسي " أكيد مش بيشاورلي " التفت
حولى فلم أرَ غيري، فعلمت أنى انا المقصود، فرفعت يدي إليه ملوحا، وأسرعت الخطى..
اعتذرت للرجل عن التأخير، وأخبرته بأنني كنت أقف في
المكان الخطأ. وتفهم الرجل الموقف، فتبسم ضاحكا، ثم سألني إذا ما كنت أود أن
أشتري شيئا قبل أن ننطلق، أجبته بالنفي، ثم قلت له: لقد جهزت كل شئ.
جلست بجوار فتاة في العشرينات، وجلس بجوار السائق "عفوا
صاحب السيارة المرسيدس" رجلٌ في الخمسينيات، وبدأ الإثنان يتبادلان
أطراف الحديث، وتحدثت مع الفتاة. وعندما علمت الفتاة أنني مصري، أخرجت من حقيبتها
رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا
" مترجمة للألمانية، قلت لها: هذه الرواية ممنوعة في مصر!!!
ساد الصمت بعد فترة، فأخذت أقول لنفسي لماذا تٌمنع رواية
حصل صاحبها على جائزة نوبل وتُرجمت إلى عدة لغات عالمية؟ لماذا يحرمونا من مطالعة
أفكار أبناء بلدنا؟ ماذا لو سمعوا قول الشاعر:-
عرفت
الشر لا للشر لكن لتوقيه ومن لم يعرف الشر من الناس يقع فيه
******
المسافة من جوتنجن إلى برلين حوالي 450 كيلو متر.
قطعناها في حوالى أربع ساعات ونصف. تخللتها استراحة واحدة، دخلت فيها الحمام، ولفت
نظري شيئ عجيب ومثير، ولا يمكنني أن أتركه دون أن أعرِّج عليه: فأمام الحمام جلس
رجل أمام منضدة صغيرة ليطلب مني خمسين سنتا ثمن دخولي الحمام، فدفعتها إليه مضطرا،
ولما دخلت الحمام رأيت غطاء القاعدة ينزل رويدا رويدا، وقد غطاه منديل ورقي أبيض
اللون، فجلست وقضيت حاجتي وأنا مزوهل، وحاولت إيجاد تفسير لذلك، ولكن دون جدوى.
ولما انتهيت من أمري، وهممت بالخروج ارتفع غطاء القاعدة بهدوء، ونزل الماء دون أن
أضغط على شئ، ووجدتني أصيح: "ولا سحر ولا شعوذه دي ألمانيا يا هندسة".
عندها تذكرت ما حدث لى ذات مرة عندما كنت أشترى دواءً من صيدلية في جوتنجن،
فبعد أن أعطيت الروشتة للطبيبة، قامت بوضعها على اسكانر، فوجدت علبة الدواء تنزل
وحدها من اسطوانه معلقة في السقف! ساعتها وقفت مذهولا مدهوشا. وسألت عن السبب، فعرفت
أن الأمر بسيط، فقد قامت الطبيبة بتصوير الروشتة من خلال الاسكانر، لتظهر على
الشاشة أمام الموظف في الطابق الثاني، فيحضر هو ما كتب فيها، ثم يلقيه داخل الاسطوانه
لتستقر أمام الطبيبة!
انتبهت من نومى على صوت السائق "صاحب السيارة"
يخبرنى بوصولنا برلين، سألنى: "في أي الأماكن تريد أن أتوقف لك؟" قلت له
بجوار أي مسجد. نظر الرجل إلىّ باستغراب، مسجد؟! ثم سكت برهة، بعدها قال: ولكني لا
أعرف مسجدا هنا، أليس معك عنوان محدد؟ أخرجت الورقة التى دونت عليها أسماء المساجد
وعناوينها، فاعتذر معللا: كلهم بعيدون عن طريقي، وأضاف: والشئ الوحيد الذي يمكنني أن
أفعله لك هو أن أوصلك إلى أقرب محطة مترو. وافقت مضطرا، وناولته خمسة عشرة يورو
ثمنا لهذه التوصيلة، وهو ثمن أقل ما يوصف بأنه ثمن زهيد، مقارنة بثمن تذكرة القطار،
أو تذكرة الأتوبيس، وأما من حيث السرعة والراحة فلا توجد مقارنة.
نزل جميعنا أمام محطة المترو، ودّعنا الرجل، ثم وقفت
أفكر ماذا أصنع؟! استمهلتنى الفتاة بقولها: انتظر؛ فمعي خريطة لمدينة برلين
وسأحاول التعرف على أماكن المساجد القريبة من هنا، وبدأت تخط بقلمها دوائر صغيرة
وعلامات لم أفهمها، ثم أعطتنى الخريطة هدية وانصرفت. نزلت سلالم المترو مع
الرجل الذي كان يجلس بجوار صاحب السيارة، ورأيته يحدق النظر في وجهي ثم اقترب مني يسألنى:
هل حقا ليس لديك سكن في برلين؟ قلت له: نعم ليس لدي سكن، وأضفت: وهذه هي المرة
الأولى التى أزور فيها برلين. سكت الرجل قليلا ثم قال: ما رأيك لو أتيت لتبيت عندي
هذه الليلة؟ وافقته على الفور دون أن أسأله أية أسئلة من قبيل"ما، وماذا،
ولماذا، وكيف، ولعل، ولربما، ولظن؟ كان همي الأوحد هو أن أبيت في أي مكان،
والسلام.
ركبنا مترو الأنفاق متجهين للحي الذي يسكن فيه الرجل،
والذي يسمي "جروناو" Gruenau وظللت
أشكره حتى مرت ثلاثة محطات، ثم خرجنا من المترو، فركبنا ترام يسير فوق الأرض، ولأن
الوقت كان متأخرا فلم يكن من أحد سوانا في العربة، التي هي واحدة من ثلاث عربات هي
كل القطار. ولفت انتباهي أن السائق يعرف إذا ما كان هناك أحد يريد أن يغادر القطار
أم لا، يحدث هذا دون أن ينادى عليه أحد، ودون أن يسأل هو أحدا، على عكس ما نفعل
هنا في مصر في الميكروباصات والأتوبيسات وقريبا القطارات والمترو "على جنب يا
اسطي، أو فيه حد نازل؟ الأمر يسير هنا بهدوء تام..
وتبين لي فيما بعد أن من يريد النزول في محطة معينة
عليه أن يضغط على زر بجوار الباب، عندها يعلم السائق فيتوقف له.
وجاءت محطة نزولنا، أخبرني الرجل واسمه "فريدريش" أننا لن
نذهب مباشرة إلى شقته، والتى لا تبتعد سوى محطتين، فقد ترك مفتاح شقته عند صديق له،
وعلينا أن نذهب لإحضاره.
كانت إضاءة الشوارع خافتة إلى حد كبير، ولهذا لم أستطع
التمييز في أي الأماكن كنا نسير. لا أحد يسير معنا، ولم نقابل أحدا. المنطقة أشبه ما تكون
بمنطقة فيلات أو مساكن لكبار السن. دخلنا البيت، فانحرف بنا المدخل يمنا في ممر
طويل، ثم صعدنا عدة درجات لنصل إلى الطابق الثالث. كان الرجل في انتظارنا، كان رجلا
طويلا وسيما، كان قريب الشبه من عمر الشريف. رحب بنا بكلمات مقتضبة، ثم استقبلنا
في غرفة بها ثلاثة مقاعد رست حول منضدة صغيرة، وضع فوقها شمعة وحيدة، كانت مهمتها
إضاءة الغرفة بأكملها. بالكاد كنا نرى بعضنا. أحضر الرجل زجاجة من البيرة أو الخمرة
لم أتبين ذلك، ثم عرض عليّ فرفضت وشكرته، وعرض على فريدريش كأسا فقبله. لم يمض
وقت يذكر حتى هممنا بالإنصراف متعللين بتعب السفر، وخوفا من أن يفوتنا آخر ترام!
عدنا حيث
أتينا، وانتظرنا حتى وصل الترام فركبناه، وما هي إلا محطتين حتى نزلنا. ترجلنا
بعدها حوالي عشرة دقائق في منطقة كلها فيلات، وأمام كل فيلا حديقة صغيرة بإضاءة
خافته. وصلنا إلى منزله فكان عبارة عن دور أرضي في بيت من طابقين. أثاث الشقة كان بسيطا
للغاية، في الصالة رأيت منضدة حولها مجموعة من الكراسي، وبجوارها كنبة صغيرة. وفي
زاوية الشقة رأيت الحمام، وعن يمينه رأيت غرفة أظنها غرفة نوم، وبجوارها غرفة أخرى بابها
زجاجي عريض، مكون من أربعة ضلف، ويسهل على من
بالخارج أن يرى من بالداخل.
وما أن
وضعت حقيبتي حتى استأذن فريدريش أن يذهب إلى الحديقة ليحضر منها شيئا على وجه
السرعة. ولم يمض سوى دقيقتين حتى عاد حاملا في يديه نباتا أخضر، لاحظت على وجهه ابتسامة
عريضة. سألني: هل تعرف هذا النبات؟ التقطته من بين يديه، ثم قربته من أنفى، قلت:
لا أعرفه. فقال مبتسما: هذا نبات الحشيش.
حشيش؟!!
لا أدري بأي صيغة أو نبرة خرجت مني تلك الكلمة، ولكن بلا أدنى شك لم تخل من كونها
استفهامية، أو استنكارية، أو استخبارية ، أو ربما كانت بهم مجتمعين. أجابني: نعم، هو
حشيش! قلت له أعلم أنه ممنوع هنا في ألمانيا ومن يدخنه يعاقب أليس كذلك؟ قال نعم،
ولكنه القانون الغبي! قلت غبي؟! فأجاب: نعم، ثم أراد أن يكمل حديثه فقاطعته بسؤالي:
ولكن كيف لك أن تدخن هذا الحشيش وهو أخضر؟ فابتسم الرجل ابتسامة جاءت أعرض من تلك
التي جائني بها وهو يحمل الحشيش ثم قال: إن خمس دقائق في البوتاجاز كفيلة أن تجعله
هشيما يا صديقي! نظرت إليه مندهشا ثم قلت: على بركة الله!
انتابني
شعور بالقلق ممزوج بتعب سفر يوم كامل، وحيرة في اتخاذ أي قرار قد يؤدي إلى عودتي
للشارع.. مضطر أنا، أو مجبر، لا بديل، لا حل، أمري إلى الله، كلمات قلتها في نفسي،
ثم استأذنته لأدخل الحمام... أتوضأ وأصلي.
في
الحمام وقفت أمام المرآة الصغيرة أنظر لنفسي معاتبا: "إيه اللي أنا
عملته في نفسي ده؟ إفرض الراجل دا يعني !! ولا يعني !!! ولا يعني!! استرها يارب.
توضأت ثم خرجت فسألته عن جهة القبلة، فقال: أي قبلة؟ وانتبهت: " إيه
السؤال الغبي دا؟ يعني الرجل بيحشش، ومش مسلم، وعايش في ألمانيا، وأسأله عن
القبلة؟؟!"
قلت له عفوا فأين
يقع الشمال وأين يكون الجنوب؟ نهض الرجل من جلسته، ثم بدأ يفكر بصوت مرتفع .. من
هنا تخرج الشمس ومن هنا تغرب، إذا من هنا الشروق، ومن هنا الغروب، وهذا هو الشمال،
وهذا هو الجنوب. قلت له: تمام، كدا زي الفل، ثم وجهت وجهي شطر الجنوب
الشرقي، وصليت.
انتهيت من صلاتي
فوجدته انتهى من لف سجائر الحشيش، ثم بدأ يستعد لتدخينها. سألته أين سأنام؟ أشار إلى
الكنبة الموجودة بجوار المنضد بقوله: هنا يمكنك أن تنام! تقدمت نحو الكنبة فطلب
منى أن أنتطر ليحضر لي غطاءا ألتحف به. ذهب إلى غرفته وأحضر غطائين ثم قال: يبدو
أنك قلق مني! قلت له: لا أبدا ، فأنا لست قلقا، أنا مرعوووووووووووووووووووووووب!
حاول الرجل تهدئتني
بقوله: لا تقلق، سأترك لك الصالة، وسأدخل غرفتي وأغلق علىّ بابها، ولن تشم أية
رائحة حشيشية. شكرته على كرمه وعلى استضافته، واستأذنته في منبة يوقظني "دا
لو أنا نمت أساسا"! أحضر الرجل
منبها صغيرا فضبطته على السابعة صباحا، ثم اندفست تحت الغطاء، وتذكرت محفظتي وجواز
سفري، فقمت من فوري وأحضرتهما من الحقيبة، ثم وضعتهما تحت وسادتى. وهل يمنع حذر من
قدر؟!
الجمعة 5 سبتمبر
2003
أفزغني صوت المنبه،
فقمت من فوري وأدرت بصري في المكان، فلم أجد شيئا غريبا، ووقع نظرى على الرجل فوجدته
نائما في غرفته ذات الباب الزجاجي العريض، ورأيته عاريا من دون غطاء. حمدت الله
على سلامتي، ثم أسرعت إلى الحمام، فتوضأت وصليت الصبح، ثم غيرت ملابسي وحملت
حقيبتي، وقبل أن أغادر البيت قرعت الباب عليه كي أستأذنه في الرحيل. نهض الرجل
مسرعا فلبس ملابسه الداخلية، ثم فتح الباب متسائلا: كم الساعة؟ قلت له: إنها
السابعة والنصف، ولتأذن لي بالانصراف؛ فأمامي يوما شاقا في برلين. صمت الرجل قليلا
ثم قال: لا، لن أتركك تذهب وحدك. انتظر وسآتي معك!
انتظرته حتى فرغ من
حمامه، ومن ملابسه. وبدى لي أنه رجل في الأربعينات أو الخمسينات، لم أسأله عن
عمره، كل ما عرفته عنه هو أن لديه ولد وبنت، وأنه مطلق، ويعيش بمفرده في هذه الشقة
بالإيجار، وعلمت أنه يعمل مهندس معماري بالقطعة . " يعني على باب الله"
خرجنا من الشقة
وأصر أن يأخذني إلى الحديقة الخلفية؛ كي يريني شجرة الحشيش. ذهبت معه، ولما رأيتها
ابتسمت وتذكرت ما حدث بالأمس، ثم طلبت منه أن يقف بجوارها، فالتقطت لهما صورة.
خرجنا للشارع
الرئيسي باتجاه محطة القطار، وبدأت أتأمل المكان مرددا سبحان الله، وتذكرت قوله
تعالى: "وجعلنا الليل لباسا، وجعلنا النهار معاشا" سبحانك ربي! بالأمس
مررت من هنا ولم أرَ إلا بصيص من جمال خلقك، واليوم يبدو لي الجمال الحقيقي، فسبحانك
ربي!
إنها مجموعة من
الفيلات، ملفوفه بحدائق تكسوها خضرة، يتقطر من أشجارها ندى الصبح، وتسمع زقزقة
العصافير، وتغريد الطيور، وتشم رائحة الوردود، ثم تستمتع بهواء منعش لا مثيل له،
وعندئذ لا تجد ما تقوله بعد سبحان الله سوى بيت شعر مات قائله من مئات السنين:-
إلهي شاقني هذا الوجود*** فذي الدنيا فما
بال الخلود
انتبهت من تاملاتي وهيامي
بهذه الطبيعة، والجمال، والتنظيم، والنظافة، والتنسيق، على يدي صاحبي وهي تجذبني
بشدة، بعد أن كنت سأعبر الطريق وإشارة المرور لا تزال حمراء. وقفنا سويا حتى اخضرت
الإشارة ثم قال:- تعالى سأريك شيئا أجمل وأروع ! قلت له أكثر من هذا؟ أخذني إلى شاطئ بحيرة صغيرة تسبح فيها عشرات من
البجع الأبيض، وعشرات من البط الأسود، وتطير فوقها مئات من العصافير والطيور
مختلفة الألوان والأشكال والأحجام..... يا له من منظر رائع.
مشينا قليلا على
الرمال الصفراء، وأمواج البحيرة بين مد وجزر، وجاذبية مياهها تداعبنا وتغرينا
بالبقاء، ياليتنى بقيت!
*******
محطة الترام،
والساعة الثامنة، وانتظار الناس قدوم القطار، والنوم قد ملئ جفونهم وكأنهم
استيقظوا رغما عنهم، وأنى لهم أن يستقظوا من هذا الجمال! كل هذا وغيره كان مشهدا
يحتاج إلى كثير من تأمل.
اشترينا تذكرتين من ماكينة لبيع التذاكر، فقط
رمى صاحبي فيها بخمسة يوروهات فخرجت لنا التذكرتين مكتوب على كل واحدة منها"
التذكرة صالحة لمدة ساعتين ونصف من الآن، ولجميع القطارات ما عدا السريعة
منها". معنى هذا أنه يمكننا أن نذهب بهذه التذكرة إلى أي مكان في برلين بأي
وسيلة نقل عامة مثل: الترام والمترو والأتوبيس " فقط لمدة ساعتين من
الآن".
ركبنا الترام صوب المدينة، فمررنا بخمس محطات حتى وصلنا إلى
المحطة الرئيسية، ثم ركبنا المترو بنفس التذكرة. وفي المترو سألني فريدريش:
أي الأماكن تود أن نزور؟ قلت له: بالطبع أود زيارة بوابة برلين
"براندنبورج"، وجزيرة المتاحف، والبوندستاج وإن كان هناك شيئا آخر فلا أمانع. قال: ألا
تريد أن تزور شارعي؟ قلت له شارعك! قال أجل إنه أشهر شوارع برلين إنه " شارع
فريدريش" قلت له: أوووه، هل أنت من قمت بتصميمه بصفتك مهندس معماري؟! ضحك
بصوت مرتفع، ثم أجاب: لا لا، أنا أمزح، إنه مجرد تشابه أسماء.
نزلنا في محطة
فريدريش، وتجولنا قليلا في شارعها، حيث البنايات العالية ذوات الأوجه الزجاجية،
والتصميمات الحديثة. ولأن الساعة لم تتجاوز التاسعة بعد، فما زالت المحلات مغلقة،
اللهم إلا قليلا منها قد بدأ يفتح أبوابه تباعا. جلسنا على أحد المقاهي وطلبنا
قهوة، وبدأ فريدريش يحكي لي عن
شارعه:
" إنه أحد أشهر وأهم الشوارع في مدينة برلين،
هندسته المعمارية مميزة، به أرقى
الماركات العالمية في عالم الأزياء والموضة، مثل لويس فويتون وجوتشي
وغيرها. يبدأ الشارع من الجهة
الشماليةً من منطقة مييته بالألمانية Mitte وينتهي
جنوباً في منطقة كروزبيرج، ونظراً لاتجاهه هذا، يشكل شارع فردريش رابطاً مهماً جداً بين
المناطق الغربية والشرقية، وقد شهد الشارع أحداثا تاريخية عدة؛ حيث
قسم إلى جزءين بعد إقامة جدار
برلين الفاصل عليه، كما أن نقطة التفتيش "شارلي" الشهيرة تقع فيه.
قلت له: هذه البنايات
الحديثه دليل على أن هذا الشارع قد تم تدميره فى الحرب العالمية الثانية أليس
كذلك؟ صمت فريدريش قليلا ثم نظر إليّ وهو يقول: نعم، فقد تأثر شارع فردريش تأثراً بالغا بالحرب
العالمية الثانية، وتم إعادة بناءه جزئياً فقط خلال فترة انقسام برلين، حيث تم
إعادة بناء
الجزء التابع لبرلين الغربية
ليصبح منطقة سكنية هادئة، أما الجزء التابع لبرلين الشرقية فقد شهد عمليات توسعة للشارع
ليصبح عدد حاراته أربعا، بالاضافة إلى بناء عدد من الفنادق فيه. إلا أن التطور
الحقيقي في الشارع لم يحدث فعلياً إلا بعد اتحاد شطري ألمانيا في عام 1990.
انتهينا من شرب
القهوة وانتهى فريدرش "مرشدي السياحي" من شرحه
لشارع فريدريش، فقمنا بعد أن دفعت الحساب إكراما لصديقي الجديد، وشكرا بسيطا له
على ما قدمه لي بالأمس واليوم.
بدأنا نتجول في الشارع، فاستطرد الرجل في الحديث
ظنا منه أن قد أصبح بالفعل مرشدا سياحيا، قال: تعرف يا محمد لو معاك
مليون جنية ممكن تخلصه في نصف
ساعة في شارع فريدريش؟ نظرت إليه مندهشا فواصل: لأن منطقة التسوق هنا تعتبر من أغنى وأغلى
المناطق المليئة بالمحلات ودور الأزياء الشهيرة في العالم!
قلت لصديقي يبدو أنك
مرشد سياحي رائع فلماذا لا تمتهن أنت هذه المهنة؟ أجاب وهو يضحك: أنا لا
أعرف من اللغات سوى الألمانية، فكيف لي أن أشرح للأجانب؟ قلت له: عندك حق لقد أفحمتني،
ثم واصلنا السير باتجاة أشهر بوابة في ألمانيا والعالم، إنها بوابة
برلين أو بوابة " براندنبرج"
بالألمانية
:(Brandenburger Tor)
بدأ بنائها عام 1788 وظل حتى عام 1791 ، ثم تحطم جزء منها في
الحرب العالمية الثانية، ثم أعيد بناءه مرة أخرى، وعلى الرغم من أنها
البوابة الوحيدة المتبقية من
مدينة برلين فقد كانت تمثل فيما سبق الانقسام في المدينة إلى شرق وغرب برلين، ومنذ سقوط
جدار برلين في عام 1989 أصبحت بوابة براندنبورج رمزا من رموز الوحدة
الألمانية.
التقط لي فريدرش صورا عديدة حرصت على أن تكون خلفيتها هي بوابة براندنبورج، ولم أكن وحدي الذي آثر أن تلتقط له الصور بجوار هذه البوابة؛ فقد كانت هناك مجموعات يابانية وأخرى كورية، قد أداروا ظهورهم للبوابة كي تلتقط لهم الصور ملوحين بأصابعهم السبابة والوسطي.
واصلنا السير حتى
وجدنا أنفسنا في ميدان كبير، سألت فريديريش ما هذا؟ فأجاب: إنه ميدان ألكسندر. قلت:
وهل جاء الإسكندر المقدوني إلى ألمانيا؟ قال: لا لا، ليس نسبة إلى الإسكندر الأكبر،
ولكنه نسبة إلى القيصر الروسي ألكسندر الأول الذي زار برلين سنه 1805 فأطلق ملك
برلين اسمه على هذا الميدان تكريما لزيارته.
وميدان ألكسندر (بالألمانية:Alexanderplatz) هو ميدان كبير في وسط العاصمة الألمانية، وهو واحد من أهم
المناطق التجارية، به عدد من المطاعم والمباني الحديثة التى تعكس التطور الكبير
لألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية.
من هذا الميدان يمكنك رؤية كاتدرائية كبيرة وضخمة، تهدّم
جزء كبير من برجها، وقد بني بجوارها مبنى ضخم من التراز الحديث، ولما سألت فريدرش
عنها أجاب: إنها كنيسة القيصر فويلهلم البروتستانتية والتذكارية والتي هي بمثابة
رمزا للسلام والتصالح.
جلسنا على شاطئ نهر شبريه نستريح
قليلا، ونظرت تحت قدمى فوجدت ورقة صغيرة بها معلومات عن أهم ما يميز مدينة برلين
قرأت فيها:
•تبلغ مساحة برلين 892 كيلومتر مربع، وهي تعادل مساحة
العاصمة الفرنسية تسع مرات.
•تغلبت برلين على مدينة فينس بجسورها
التي يبلغ عددها حوالي 1,700 جسرا.
•برج التلفزيون في برلين هو أطول مبنى
في ألمانيا وفي أوروبا ويصل إلى 368 متر.
•ستة من أبرز رؤساء الولايات المتحدة
قد ألقوا خطابات تاريخية في برلين منذ الحرب، ومن أبرز الخطابات: "أنا
برليني" لجون كينيدي عام 1963 ورونالد ريغان.
•أول مجموعة اشارات للمرور أنشأت في
شارع بوتسدام بلاتس في عام 1924 ولا تزال تثير الإعجاب حتى الآن.
•أصبحت برلين أول وأكبر مركز للسكك
الحديدية في التاريخ بعد إنشاء المحطة المركزية الجديدة. "
•برلين
هي من أكثر المدن المتعددة الثقافات حيث أن حاملين الجوازات الأجنبية هم أكثر
من470,000 نسمة من 3.4 مليون نسمة مواطنة. ويوجد مقيمين منذ فترات طويلة من أكثر
من184 دولة.
والحق يقال أنني لم أكن
أعرف عن برلين سوى أنها عاصمة لدولة ألمانيا، ولما قررت السفر إليها بدأت المدينة
تتكشف لي رويدا رويدا، وبعد قراءة هذه الورقة وما بها من معلومات مثيرة، أخذت تدب
في جسدي قشعريرة، ثم أحسست بنشاط كبير على الرغم من أني لم أتناول أي فطور حتى هذ
اللحظة، اللهم إلا قدحا من القهوة، وأحسست أنني أود أن أرى برلين بأكملها قبل أن
يحل المساء.
قلت
لصاحبي: هيا بنا، فلا وقت أمامنا لنجلس، قال: مهلا مهلا، فلن تستطيع أن ترى كل شئ
في يوم واحد. قلت: "ما لا يدرك كله لا يترك كله"، وانطلقنا.
أخرجت من حقيبتي
تفاحتين، أعطيت فريدريش واحدة وأخذت الأخرى، ولما هممت بقضم تفاحتي رأيت شيئا
غريبا جعلني أتوقف فجأة. ما هذا؟؟ إنها دراجة هوائية، ولكنها ليست
كدراجاتنا الهوائية، إنها دراجة عائلية، لها سبعة مقاعد ولكل مقعد منها جزء
مقسوم. نعم دراجة لها سبعة مقاعد وبها سبعة بدالات، ومن الممكن أن يركبها
سبعة أفراد في وقت واحد ويبدلون جميعا. قلت لصاحبي متعجبا: هل ترى ما أراه
يا فريدريش؟ فأجابني ببرود: عادي دي دراجة "كونفرينس بايك"
فقلت له في سري" نورت المحكمة"!
عرفت بعد ذلك أن هذه
الدراجة هي واحدة من ستة دراجات مماثلة في المدينة، ومن الممكن أن تقوم أي مجموعة
بتأجيرها مع مرشد سياحي، ويتجولون في الأماكن التي يحددونها سلفا، وفي الأوقات التي
يريدونها. فقط بـ 24 يورو، ولم أتأكد هل هذا المبلغ للفرد، أم للمجموع!
راودتني فكرة أن نذهب
ونؤجر هذه الدراجة، إلا أن النشاط الذي ما يزال يدب في جسدي والقشعريرة التى
تأكل جلدي حالا بيني وبين هذه الفكرة، لذا واصلت السير مع فريدريش حتى
وجدنا أنفسنا على مشارف مبنى ضخم تعلوه قبة زجاجية ضخمة، وكلما
اقتربنا منه ازدادت ضخامته واختفت قبته. ولما اقتربنا من بوابته الرئيسية
ذات الدرج العريض العالي رأينا طابورا طويلا يمتد لعشرات الأمتار، يقف فيه
الناس ثلاثا أو رباعا خلف بعضهم البعض. سألت صاحبي: لماذا هم هنا
واقفون؟ فأجاب بأنهم يريدون أن يصعدوا أعلى البوندستاج ليشاهدوا قبته الزجاجية.
فقلت له متعجبا كل هؤلاء البشر؟!!
انتابني شعور بالحيرة،
فهل أنتظر فأقف في هذا الطابور الطويل ثم أصعد لرؤية القبة الزجاجية
أم أكتفي برؤيتها من بعيد؟ قلت لصاحبي إنني أود الصعود فقال: إن هذا الأمر
يحتاج منك ليوم كامل، وأنت تريد أن ترى معالما أخرى. قلت له: ألا تود
رؤيتها كذلك ؟ فأجاب بالنفي ثم علل ذلك بأنه قد رآها أكثر من مرة وليس لديه رغبة
في رؤيتها من جديد. وجائتني فكرة جهنمية. قلت له سأحاول أن أجري التجربة المصرية
على هذا الطابور.
فقال: وما هي التجربة المصرية في الطابور؟ أجبته بأنني سوف أذهب إلي مقدمة الطابور وأستأذن الناس هناك، شارحا
لهم وضعي، ومعللا بأنني غريب وليس لدي وقت. فنظر إلي فريدريش نظرة لا تخلو من كونها
نظرة استغرابية ثم قال: وهل تظن أنهم سيصدقونك؟ قلت: سأجرب، انتظرني وأعدك أنني لن
أتأخر.
******
بخطىً بطيئة ومترددة
واصلت السير إلى مقدمة الطابور، وقفت بجوار شاب وافتعلت أنني أسأله عن ثمن
التذكرة "على الرغم من معرفتي المسبقة بأن الدخول مجاني" وما هي إلا
لحظات حتى وجدت الباب يفتح والحراس ينادون " خمسة عشر واحدا فقط" ثم
وجدتني أدخل من بوابة التفتيش، ورأيت الحارس يطلب حقيبتي ليفتشها، ثم وجدتني بداخل مبني
البوندستاج (البرلمان الألماني).
ياالله لقد نجحت التجربة المصرية، وها أنا ذا أمام المصعد الكهربائي الضخم الذي سيصعد بنا إلى
القبة الزجاجية. لم أصدق نفسي ولم أكن راضيا كذلك عما فعلت!!
وقفت أمام القبة
مذهولا، مدهوشا، متعجبا، ومستغربا ولسان حالي يقول "اللهم صلي ع النبي إيه
العظمة دي يا برلين" ثم ذهلت ودهشت وتعجبت واستغربت أكثر عندما علمت أنني يمكنني
أن أصعد داخل القبة الزجاجية، وأصل إلى ما يقرب من نهايتها؛ ففيها
ممران مرتفعان أحدهما للصعود والآخر للنزول ويبلغ طول كل منهما 230 مترا،
ويؤديان إلى ساحة المشاهدة الموجودة أسفل نهاية القبة بسبعة أمتار. والآن
وجب على الاعتذار؛ فليست لدي القدرة
البلاغية على وصف ما رأيته
من منظر رائع للعاصمة !
بدت لي القبة للوهلة
الأولى وكأن ليس لها علاقة بمبني البرلمان القديم، الذي يرجع تاريخ بناؤه
إلى أكثر من مائة عام، ولكن عندما تكون بداخلها تلاحظ أن عملية الربط بين
القبة والمبني القديم قد تمت بحرفية عالية وهذا ما نجح فيه المهندس
العبقري " نورمان فوستر" فقد حاول من خلال هذه القبة أن يربط بين
فنون المعمار في نهاية القرن التاسع عشر وفنون المعمار في القرن العشرين.
ولا تتعجب ولا تندهش ولا تستغرب إذا ما علمت
أن مساحة الألواح الزجاجية المستخدمة في هذه القبة قد بلغت حوالي 3000
متر مربع، وهو ما يعادل نصف مساحة
ملعب كرة قدم، وأنك بإمكانك رؤية صورتك بطريقة كاريكاتورية لأكثر من 360 مرة من خلال
المرايا الزجاجية التي تتخطي هذا العدد.
علمت بعد ذلك أن قبة
مبني البرلمان الألماني تعتبر واحدة من أكبر أماكن الجذبب السياحي في
برلين، فأكثر من ثلاثة ملايين زائر يقومون بزيارتها سنويا، وطبعا كلهم
يحترمون أنفسهم ويقفون في الطابور!!
أردت البقاء
لأطول فترة ممكنة، فتذكرت
فريدريش، إنه ينتظرني عند مدخل البوندستاج !
خرجت من باب
الخروج الرئيسي، وذهبت حيث
النقطة التي تواعدنا أن نلتقي عندها، ولم أجده، انتظرته بعض الوقت
فلم يأتِ، بحثت عنه فلم أجده، أين
ذهبت يا فريدريش؟!
مضى حوالي ساعة، وأنا
منتظرك يا فريدريش،
أرجوك لا تتركنى وحدي! ترى أين ذهبت يا فريدريش؟ هل تأخرت عليك أم
أنك ظننتني لن أنجح في الصعود؟
أين أنت الآن يا فريدريش؟!
الوقت يمر سريعا وليس
أمامي سوى هذا النهار كي أرى فيه معالم برلين. ترى هل هذه عقوبة عدم
وقوفي في الطابور؟ ومن الذي يعاقبني، هل هو فريدريش أم الله؟؟ استغفرت الله
لذنبي ثم تركت لساقي العنان كي تختار في أي الطرقات تسير.
وجدتني
أقف على رأس شارع طويل، على جانبيه وقفت أشجار كثيفة، وفي نهايته ظهر عمود مرتفع،
قمته برونزية أو نحاسية، تلاعبها أشعة الشمس فتعكس شعاعا لا تستطيع عينيك مقاومته.
عرفت بعد ذلك أنه شارع 17 يونيو الذي يتجمع فيه آلاف من البشر في كل عام يتحفلون فيه
بالمناسبات المختلفة مثل الاحتفال بوحدة ألمانيا، أو بالاحتفال
بأعياد رأس السنة. ومن دون أن أجهد نفسي في التفكير تركت قدمى تقودنى، فسرت في الشارع
لنهايته حيث العمود. افتقدتك يا فريدريش، افتقدتك يا عزيزي وافتقدت شرحك السهل البسيط ، آسف لأني تركتك،
سامحني.
ألقيت حقيبتي على
الأرض، ورميت بجسدي فوق الحشائش الخضراء، وسط الأشجار ذات الأوراق العريضة التى
لا أعرف لها نوعا ولا اسما، ثم أغمضت عيني ولا أدري كم مر من
الوقت، كل ما أذكره هو أنني وبعد
أن فتحت عيني وجدت منطادا كبيرا يرتفع فوقي في السماء الصافية، فاعتدلت من نومتي
ثم عاودت النظر إلى السماء فوجدت أكثر من منطاد يسبحون فيها. تمنيت لو كنت في واحد
منها كي أتمكن من رؤية برلين مرة واحدة من دون مرشد ومن دون إجهاد. قلت لنفسي: كيف
لي أن أرى ما بداخل المتاحف التي أود زيارتها. انتبهت متاحف؟! قمت من فوري مسرعا
وحملت حقيبتي ثم انطلقت.
كنت قد علمت وأنا في
جامعة جوتنجن أن بإمكان المرء في برلين أن يدخل ستة متاحف في يوم واحد
بتذكرة واحدة، ثمنها ستة يوروهات. قلت لنفسي سأعرف اليوم إذا ما كانت هذه المعلومة
صحيحة أم لا.
سألت أحد المارة كيف يمكنني الذهاب إلى المكان الذي توجد في المتاحف؟ أخبرني بأنها توجد في مكان
يسمي بجزيرة المتاحف وهو لا يبعد كثيرا عن هنا، ويمكنني أن أذهب إليه بالمترو
أو بالترام.
عاودنى النشاط وعاودتنى
القشعريرة وتذكرت أن معي تذكرة للمترو، تصلح أيضا للترام ولكن هناك مشكلة؛
فصلاحيتها قد انتهت منذ نصف ساعة. ياللحظ!! إذا علىّ أن أشتري تذكرة جديدة. وقفت عند محطة المترو
وأردت أن أشتري تذكرة أخرى فجائني الشيطان وبدأ يوسوس لي.
إبليس:- أنت معك
تذكرة بالفعل، ولو سألك أحد ( دا لو حصل يعني) فقل له إنك لم تلاحظ ذلك، وأنك غريب.
نفسي:- لا لا
حرررررام
إبليس: إيه اللي حرمة
بس يعني هي جت عليك؟
نفسي:- الألمان ما
بيهزروش ولو اتمسكت ها اضطر إني أدفع أربعين يورو. لا ياعم أنا ها اشتري
تذكرة أحسن.
وتوقف المترو أمامي، وفتح أبوابه، ولم أكن قد أشتريت
التذكرة بعد، فقد شغلني عنها جدالي مع الشيطان. ولما سمعت صافرة الأبواب تنذر
بالإغلاق، وجدتني أرمي بنفسي داخل المترو، وما هي إلا ثوان حتى وجدت رجلا يرتدي
بدلة سوداء من دون كرفتة يقترب مني ويسألني: هل يمكنني أن أرى تذكرتك؟!
تذكرتي؟!كدت أن أقول له يبدو أنك قد سمعت الحوار الذي
دار بيني وبين إبليس!! وحاولت أن أتظاهر بالهدوء والثبات، وأن أبتعد عن أي توتر
أوعن أي شئ قد يثير الشك والريبة، ومن ثم فقد أخرجت التذكرة وأعطيتها إياه. أخذها
مني وألقى فيها بنظرة متفحصة ثم قال:- أنت قد تخطيت المدة المسموح لك بها في هذه
التذكرة. قلت له مستفهما:- حقيقي؟ ثم استدركت بقولي: عفوا فأنا غريب، واليوم هو
الأول لي هنا في برلين، ولم أكن أعلم بهذا الأمر.
نظر الرجل إلي نظرة بها كثير من الشفقة، أو ربما بها
كثير من الاحتقار "الله أعلم"، ثم رد التذكرة إليّ وهو يقول: أرجو أن
تنتبه بعد ذلك، ثم أشار بيده ناحية لوحة معلقة على باب المترو، وقال: من فضلك اقرأ
هذه اللوحة جيدا، ثم انصرف.
شعرت أن جميع الركاب ينظرون إلى، فأخذ جسدي يتصبب عرقا
وشعرت بالإحراج، وفي محاولة لتغيير هذا الموقف اقتربت من اللوحة التي أشار إليها
الرجل فقرأت ما يلي:
"تحذير هام: لكل
من تسول له نفسه "ويستعبط ويستهبل"ويستقل القطار من دون تذكرة أو بتذكرة
منتهية الصلاحية "وأحسست ان التحذير يقول لي فاهم ياله"، فعقوبته أن
يدفع 40 يورو. قلت لنفسي "طب ما أنا عارف المعلومة دي من زماااان".
وعند أول محطة توقف فيها القطار نزلت من فوري، فإحساسي
بأن نظرات الناس تحاصرني جعلني لا أطيق البقاء.
نزلت من المحطة ولسان حالي يقول: "تبا لك يا إبليس،
لقد أخرجتني من المترو كما أخرجت أبوي من الجنة". أعدك ألا يتكرر هذا الأمر ثانية،
لن تنتنصر عليّ بعد الآن.
خرجت من بوابة محطة المترو بعد أن سألت في الاستعلامات
عن أقصر الطرق للوصول إلى جزيرة المتاحف. أين أنت يا فريدرش! لو كنت معى الآن لما
احتجت أن أسأل الناس، لقد كنت أنت مرشدي.
كثيرون هم من سألتهم أين تقع جزيرة المتاحف؟ واتفقت
إجاباتهم على أنها لا تبعد كثيرا عن المكان الذي أقف فيه، وأن من علاماتها أنني
سأجد مبنا ضخما يشبه سفينة عملاقة يحيط به الماء من ثلاثة جهات. ولما أشرفت على
الاقتراب من جزيرة المتاحف بدى لي المكان أشبه ما يكون بسفينة عملاقة تنتطرني.
وصلت إلى الجسر الذي يؤدي إلى جزيرة المتاحف، وسألت للمرة العشرين عن شباك التذاكر
فدلوني عليه، ولما وقفت أمام الموظفة تطوعت مشكورة بعرض مختصر عن المتاحف الخمسة الموجودة
بداخلها:- "متحف
بوده"، "متحف بيرجامون"،"المتحف الحديث"، "المعرض
الوطني للتراث" و "المتحف القديم"، ثم قالت: ويمكننك زيارتهم جميعا
بجانب زيارة المتحف المصري الذي توجد به رأس نفرتيني بتذكرة واحدة ثمنها ستة
يوروهات، وفي حالة ما إذا كنت طالب فستدفع ثلاثة يوروهات فقط. قلت لها على الفور
أنا طالب، وأخرجت لها ما يثبت ذلك، فأعطتني التذكرة من فئة الثلاثة يوروهات.
سعدت جدا أنني طالب، وسعدت أكثر لأنني سأدخل متاحف كثيرة
في يوم واحد.... لقد عاد النشاط يدب في جسدي ... حتما سأشاهد كل هذه المتاحف...
إنها فرصة لن تتكرر.
في البداية أعطتني موظفة الاستقبال جهازا به سماعة، ثم
قالت: هذا الجهاز هو مرشدك داخل المتحف، فيمكنك اختيار اللغة التي تود أن تسمع
الشرح بها، وما عليك إلا أن تقوم بإدخال الرقم المكتوب على الأثر أو التمثال أو
اللوحة في هذا الجهاز، وسيبدأ الجهاز على الفور بتقديم شرح كاف وواف لما تريد
معرفته.. إنه المرشد الإلكتروني .. يا سلام على ألمانيا، ومتاحف ألمانيا.
أخذت الجهاز وبدأت أبحث عن لغتي العربية، فلم أجدها بين
اللغات المتوفرة، فهناك الألمانية وهناك الإنجليزية ثم الفرنسية والإسبانية وكذلك
الصينية. وعلى الرغم من وجود آثارا كثيرة من بلدان عربية إلا أن الشرح باللغة
العربية لم يكن متوفرا!!
دخلت بعد ذلك المتحف القديم وعلمت أنه بنى بين عامي 1825
و 1830 وبناه المهندس فريدريش شينكل (غريبة معظم المهندسين اسمهم فريدريش) أين أنت
يا فريدريش!!
هذا المتحف القديم ( بالمناسبة لحظة بناؤة كان يسمى المتحف
الجديد) يضم بين أركانه آلاف القطع الأثرية لعصور قديمة من معظم أنحاء العالم، وقد
وجدت فيه آثارا فرعونية. بعد ذلك دخلت متحف بودة
"نسبة للمهندس الذي قام بترميمة" وما أدراك ما متحف بودة إنه يعتبر بحق
لؤلؤة في سماء برلين وشاهد على التاريخ والحضارة؛ فبه منحوتات ورسومات فنية تؤرخ
لعصور مختلفة. كما أنه يؤرخ لضرب النقود عبر التاريخ في مجموعة نقدية تعد الأهم في
العالم.
وأجمل ما أبهرني في هذا المتحف ذلك التفنن والإبداع في
اختيار أجمل المواقع وأكثرها روعة، وأبدعها إضاءة لعرض المنحوتات في صالات المتحف
" ياسلام ناس عندها حس عالي جدا، فالأسطح الخشبية والرسومات على الجدران تزيدان
المكان روعة وتألقا، وتجعل من التاريخ وكأنه قد ولد وقد بعث من جديد.
ويزداد المشهد جمالا من خلال القطع الأثرية التي تؤرخ
لعصور وأزمان مختلفة ومتباعدة تتوزع ما بين عصر النهضة والعصر الباروكي والعصر
الكلاسيكي. (أنا أعشق المتاحف)! ويبلغ عدد القطع المعروضة في هذا المتحف حوالي
1700 قطعة منذ البدايات الأولى للعصور الوسطى وحتى نهاية القرن الثامن عشر.
انتهيت من زيارة هذا المتحف وعز على فراقه، وما كان من شئ ليعوضني عن فراقه سوى
دخولي "متحف بيرجامون"، فقد هالني ما رأيته، بوابة كبيرة جدا كتب عليها
باب عشتار من العراق. ياالله ما هذا الجمال، وما هذا الإبداع، وما هذه الدقة
اللانهائية..لم أقاوم نفسي وأخرجت كاميرتي المتواضعة، ثم التقط لها صورة على
الفور. وما هي إلا ثانية أو أقل حتى وجدت سيدة تقف بجواري وتقول: عفوا فالتصوير
بالفلاش هنا ممنوع، وإن كنت تريد أن تصور فينبغي عليك أن تغلق الفلاش. تأسفت لها
ثم وعدتها أن أتبع ما قالت. " تساءلت في نفسي وما سيضر إن كنت أقوم بالتصوير
بالفلاش أو بغيره وأساسا كاميرتي من النوع الردئ الرخيص الذي لا يوجد به سوى
الفلاش.. ياعم سيبها على الله"
جلست
قليلا أمام بوابة عشتار ثم أدخلت الرقم المدون عليها على لوحة مرشدي الإلكتروني فسمعت
ما يلي:-
"تعد بوابة عشتار
في بابل البوابة الرئيسية لسور المدينة الداخلي، وهذه البوابة كانت مدخل المدينة
من ناحيتها الشمالية. وتقع بامتداد الجانب الشمالي من القلعة الجنوبية وتشمل
النقطة التي يتوغل منها الى شارع الموكب. ويعود تاريخ بناءها الى ما قبل حكم
نبوخذنصر(604-562) قبل الميلاد. ولما جاء نبوخذنصر أعاد بنائها مرة ثانية، بحيث أصبحت
أكثر إتقانا وإحكاما، فقد زين البوابة بالثيران وبالطابوق المصقول المطلي، ووضع أبوابها
بعد أن غطاها بالنحاس، وثبت فيها مغاليق ومفاصل من البرونز."
وكدت أجن،
فكيف لهم أن يأتوا بهذه البوابة الضخمة ويضعوها في هذا المتحف، إلا أن الإنسان
دائما عدو ما يجهل، فبعد البحث والفحص والتمحيص عرفت أن سبب وجود آثار بابل في
برلين يعود إلى اتفاقية أبرمتها ألمانيا القيصرية مع الحكومة العثمانية عام 1899،
وعلى أثر الاكتشافات التي حققها الباحث الألماني روبرت كولدوي، فقد تم نقل
السيراميك الملصوق على بوابة عشتار وشارع الموكب بهيئة حطام إلى برلين، ثم قام العلماء على
مدى سنوات بترتيب القطع وإخراجها بهذا الشكل الحالى.
تركت هذه القاعة، ثم دخلت قاعة أخرى بجوارها، وما أن دبت قدماي بداخلها حتى
وجدت شئيا عجيبا مدهشا، يا الله ما هذا؟ إنه شارع الموكب، حملوه أيضا من العراق...
يا للجمال، والدقة، والإبداع! وهنا لم أعد أحتمل، فأخرجت كاميرتي ثم التقطت لها
صورة من دون مراعاة للوعد الذي قطعته على نفسه أمام الموظفة، وما هي إلا ثوان
معدودات حتى جاءتني السيدة مرة أخرى، ومن دون أن تنطق بكلمة من التى تقال كثيرا في
هذا المناسبات عندنا في مصر من قبيل" أنا مش حذرتك؟ أنا مش قلتلك؟ انت ما
بتفهمش؟ انت ..؟" قلت لها أنا آسف
جدا، فأصدقائي في مصر لن يصدقوا أنني زرت هذا المتحف إلا بعد أن يروا صورا له.
قالت: ياسيدي هذه تعليمات، وعليك أن تتبعها، لأن هذا الفلاش يضر بهذه اللوحات
وبهذه الآثار. لم أشأ أن أطيل معها الحوار، فقد وجدت في عينيها جدية قد تؤدي إلى
اتخاذ إجراءات ربما لا تعجبني، لذا آثرت السلامة والسكوت.
تركتني ثم تركتها وتركت المكان، وذهبت إلى قاعة أخرى مهمة، إن لم
تكن هي الأهم على الإطلاق، فقد سمي هذا المتحف باسمها، إنها قاعة مذبح برجامون.
ومذبح برجامون يعود إلى العصر الإغريقي، عثر عليه في تركيا ويزيد
عمره على 2000 سنة، وهو تذكار كبير يتكون من آلاف القطع المرصوصة إلى جانب بعضها
البعض. ويعتبر هذا المذبح المعلم الأكبر والأكثر اجتذاباً للزوار في "جزيرة
المتاحف". جزيرة المتاحف تأثرني... ترى لو قامت حكومتنا بعمل مثل هذه المتاحف
في جزيرة من الجزر الكثيرة التي يزخر بها نيلنا، ألم تكن أفضل؟!! نحن لم نعدم
الجزر ولم نعدم الآثار، ولكننا عدمنا الإرادة وعدمنا الجمال.
غادرت هذا المتحف مضطرا؛ فالوقت يمضي سريعا وما زال أمامي متحفين، والساعة
قاربت على الثانية ظهرا، والمتاحف تغلق أبوابها في الرابعة. وبسرعة البرق دخلت
إلى"المتحف الوطني القديم" وهو أشبه ما يكون بالمعبد، وهو بحق يزخر
بالعديد من الرسومات الشهيرة على المستوى العالمي لفنانين من أمثال الرومانسي
المعروف "كاسبار دافيد فريدريش." خلي بالك من فريدريش دا ورانا
ورانا".
خرجت من هذا المتحف مجهدا متعبا، وفي حاجة ماسة إلى الراحة ولو لبضع دقائق
ألتقط فيها أنفاسي، فمازالت معدتي خاوية على عروشها، فلم أتناول سوى القهوة
والتفاحة... ولكنها القشعريرة التي ما زالت تدب في جسدي.
وزاد من إجهادي ومن تعبي ذلك
المنظر الخلاب الذي يخطف الأبصار ويذهب بالعقول، إنها "حديقة المتعة"
بالألمانية "لوست جارتن" التي تمثل واحة صغيرة خضراء تنتشر فيها
النوافير ومقاعد الجلوس، كما يغطي أرضها عشب ناعم يدعوك للجلوس والاستمتاع بالأجواء
الجميلة في أحضان الطبيعة، وأنا عاشق بطبعي للطبيعة، لذا تركت المقاعد وألقيت
بجسدي على العشب الأخضر الناعم ثم رحت في سكرة عميقة. وما أحلاها!
تذكرت فريدريش، وتذكرت معه الحشيش، ثم سخرت من
نفسي عندما وقفت تحت لوحة ماكدونالدز، واحتقرت نفسي وأنا أركب القطار بتذكرة
منتهية الصلاحية، وتأملت قليلا في قبة البرلمان الزجاجية، ترى لماذا كان التصميم
بالزجاج؟ ربما أرادوها شفافة مثل ديمقراطيتهم، أو هكذا أرادوا أن تكون ديمقراطيتهم....
وتأسفت على فراق فريدريش.
نظرت في الساعة فإذا بها قد تجاوزت
الثالثة ببضع دقائق، فقمت من فوري أسأل عن مكان المتحف المصري الذي به نفرتيتي،
فهو الوحيد الذي لم أزره، وهو الأهم بالنسبة لي على الإطلاق. وكانت مفاجأة غير
سارة؛ فالمتحف ليس موجود بالقرب من جزيرة المتاحف!! عرفت بعد ذلك أنه يبتعد عن
المكان الذي أقف فيه بحوالي ثلث الساعة بالأتوبيس. يا للهول!! ماذا أصنع؟ وهل لو
ركبت الأتوبيس سأصل قبل إغلاقه؟ كم أنا غبي وكسول!! انطلقت بسرعة الريح نحو محطة
الأتوبيس، ولما وصلت إليها سألت الناس عن أي الأتوبيسات أركب؟ فدلني أحدهم على
رقمه، وما أن التفت خلفي حتى وجدته قد وصل المحطة! أههه أنا لم أشتري التذكرة بعد،
ماذا أفعل؟؟ لو ذهبت لأشتريها من الماكينة سأتأخر، وسيغادرالأتوبيس المحطة وسأضطر
للانتظار!! وهنا جائني إبليس للمرة الثانية يراودني عن التذكرة ... كلا لن أركب من
دون تذكرة، هكذا كان جوابي لإبليس على وسوسته إياي، رميته باللعنات، وأسرعت نحو
ماكينة التذاكر، قذفت فيها بالاثنين يورو ونصف، فنزلت التذكرة، ووجدت الأتوبيس
يتهيأ للإنطلاق، صرخت بأعلى صوتي انتطر اننتطر!! انتظرني السائق على غير العادة،
وانتصرت على الشيطان.
نزلت من الأتوبيس، خطوت بضعة أمتار للأمام،
شاهدت لوحة رسمت فيها صورة الملكة المصرية نفرتيتي، مكتوب عليها "المتحف
المصري" ورأيت سهما يشيرنحو شارع جانبي. دخلت الشارع وعلى نحو ما يقرب من
عشرين مترا وجدت مبنا من طابقين، رفعت عليه لافته كبيرة كتب عليها "المتحف
المصري مرحبا بالزائرين". أعطيت التذكرة للموظفة، فأخبرتني بأن موعد إغلاق
المتحف بعد نصف ساعة فقط، نظرت إليها وعلامات الأسى تكسو وجهي ثم قلت: أعلم ذلك
ولكنه الحنين يا سيدتي.
على بعد خطوات قليلة أبعدتني عن شباك التذاكر،
وجدتني أهبط ثلاث درجات لأنحرف يمينا لأرى ملكة مصر يقف أمامها جمع من الناس، ورأيت
أفواههم مفتوحة وأعناقهم مشرئبة في زهول يتأملون تمثالا نصفيا مفقودة إحدى عينية.
إنه تمثال الملكة نفرتيتي " جميلة الجميلات".
تجولت في المتحف المكون من طابقين
ممتلئين بالتماثيل المصرية، أشهرها على الإطلاق هو التمثال النصفي للملكة نفرتيتي،
ثم تمثال نصفي آخر للملكة حتشبسوت يبلغ ارتفاعة 16 سنتيمتر. علمت بعد ذلك أنه ربما
يكون هذا التمثال مقلدا، ولو صح هذا الخبر فسيكون هذا التمثال هو أحد أغلى المقتنيات
المقلدة التي اشتراها المتحف على الإطلاق ، حيث إن المتحف دفع في هذا التمثال
مليون مارك (510 آلاف يورو أو نحو 715 ألف دولار) قلت في سرى: "أحسن، يستاهلوا"
بدأ موظفوا المتحف ينادون على
الزائرين بأن يتفضلوا بالخروج من المتحف؛ نظرا لانتهاء الوقت المخصص للزيارة. استجبت
للنداء مضطرا، ولم يكن لي أن أعطي ظهري للتماثيل المصرية وأنا أخرج من المتحف، وخرجت
بظهري مودعا منحوتات أجدادي....
خرجت من المتحف بشعور المنتصر
المظفر، بعد أن تحققت أمنيتي بزيارة ستة متاحف في يوم واحد .. يا له من إعجاز...
قابلتني نسمة هواء باردة جعلتي أبسط ذراعي لها مستسلما في محاولة للطيران، إلا أن
جسدي لم يهيئ للطيران بعد، صحيح أنني لم أتناول أي طعام منذ الصباح الباكر، ولكن نشوة الانتصار جعلت الغدد
الجلوكوزية تفرز إفرازاتها الفيتامينية وتمدني بالطاقة... " أي كلام في أي
كلام ربما من جراء حالة الهستريا التي أصابتني"
ألقيت بجسدي على أول مقعد وجدته في
طريقي، ثم أخذت أتأمل في المارة، تاركا لعيني النظر في من جاء، وفي من راح من دون
أن أدرك أي شئ، أو أن أتذكر تلك الوجوة التى تمر، كان الغرض فقط هو الراحة
والاسترخاء. مر من أمامي أتوبيسا شاهدت من نافذته رجلا يرتدي جلبابا أبيض، وعلى
رأسة طاقية بيضاء، وبجوارة سيدة ترتدي حجابا، وتحمل بيديها طفلا صغيرا. انتبهت
فورا وتذكرت أن اليوم هو يوم الجمعة، تذكرت أنني لم أصلي صلاة الجمعة بعد. ياربي...
ثم تذكرت أني مسافر، وأنه لا جمعة لمسافر، فهدأت ثم بدأت أفكر، ماذا سأفعل!
بدأت أرتب من أولوياتي فقلت لنفسي
:- أنا في احتياج لتناول طعام الغداء، ثم في احتياج لمسجد كي أصلي فيه الظهر والعصر،
وبعد ذلك أحتاج إلى مكان كي أبيت فيه هذه الليلة....
نهضت من جلستي، وبدأت أبحث عن مكان
أشتري منه ما يسد رمقي، ويذهب جوعتي.. ويبدو أن الجوع يأتي عند ذكر الطعام، فقد
أحسست بنوبة جوع لم أشعر بها من قبل، وأخذت مصاريني تأكل في معدتي، وهبت العصافير
تطير في بطني، وأخذت أهرول.... دخلت متجرا كبيرا اسمه بُلُس " بالألمانية PLUS" اشتريت منه خبز وجبن وعصائر وتفاحتين وأصبعين من الموز، ثم
خرجت أبحث عن مكان أجلس فيه لأتناول ما اشتريت. تجولت كثيرا أو قليلا لا أدري، كل
ما أتذكره أنني بمجرد رؤيتي لشاطئ قناة صغيرة، ذهبت صوب حافته مباشرة، وجلست...
أخرجت من حقيبتي الجبن والخبز، ثم صنعت منهما سندوتشا بدأت في اتهامه على الفور،
وبينما أنا منهمك في التهام سندوتشي إذا بمركب سياحي صغير يمر من أمامي، ورأيت بعض
الركاب يلوحون بأيديهم نحوي، فرفعت يدي وبها السندوتش كي أرد لهم التحية، ثم نهضت
صائحا" اتفضلوا"....
أنهيت طعامي ثم هممت أبحث عن
مسجد لأصلي فرائضا قد فاتتني، ولأشكر الله على نعم قد أغرقتني، وبدأت أنتقي من المارة أناسا أسألهم، فكنت أختار من أظن أنه
ربما يعلم شئيا عن المساجد.. دلني أحدهم على مسجد قريب، فذهبت إليه فوجدته مغلقا،
ولما قرأت اللافتة الموجودة على بابه علمت أنه مسجد للأتراك.. لا لا، لا أريد أن
أصلي في مسجد تركي، فتجربتي مع المساجد التركية تجربة لا أحب تكرارها؛ فصلاتهم
ربما تختلف عن صلواتنا، أو هي كذلك، مختلفة. تذكرت أنني ذهبت ذات مرة لصلاة الجمعة
في مسجد تركي، فلم أستوعب ما فعلوه، فقد صعد الخطيب المنبر مرتين، تحدث في الأولى
بالتركية، ثم نزل وصلي، ثم صعد وتحدث بعد ذلك بالعربية، ثم نزل وصلى بنا جماعة ...
ولم أفهم شيئا... ثم إنني صليت ذات مرة العشاء
بجاري التركي في جوتنجن فلم تعجبه صلاتي، وفضَّل أن يصلي هو بمفرده...أبحث
الآن عن مسجد للمصريين، فهل سأجد؟؟ وهل من حقي أن أشترط؟!!
تركت لقدماي العنان كي تنطلق،
فلربما تقوداني لهدفي أو تتعثرا في مرادي، وانطلقت، وإذا بقطرات المطر تتنزل على
رأسي، فاختبأت منها تحت بلكونة بارزة لإحدى البنايات حتى تنتهي، ولما انتهت بدأت
أشعر بالبرد، فأسرعت الخطى لعلي أقضي على هذا الشعور. وبدأ الظلام يحل رويدا رويدا
وأضيئت مصابيح الشوارع، وبدأت أفكر... ترى لو لم أعثر على مسجد لأصلي فيه، فأين
سأنام؟!.. كان لدي أمل كبير أن أصلي في أحد المساجد ثم أنزوي في زاويته وأنام
للصباح ، ثم أرحل إلى هامبورج، هكذا كنت أفكر. وبدأ الأمل يتلاشى شيئا فشيئا، لا
سيما بعد أن حل الظلام.. قلت لنفسي يبدو أن الشارع سيكون سريري، وأن هذه السماء
الدامعة ستكون غطائي... وواصلت السير حزينا...
توقفت أمام سيدة تجلس على مقعد
لمحطة الأتوبيس، سألتها هل تعرفين أي مسجد في المنطقة؟ رفعت رأسها نحوى، فوجدت
الدمع يفيض من عينيها، ومن دون أن أشعر أخرجت منديلا أعطيته إياها، فلما أخذته
ضحكت، وضحكت معها ثم انصرفت من دون أن أسأل.. تساءلت: ترى ما الذي يبكي هذه
السيدة؟ تذكرت حالى، تذكرت أننى سأنام في العراء، وتذكرت أيضا قوله تعالي "
كلا إن معي ربي سيهدين"
قمت بترديد الآية الكريمة عدة
مرات، وكلما أعدت تلاوتها ازددت تحفيزا ويقينا بأن الله لن يتركني.
********
ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
في وسط إضاءة خافتة سرت،
وبالقرب من محطة للمترو توقفت، ورأيت رجلا أسودا يسير في الجانب الآخر من الطريق، عبرت
إليه، سألته بالألمانية هل تعرف مسجدا قريبا من هنا؟ رد الرجل بالانجليزية ما
معناه: أنه لا يستطيع التحدث بالألمانية، فأعدت عليه السؤال مرة أخرى بالإنجليزية،
فرد علي بالعربية، فعرفت أنه عربي. سررت كثيرا، عرف من لهجتي أنني مصري، وعرفت منه
أنه سعودي .. أخبرنى أنه يعرف مسجدا للعرب يبعد خمس محطات عن هذا المكان، ثم
أخبرنى باسم الحي الذي يوجد فيه ويسمى تيرجارتن " بالألمانية Tiergarten" في شارع " Tirmstrasse" . أخبرني الرجل كذلك بأن علىّ أن أستقل المترو فورا كي أصل إلى
المسجد سريعا، فلم يعد أمامي سوى نصف ساعة على صلاة العشاء وبعدها سيغلق المسجد
أبوابه. شكرت الرجل كثيرا، وصعدت درجات المحطة العالية، وبدأت أسأل الناس عن أي
الجهات التي أركب منها القطار المتجه نحو تيرمشتراسه.. قيل لي: لا يوجد شئ اسمه
تيرمشتراسه. قلت: إنه في منطقة تيرجارتن!!
أخرجت الورقة التي دونت عليها العنوان
فقيل لي: لا، إنه ليس تيرمشتراسه انه تورمشتراسة .. ياسلااااااااااااااام!
أشارت
إلي امرأة عجوز أن أقترب منها، ثم قالت: أنت تريد أن تذهب إلى تورمشتراسة أليس
كذلك ؟ قلت لها أجل، قالت: لا تقلق تعالى معي فأنا ذاهبة في نفس الطريق. شكرتها
كثيرا، ثم بدأت أسألها هل حقا هذا الشارع يقع في منطقة بها جالية عربية؟ فأجابتني
بأن هذه المنطقة كلها عرب، فاستبشرت خيرا واطمأننت، ولما اقتربت محطتي، قالت: عليك
أن تنزل هنا، ثم تخرج من الباب الأيمن، وتسأل عن الشارع فستجد حتما من يدلك. فعلت
ما أشارت به علىّ، ووجدتني أسير في شارع ملئ بمحلات الفاكهة، والمطاعم، والكافيهات
معظم لافتاتها مكتوبة بحروف عربية، أحسست أني قد عدت إلى القاهرة، أو أنني أسير في
أحد شوارع المهندسين أو الدقي. أحسست بدفئ رهيب. توقفت أمام محل لبيع الفاكهة،
سألت أحد العاملين فيه عن مسجد قريب ؟ أجابني بلهجة شامية " لبنانية أو
سورية": مسجد بيت الحكمة لا يبعتد كثيرا عن هنا، فقط ادخل يمينا ثم يسارا
فستجده أمامك.
دب
النشاط في جسدي مرة ثالثة أو رابعة لا أذكر، وأحسست بلوغ هدفي، فأسرعت خطواتي؛ حتى وجدت لافتة تعلو باب صغيرمفتوحة إحدى
ضلفه، ومكتوب عليها بالألمانية " Haus der Weisheit " بالعربية "بيت الحكمة".
يامسهل، هكذا اشتبشرت، ثم أخذت نفسا عميقا ودخلت بقدمى
اليمنى. شاهدت رجلين يجلسان على منضدة في نهاية ممر صغير، ألقيت عليهم بالتحية، ثم
سألتهم: هل هذا مسجد؟ وما كادوا أن يردون التحية حتى صدح صوت المؤذن بأذان العشاء.
سألني أحدهما من أين أنت؟ أجبته من مصر ونظر الآخر بنظرة لم أفهم معناها؛ أقلقتني،
قلت لهما: جئت هنا فقط لأصلي، ثم دخلت، فتوضأت، ووقفت خلف الإمام.
قرأ الإمام الفاتحة، ثم بدأ في تلاوة سورة
الإسراء، ولم يكد يقرأ في الآية الرابعة حتى تلعثم، ساعدته على أن يكمل قراءته، ثم
واصل فأخطأ، فعاودت تذكيره، وتكرر الخطأ في الركعة الثانية، وكنت وحدي من يصوب له.
انتهت الصلاة فاستدار الرجل يعتذر من تكرار الأخطاء، وعلل ذلك بأن القرءان يتفلت
منه، وأنه ينبغي عليه مدارسته ثم سأل: من الذي صوب لي؟ نظر المصلين نحوى، فقلت له:
أنا من صوب لك. فقال الرجل: بارك الله فيك،
هل تحفظ القرآن فأجبته: نعم، أحفظة كاملا، ثم وجدتها فرصة، فواصلت الحديث: كما
أنني أحفظه بالقراءات السبع، فأنا أدرس في معهد للقراءات بجانب دراستي الجامعية! سألني
في أي جامعة تدرس؟ أجبته: في جامعة الأزهر الشريف.
التفت الجميع نحوي، وتغيرت نظرات الرجلين اللذين
قابلتهما عند الممر، تبادلنا أطراف الحديث، كان في مجمله يدور حول الأزهر وحول
القرآن. قلت لهم موجها كلامي للإمام الذي ينادونه بـ " أبو أسام " أو بـ
أبوأسامة" هل تعلم يا شيخنا أن سورة الإسراء لها اسم آخر هو " بني
اسرائيل" وأن هذه السورة هي أكثر السور حديثا عن القرآن ذاته، وهي الأكثر
شرحا لكيفية التعامل معه، ثم أوردت له الآيات التي تددل على صدق ما أقول مثل قوله
تعالى: (إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ
الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا) ، (أَقِمِ الصَّلَاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ
الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا )
سألني الشيخ عن عنوان سكنى في برلين؟ أجبته بأنني أسكن في
مدينة جوتنجن وأنني جئت اليوم لزيارة برلين، وفي الغد سأسافر إلى هامبورج، وتدخل
أحد الرجلين مستفهما:- وأين ستبيت هذه الليلة؟! قلت له: لا أعلم ! وسمعت
الرجل يطلب من الشيخ أن يسمح لى أن أبيت هذه الليلة في المسجد! نظر إلىّ الشيخ
وقال: ولكن سامحني، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبح هناك تشديد كبيرعلى
المساجد، لذا.. ومن دون أن يكمل الشيخ ما بعد لذا، فهمت ما سيقول، إلا أن الرجل
أكمل كلامه ليجدد الأمل، قال: لذا اسمح لي أن أرى جواز سفرك. أخرجت الجواز
فورا. نظر فيه ثم صاح: " ياشباب مين ممكن يعتكف مع محمد للصبح". أجاب
أحدهم، وكان شابا ووسيما " أنا ". قال له أبو أسام بارك الله فيك يا
حسان ثم أقترب منه وسمعته يقول له: أكرم محمد واصنع له في الغد فطورا ثم أيده على
حسابي. شكرت الرجل كثيرا ، ولما انفض الناس استأذنت من حسان كي أصلي الصلوات التي
فاتتني.
انتهيت من صلاتي الظهر والعصر ثم هممت لأصلي المغرب فجائني
حسان وقال: هذا صديقي ماجد من سوريا يريد أن يعزمنا على العشاء فهل توافق؟
*****
خرجنا من المسجد - حسان وماجد وأنا- متجهين نحو مطعم مصري
لنأكل عشوة مصرية، هكذا أخبرني ماجد. عرفت بعد ذلك أن حسان جاء مع والديه من لبنان،
وأن ماجد سوري يدرس في جامعة برلين. دخلنا
المطعم المصري وطلب ماجد نصف فرخة لكل واحد منا، وما أن شممت رائحة الشواء حتى
أخذني الحنين... وصحت بأعلى صوتي، وحشتيني يا مصر.
تحدثنا كثيرا في مواضيع شتى، عن مصر تارة، وعن
جامعة الأزهر تارة أخرى، ثم عن لبنان وعن سوريا. أخبرني ماجد ونحن نصحبه إلى محطة
القطار لنودعه، أنه سيعود إلى سوريا في العام المقبل؛ لأنه قد خطب فتاة سورية
وسيدخل بها، وسألني هل سأحضر الزفاف إذا ما أرسل لي دعوة فقلت له طبعا؛ فهذا شرف
لي...
ودعنا ماجد، وواصلنا السير حتى وصلنا المسجد،
قلت لحسان : هل تقرأ معي سورة الكهف؛ فاليوم يوم الجمعة وأنا معتاد على قراءتها،
ولا أريد أن أنام من دون قراءتها. وافقني حسان فقلت له إن عدد آيات هذه السورة
مائة وعشر آيات فليقرأ كل واحد منا عشر آيات خلف الآخر حتى ننتهي.
ولما انتهينا قام حسان وأحضر مرتبتين
وبطانيتين، أعطاني مرتبة وبطانية وأخذ مثلهما ثم ارتمينا عليهما لننام.
سألني حسان لماذا أنت مواظب على قراءة سورة
الكهف كل يوم؟ أجبته: ليس كل يوم؛ بل كل أسبوع وبالتحديد يوم الجمعة، ثم واصلت: لقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :-
" من قرأ سورة الكهف في يوم
الجمعة أضاء الله له من النور ما بين الجمعتين"
ثم وجدتها فرصة للدردشة فقلت له هل تعلم سبب
نزول هذه السورة؟ فقال وهو يتثائب: لا، فقلت له سأحكي لك:-
" إن قريشا قد بعثت برجلين أحدهما يدعى
النضر بن الحارث والآخر هو عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، كي يستخبرا
منهم عما إذا كان محمد صادق في دعوته أم لا فلما ذهبو إلى اليهود قالوا لهم:
سلوه عن ثلاثة أشياء، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فالرجل يكذب
وعليكم أن تفعلوا ما تروه: سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من
أمرهم، فإنهم قد كان لهم شأن عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها،
ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك، فهو نبي فاتبعوه، وإلا فهو كاذب،
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما
بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن كذا وكذا، فجاءوا إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أخبركم غدا عما سألتم عنه ولم يقل إن شاء الله ،
فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له
في ذلك وحيا، ولا يأتيه جبريل عليه الصلاة والسلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا:
وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا فيها ولا يخبرنا بشيء عما
سألناه، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم غياب الوحي عنه، وشق عليه ما
يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه السلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف،
فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف
أي ذو القرنين." التفتُ إلى حسان فوجدته قد ذهب في
نوم عميق، فدفست وجهي تحت غطائي، ثم استسلمت للنوم.
السبت 6 سبتمبر 2003
صوت لموسيقى هادئة مصحوب بصوت صاحبي حسان
ينبهاني للاستيقاظ لصلاة الفجر، انتبهت، فاعتدلت ثم نهضت، ذهبت للوضوء وأنا مثقل
تعبان لا أستطيع تحريك قدمي ولا رفع يدي، كنت أشبه ما يكون بالرجل الآلى الذى
أوشكت بطاريته على النفاذ...صلينا الفجر سويا ولا أدري ماذا قلت أو ماذا سمعت، كل
ما أتذكره أني شاهدت حسان يمسك بمصحف ويقرأ منه ثم طلبت منه أن يوقظني في السابعة
والنصف.
وضعت رأسي على الوسادة، ففوجئت بحسان يوقظني
قائلا: هيا استيقظ فالساعة أصبحت السابعة والنصف! لم أصدقه و نظرت في ساعتي
فوجدتها السابعة والنصف فعلا ...يااااه بهذه السرعة ، أريد أن أنااااااااااااام
قمت فغسلت وجهي ووجدته قد أعد لنا طعام
الإفطار، وفوجئت بطبق الفول يزين المائدة، تساءلت مستفهما:- فوووول؟ لم أكن أتخيل
أبدا أن أحدا يأكل الفول سوى المصريين! لقد مكثت أكثر من شهر في جوتنجن ولم أشت
رائحة الفول، ولم أعثر عليه لا في مطعم ولا في متجر. أجابني حسان: نعم فول، ولكنه
فول معبأ.
فول
ومعبأ... طب وفين القدرة؟! وازاي؟! و هل يجوز؟
تناولنا الإفطار ثم أحضر لي عصير برتقال،
بعده عرض على أن يرينى المركز الإسلامي قلت له: هل هذا مركز إسلامي أم أنه مجرد
مسجد؟! دخلنا غرفة بها عده مقاعد خشبية قال: إنها غرفة تحفيظ القرآن للأطفال، ثم دخلنا
غرفة أخرى للدروس الإسلامية للكبار، ورأيت إعلانا بأن الأستاذ عمرو خالد والدكتور
عمر عبد الكافي سيحلان ضيفيين على هذا المزكز بعد يومين!!
سألت حسان عن موعد تحرك القطار المتجه إلى
هامبورج، فأخبرني أن هناك قطارا يتحرك في الساعة التاسعة والنصف فقلت له: رائع
يمكننا الآن أن تجول قليلا في المنطقة المجاورة ثم نركب المترو ونذهب إلى المحطة
الرئيسية أليس كذلك؟
خرجنا سويا ولم يكن هناك من المارة ما يخبر
بوجود بشر، كنا نحن وفقط، كان الجو ندىّ، والنسيم أكثر من رائع، بدد معه رغبتي في
النوم وأنعشني.
مررنا بمكتب للبريد فقلت لحسان إنني قد وعدت
زميلتي أوولا من بولندا أن أرسل إليها ببطاقة بريدية من برلين، فدخلنا واشتريت
البطاقة وعليها طابع البريد، ثم أرسلتها إليها تحقيقا لوعد كنت قد قطعته على
نفسي..
ويبدو أن الله أراد أن يكافئني لهذا الصنيع
فبمجرد أن خرجنا من مكتب البريد إذا بي ألمح لافتة كبيرة من الورق المقوى مكتوب
عليها "أوكازيون لمدة يوم واحد فقط، ثمن القطعة بـ 2 يورو". قلت
لحسان قطعة ماذا؟ قال تعالى لنرى! دخلنا محلا كبيرا به ملابس بأنواع شتى – قمصان،
بناطيل، جواكت، ومعاطف- سألنا البائعة هل السعرالموجود على لوحة الإعلان بالخارج
صحيح؟ فأجابت بنعم. ولم أصدق نفسى!! اشتريت جاكت ومعطفان وبنطلونين، وذهبت لأدفع
الحساب، فأصر حسان على أن يدفع بدلا منى!!!
خجلت كثيرا مما فعله حسان، ورجوته أن يأخذ
مني ثمن ما اشتريت؛ إلا أنه رفض رفضا قاطعا، وأصر أن يوصلني إلى محطة المترو،
وفيها أصر على أن يدفع ثمن التذكرة إلى المحطة الرئيسية التى سأستقل منها قطار
هامبورج.
كثيرٌ ما فعله حسان من أجلى، ومن قبله ماجد،
ومن قبلهما فريدريش، وقليل ما قدمته إليهم من شكر!
.......... إلى هامبورج
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق