الاثنين، نوفمبر 14، 2011

في بيتنا فأر (القصة الكاملة)



لم يكن غريبا أن تعيش الفئران في بيتنا، كان شيئا عاديا؛ فالبيت قديم قدم أجدادي، عاشت فيه أسرتى لعقود، وولدت فيه. هو بيت من طابقين، جدرانه من الطوب اللبن، مسقوف بأخشاب جادت بها تربة الدلتا الخصبة، تحيط به الأراضى الزراعية من جميع الجهات، وتجرى من أمامه قناة مياه صغيرة، بيئة مناسبة لاستيطان الفئران، كبرت وترعرعت وكونت أجيالا ورثتها أجيال أخرى.
 ولم نكن ومعنا الفئران من يسكن هذا البيت فحسب؛ بل كان ولا يزال يسكنه الكثير من الحيوانات والطيور: بقر، وجاموس، وحمير، وماعز، وخرفان، وهناك دجاج، وبط، وأوز، وأزواج كثيرة من الحمام...
 حاولنا مراراً وتكراراً أن نغري القطط لتعيش معنا، فباءت جميع محاولاتنا بالفشل، ولم نعرف السبب، وبدى لى أن القطط تخشى فئران بيتنا لما قد تسببه لها من مخاطر قد تؤدي إلى إحراجهم أمامنا؛ ففئران بيتنا بحجمها الكبير، تبدو وكأنها من نوعٍ شيطاني قد غلبت عليه جينات الفريزيان، فأظهرت للقطط أنها ليست فئران عاديه يمكنها أن تؤكل من قبل قطط أصغر منها حجما.
كان من الطبيعي أن تشاهدها وهي تتجول بأريحية شديدة داخل غرفات البيت وممراته، وكان من الطبيعي أن ترى فتحات كثيرة داخل الجدران، وتحت وفوق الأبواب والنوافذ. حاولنا كثيرا أن نغلق هذه الفتحتات، وكلما أغلقنا إحداها وجدناهم وقد فتحوا غيرها في أماكن أخرى، ومع مرور الوقت سلمنا واستسلمنا للأمر الواقع، وارتضيناهم جبرا أعضاءا مؤسسين!
كان يؤرقني في وجودهم شيئا وحيدا، أن يأتي لزيارتي صديق ممن أنعم الله عليه ببيت ليس به فئران، كنت أخشى زيارة هذا الصديق، أخشى أن يرى أحدهم -وهو يلعب ويمرح- فيُقْضى عليه. أعرف أنه لن يحتمل رؤيتهم، وأنه لو احتمل مرة فلن يحتمل الأخرى، ولن يعاود الزيارة.
 وفي مساء يوم من الأيام جاء أحدهم لزيارتى، فدعوت الله أن تمرالزيارة بسلام، فاستجاب الله دعائي، ومرّ الوقت من دون أن يخرج فأر ليلعب أو يلهو، وهمّ صاحبي بالاستئذان، وذهبت في وداعه، وعند الباب وقعت قدماي على فأر كبيرالحجم، بطئ الحركه، كريه المنظر، فدهسته وخرج منه دماء كثيرة!! كانت لحظة فارقة!
كرهت الفئران كرها شديدا، ولم تعد لي طاقه لرؤيتهم، أو حتى لسماع أحاديث عنهم، كرهتهم، كرهت كل شئ عنهم، وحتى أفلام ميكي ماوس كرهت مشاهدتها!!!
مرت أيام، وتبعتها شهور، وربما أعوام، وانتقلت من بيتي القديم إلى بيت جديد، فاخترت أن أسكن طابقه الخامس، أردت أن أبتعد عن الفئران، ولكن هيهات هيهات. 
في يوم من أيام الشتاء الباردة، والتي يصحبها في الغالب تساقط أمطار، وبهطولها يأتي الخير إلا في قريتنا؛ فالأمطار تسبب لنا مشكلة كبيرة في التنقل؛ تمتلئ الطرقات بالوحل، وتبتل الأسطح بالماء، فتغرف البيوت وتنهار الجسور! في عصر ذلك اليوم الممطر جاءت لزيارتنا صديقة أجنبية هي الدكتورة  فيرا من دوله لاتفيا. تناولنا الغداء سويا، ثم خرجنا إلى البلكونة نلقي نظرة على  البيوت، والأراضي الزراعية من تحتنا. رأينا خروج الفلاحيين بحيواناتهم وحميرهم، ورأينا انتشار الأغنام والدجاج فرحين بانقطاع الأمطار، وعودة الشمس. كانت الدهشة واضحة على وجه الدكتورة فيرا، قالت: أنتم تعيشون في حديقة حيوان مفتوحة!! ثم أصرت أن تخرج لتتجول في القرية. حاولت إثنائها عن الخروج هذا اليوم، فباءت كل محاولاتي بالفشل، كنت أخشى الوحل والتزحلق!
خرجنا جميعا -رجالا ونساءً- نتحسس في طرقاتنا أماكن لم تصبها الأمطار، حمل كل منا عكازا  في يده ليقيه شرالتزحلق، ثم شمرنا عن سيقاننا.  انتهت الجولة بسلام، فعدنا فرحين إلى شقتنا، وأخذ النسوة في إعداد طعام العشاء...
لم يمر كثير وقت حتى سمعنا صراخا وعويلا، خرجت زوجتي من المطبخ لتخبرنا أنها رأت فأرا! فأرا! فأرا! وقع ذكر اسمه من أذني موقع القنبلة مما تسقط عليه. اعتدلت من جلستي، وبحركه لا إراديه رفعت قدمي من الأرض ثم أطلقت صرخة مدوية تستفهم، بل ترفض أي إجابة لتأكيد الخبر، ومرحبة بأي إجابة تنفيه.
أكدت زوجتي الخبر، وتطوعت من دون طلب، فأقسمت!!! ترانى ماذا أفعل لهذه الفئران؟ تركت لهم بيت العائلة القديم يمرحون فيه ويلعبون دون قيد أو شرط، ارتضيت أن أسكن  في الطابق الخامس، في شقة يفترض أنها للبشر وفقط!!! 
 نظرت إلى الدكتورة فيرا فوجدتها لم تتأثر!! علّها لم تفهم ماذا يجري. أخبرتها بالأمر، فلم تبدى دهشة! سألتها ألا تخافين؟! أجابت بعدم اكتراث: لا شئ يدعو للخوف.  بعثت إجابتها شيئا من الطمأنينة إلى قلبي، وقام أبي بهدوء، فذهب إلى المطبخ وتبعته أمي..
خرج النسوة من المطبخ مسرعين، تاركين ورائهم معركة بين والديّ في مواجهة الفأر.اجتمع جمعنا في الصالة، سمعنا أصوات لضربات بالعُصّي تارة، وخبطات في الحلل والأطباق تارة أخرى. شاهدنا خروج الفأر من المطبخ، اقترب من مكان جلوسي، أفزعني، أغمضت عينى، نهضت واقفا على الكرسي، رأيته يقترب من الباب، كان يريد أن يخرج، وكان الباب مغلقا!
 اختبأ الفأر تحت كنبة بجوار الباب، اختبأ بجواري، تبعه أبي بعصاه فهرب منه، دخل خلف النيش، تبعه أبي يضربه بعصاه من الجانب الأيمن للنيش، ذهبت أمي إلى الجانب الأيسر لتطوقه. انهالاعليه بالضرب، كان ماكرا، وقف في المنتصف في مكان لا تصل إليه  ضرباتهما!
نهضت من مكاني إلى غرفة النوم؛ أبحث عن عصا أطول فلم أجد سوى حامل الستائر، أنزلته. عدت إليهما، توقف الضرب لثوان حتى يتمكن والدي من حمل حامل الستائر، شعر الفأر بشئ ما يدبر له، فرَّهاربا إلى المطبخ.
 رأى الفأر باب غرفة النوم مفتوحا فدخلها مسرعا، وكان هذا هو الخطأ الثالث الذي وقعت فيه !!! كان خطأي الأول يكمن في عدم إحكام باب الشقة عند خروجنا منها لنتجول في القرية. وكان خطأي الثاني عندما أغلقت باب الشقة بإحكام عند سماعي نبأ وجود هذا الضيف الثقيل!!
دخل الفأرغرفة النوم فاسشعرت حجم المأساة؛ فالغرفة مليئة بالأثاث، وبها أماكن كثيرة يصعب علينا الوصول إليها، ويسهل على الفأر الاختباء فيها؟ وحدث ما كنت أخشاه، بحثنا عنه في كل مكان في الغرفة، وانضم إلينا الجالسون في الصالة، وامتلأت الغرفة بكل الحضور، ثم اختفى الفأر تماما.
صعدت أعلى الدولاب أنظر خلفه فلم أجد شيئا. قمنا جميعا بكتم أنفاسنا لبضع دقائق حتى لا يصدر منا صوت، وانتظرنا فلم نر حراكا ولم نسمع صوتا..
أردت أن أطمئن نفسي وزوجتي فقلت لها: أعتقد أنه خرج... وطلبت منهم أن نجلس للطعام....
كنت على يقين أن الفأر لم يخرج، وأن الليلة ستكون ليلة ليلاء، لا نوم فيها ولا هناء! وانصرف الحضور، وذهبت فيرا لتنام في غرفتها... وذهبنا ننام في غرفتنا، التي أصبحت في ظل المتغيرات الجديدة غرفة للضيف الملعون...
غلبنا النعاس، فنمنا. ولما انتصف الليل أيقظتني زوجتي لتخبرنى أنها سمعت صوتا، انتبهت من نومتي فزعا، أوقدت الأنوار فانتبه الفأر، رأيته واقفا على التسريحة، نظرت إليه فلم أجده فأرا واحدا، رأيتهما فأرين! ياإلهى!!
عاودت النظر مرة ثانية فرأيته فأرا واحد، وعلمت أن الفأر الثاني ما هو الا صورته التي في المرآة.. ومن دون أن أدري خرج مني صوت مرتفع بدد معه سكون الليل، ليقفز الفأر من فوق التسريحة فيختفى!!!
 هنا تأكدنا من وجوده في الغرفة، ففتحت له الباب عله يخرج، علّنا ننام. لم يمض وقت طويل حتى استيقظنا مرة أخرى، كان الصوت هذه المرة قادما من الصالة. خرجت إليها فوجدت فيرا نائمة على الكنبة بجوار الباب.. سألتها: لماذا تنامين هنا يا دكتورة؟ أجابت بأنها سمعت أصواتا في غرفتها فانسلت وخرجت، ثم أحكمت إغلاق الباب بوضع سجادة الصلاة أسفل منه كي لا يخرج الفأر من تحته. كان تصرف فيرا ينم عن ذكاء وخبرة، عكس كل تصرفاتي!!!
 انتظرنا حتى أذن للفجر، صليناه ثم شمرت عن ساعدي. سألتهما من سيدخل معي لحسم المعركة؟ رفضت زوجتي الدخول معللة أنها ستقف في الخارج تتابع الأمر من بعيد لتتاكد من أن الفأر لم يخرج! استجابت فيرا لطلبي، أغلقنا الباب بإحكام ووقفنا نستمع. حركت عصاتى أكثر من مرة حتى سمعت صوتا قادما من أسفل السرير، ضربته بعصاتي، فاختفى الصوت. نزعت المرتبة وملل السرير وبعضا من الكراتين والأوراق، لمحت زيله في وسطها... ومن دون أن أفكر أطلقت ليدي العنان فانهالت عليه بضربات متلاحقه ولكنه قفز واختفي!! قمت بتحريك السرير، فلمحته يقف بمكر في مكان يصعب علي رويته منه!! قلت له: تعالى ياماكر...
سمعت ضحكة عالية، كانت فيرا، ضحكت عندما رأتني منهمكا أتصبب عرقا، لم أعر الضحكة اهتماما، واصلت مقاومتي!! كان الأمر بالنسبه لي لا يعدو عن كونه تحديا ، كان الأمر حياة أو موت.. خرج الفأر من تحت السرير متجها خلف الشوفونيرة، حركتها فوقعت على ذيله، صرخ صرخه عالية، ثم سكت. ترى هل مات؟! لم أكن متأكدا! قد يكون في الأمر خدعة، ماذا أفعل؟ ماذا أصنع؟ جائني فكرة، رفعت الشوفونيرة قليلا، فكانت المفاجأة، لم يمت الفأر، قفز مسرعا نحو السرير، انزلقت قدماه فوق الكراتين، لم يستطع مواصلة القفز، أدركت اللحظة الفارقة، فوجهت عصاتى نحوه لأضربه بكل قوتي، أرديته صريعا... ابتسمت!


بقي أن أذكر أن الفأر كان يحاول الهرب من هذه الغرفة، وعندما فشل قام بقرض سجادة الصلاة! تمت











والله المستعان
محمد شحاته

هناك 3 تعليقات: