تابع أخلاق الفرد في القرآن
2 خلق غض البصر والاحتشام
وفي القرن الثامن الهجري جاء بن كثير[1]
بأقوال بها مزيد من التشدد ليحرم النظر إلى الشاب الأمرد ( وهو الشاب الذي لم تنبت
له لحية)[2]
فقال ما نصه: "وقد قال كثير من السلف: إنهم كانوا ينهون أن يحد الرجل بصره
إلى الأمرد، وقد شدد كثير من أئمة الصوفية في ذلك، وحرمه طائفة من أهل العلم لما
فيه من الافتتان، وشدد آخرون في ذلك كثيرا جدا." [3]
أما شيخ الإسلام بن تيمية[4]
فقد ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، ويبدو أن فساد الأخلاق قد أخذ منحى خطيرا في تلك
الفترة (القرن الثامن الهجرى) لتتحول الفتوى من التحريم إلى التكفير، ومن ثم إلى إهدار
الدم، وفي هذا يقول بن تيمية: "وأما من نظر إلى المردان ظانا أنه ينظر إلى مظاهر الجمال الإلهى، وجعل هذا طريقا له إلى اللّه، كما يفعله طوائف من
المدعين للمعرفة،
فقوله هذا أعظم كفراً من قول
عُبَّاد الأصنام، ومن كُفْرِ قوم لوط. فهؤلاء من شر الزنادقة المرتدين، الذين يجب
قتلهم بإجماع كل أمة،
فإن عباد الأصنام قالوا:(مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ
زُلْفَى) سورة الزمر: 3[5]
وجاء العصر الحديث ليزاد منحنى فساد الأخلاق خطورة، فتنتج عنه تحولات خطيرة في
السلوك البشرى، يذكره صاحب الظلال (سيد قطب) قبل أن يصدر حكمه بتجنب الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام، فيقول: "ولقد شاع في وقت من الأوقات
أن النظرة المباحة، والحديث الطليق، والاختلاط الميسور، والدعابة المرحة بين
الجنسين، والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة .. شاع أن كل هذا
تنفيس وترويح، وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت، ومن العقد النفسية،
وتخفيف من حدة الضغط الجنسي، وما وراءه من اندفاع غير مأمون . . .
الخ .
شاع هذا على إثر
انتشار بعض النظريات المادية
القائمة على تجريد الإنسان من
خصائصه التي تفرقه من الحيوان، والرجوع به إلى القاعدة
الحيوانية الغارقة في الطين! - وبخاصة نظرية فرويد - ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، رأيت بعيني في أشد البلاد إباحية
وتفلتا من جميع
القيود الاجتماعية والأخلاقية
والدينية والإنسانية، ما يكذبها وينقضها من الأساس.
نعم . شاهدت في
البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي،
والاختلاط الجنسي، بكل صوره وأشكاله، أن هذا كله لم ينته بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها. إنما انتهى إلى سعار مجنون لا
يرتوي ولا يهدأ
إلا ريثما يعود إلى الظمأ
والاندفاع ! وشاهدت الأمراض النفسية والعقد التي كان مفهوما
أنها لا تنشأ إلا من الحرمان، وإلا من التلهف على الجنس الآخر المحجوب، شاهدتها بوفرة ومعها الشذوذ الجنسي بكل أنواعه
. . ثمرة مباشرة
للاختلاط الكامل الذي لا يقيده
قيد ولا يقف عند حد؛ وللصداقات بين الجنسين تلك التي يباح
معها كل شيء ! وللأجسام العارية في الطريق، وللحركات المثيرة
والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة. وليس هنا مجال التفصيل وعرض الحوادث والشواهد . مما يدل بوضوح على ضرورة إعادة النظر
في تلك النظريات
التي كذبها الواقع
المشهود."
هكذا شاهد سيد قطب، وهكذا يقرر، فيقول: "وفي الآيتين المعروضتين هنا نماذج من تقليل فرص
الاستثارة والغواية والفتنة من الجانبين: (قل
للمؤمنين:يغضوا من أبصارهم، ويحفظوا فروجهم . ذلك أزكى لهم . إن الله خبير بما
يصنعون) وغض البصر من جانب
الرجال أدب نفسي، ومحاولة للاستعلاء على الرغبة في الاطلاع على المحاسن
والمفاتن في الوجوه والأجسام . كما أن فيه إغلاقا للنافذة الأولى من
نوافذ الفتنة والغواية. ومحاولة عملية للحيلولة دون وصول السهم المسموم!"[6]
وأيما كان الأمر من غلو في التفسير أو اعتدال فيه، فالمتدبر للأمر الإلهي يجد
أن الله عز وجل قد أمر المؤمنين والمؤمنات بغض أبصارهم وأبصارهن، من دون أن يحدد
الأشياء التى يجب عليهم أن يغضوا أبصارهم عنها، تركها سبحانه وتعالى عامة، وقد
يكون في هذا دليل على أن هذا الأمر متروك لكل زمان ولكل بيئة ولكل ثقافة! قل
للمؤمنين يغضوا من أبصارهم كلٌ حسب زمانه، وحسب مكانه، وحسب ثقافته، وحسب بيئته،
شريطة أن يكون النظر خال من الشهوة التى قد ينتج عنها خلل اجتماعي!
[1] توفي سنة 747 هـ
[2] قال ابن منظور في لسان العرب في تعريف الأمرد تحت مادة (مرد):- والأمرد : الشاب
الذي بلغ خروج لحيته، وطر شاربه ، ولم تبد لحيته.
[3] ابن كثير، تفسير القرآن
العظيم، الجزء6، ص 40
[4] توفي 728 هـ
[5] مجموع فتاوى شيخ الإسلام
بن تيمية،الجزء 15، ص
[6] سيد قطب، في ظلال القرآن الكريم، تفسير سورة
النور الآية 30
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق