الاثنين، يناير 18، 2016

ولا عزاء للرجال


اسمح لي أن أحكي لك قصة حدثت لى مع ميكروباص التحرير!
أول أمس وكالعادة، ركنت سيارتي بجوار مسجد الحصري ثم عبرت الطريق خلف محطة البنزين، هناك ساحة كبيرة جعلتها الحكومة منذ وقت قريب موقفا للميكروباصات، أفضِّل أن أركب ميكروباصات الموقف على أن أركب الميكروباصات التي تتوقف كل دقيقة في الشارع لتحمل الزبائن أو ترميهم، ميكروباصات الموقف أغلى من ميكروباصات الطريق بنصف جنيه، إلا إنها نادرا ما تتوقف في الطريق، فركابها غالبا ما ينزلون في المحطة الأخيرة، محطة عبد المنعم رياض.
هذه المرة حدث لى شيئا ظننته في بداية الأمر عفويا وغير مقصود، ولكنك ستعرف في ثنايا القصة أنه شئ له دلالة. ذلك أنني عندما اقتربت من ميكروباص التحرير وهممت بالدخول فيه إذ بامرأة تغطي وجهها بشال أسود دفعتني لتدخل أولا، أفسحت لها الطريق مفترضا حسن النية، ورأيتها تجلس في الكرسي الأخير من الميكروباص بجوار النافذة، فجلست في نفس الكرسي ولكن بجوار النافذة المقابلة، وجاء رجل بدا من هيئته أنه موظف مرموق إذ كان يرتدي بدلة برابطة عنق فجلس بيننا. نادى السائق أنه يريد واحدا ليتم به الميكروباص الواقف أمام ميكروباصنا، وهنا اندهشت السيدة الجالسة بجوار النافذة المقابلة لنافذتي وتساءلت: لماذا بدأو في تحميل هذا الميكروباص قبل أن ينتهوا من الأول؟! ونظرت إليها فإذا بها قد أزاحت الشال عن وجهها.
تحرك الميكروباص وبدأ الجميع في إخراج نقودهم، أعطيت الجالس بجواري خمسة جنيهات فأعطاني جنيها حديديا جديدا، كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذا النوع من الجنيهات، جنيه مطبوع عليه صورة قناة السويس الجديدة، سأحتفظ بك أيها الجنيه للذكرى.
سمعت السيدة صاحبة الشال المتأرجح بين الصعود والنزول وهي تقول: لا، أنا بادفع الأجرة الرسمية، تلاته جنيه ونص.
 لم يعجب الرجل البدين الذي كان يجلس أمامي مباشرة كلام السيدة، فرد النقود إليّ من دون أن يلتفت، بينما أخذ يتمتم بكلمات سمعت منها: يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم. أخذتُ منه النقود ورددتها إلى السيدة، فقامت بإعطائها رجل غيره وهي تقول: ربنا يهدي.
كنا قد خرجنا من الموقف، وعبرنا مسجد الحصري ثم اجتزنا المطب الأول، فالمطب الثاني واقتربنا من المطب الثالث. عندها سمعت الراكب في الصف الأول خلف السائق يقول: يا جماعة فيه نص جنيه ناقص.
ردت عليه السيدة وهي تقول: أنا بادفع الأجرة الرسمية والسواقين كلهم عارفين.
مد الرجل يده بالنقود إلى السائق قائلا: أجرتك يا أسطى.
استقام الميكروباص في طريقه، وانشغل الركاب بسماع ما يبثه المذياع من برامج صباحية، وانشغلت أفكر في الطريق وما يجري فيه من إصلاحات، كل عام يقومون بعمل تجديدات للأرصفة، يزرعون شجرا وينزعوه بعد أن يكبر، يقيمون ميدانا في بداية العام ويزيلوه في نهايته، يبنون إشارات إلكترونية حديثة ثم يهدمومها بعد وقت قليل من بنائها. وقطع تفكيري صوت السائق وهو يقول: الأجرة ناقصة نص جنيه يا جماعة.
صاحت السيدة صاحبه الشال المرفوع قائلة: الأجرة الرسمية ثلاته جنيه ونص يا اسطى، ولو مش عاجبك نروح للبوليس.
-          هو انتي؟! تساءل السائق وهو ينفخ نفخة شريرة.
-          أيوه أنا، وبعدين مش اسمها إنتي، اسمها حضرتك، أنا الدكتورة ....
-          يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم ع الصبح! صاح السائق
-          طب والله العظيم ما أنا سيباكم، أوقف عند الداخلية اللي عند هايبر يا أسطي. صاحت السيدة
أشاح الرجل بيده في إشارة منه أن افعلي ما تشاءين.
وصلنا عند ميدان جهينة فكان العمل يجري فيه على قدم وساق، فقد أزالوا منه جميع النخل الذي كان يزينه لسنوات، ثم بدأو بصب خرسانة يبدو أنهم يريدونها نافورة أو شئ من هذا القبيل.
مررنا بجامعة النيل، زويل سابقا، ثم بالصحراء على الجانبين فسمعت صوت السيدة صاحبة الشال ترتل القرآن، كان صوتها مرتفعا، وتلاوتها سريعة. قطعت السيدة التلاوة لتسأل الرجل بجواري: هل اقتربنا من هايبر؟ أجابها باقتضاب: لسه.
بالقرب من هايبر ماركت وقع بصري على عسكري مرور يفرك يديه من البرد، نادت السيدة على السائق كي يتوقف، لم يسمعها السائق، أو ربما سمعها وقام بتجاهلها. علا صوت السيدة صارخة: أوقف يا أسطى، والله ما سيباك.
-          يا ستي ما اصطبحناش ع الصبح، الله يهديكي. صاح السائق.
-          لا، لازم توقف. انت بتغلّي الأجرة وكمان مش عاجبك؟! قالت السيدة.
كنا قد ابتعدنا عن نقطة الشرطة بعدة خطوات تجاوزت المائة، عندها بدأ السائق بوضع قدمه على مكبح السيارة حتى توقفت ببطئ، لتزيد معها عدد الخطوات فتصبح حوالي مائة وعشرين. فتح السائق بابه ثم نزل فدار حول الميكروباص مقتربا من نافذة السيدة، فتحت السيدة نافذتها ثم صاحت: لو سمحت روح هات البوليس.
-          لا، اتفضلي انتي روحي ها تيه، أنا مستنيكي هنا.
-          لو سمحتوا يا جماعة حد يروح ينادي على الظابط. صاحت السيدة.
لم يستجب أحد، نظرتُ إلى الركاب فلم يكن من سيدة سواها، صاحت مرة أخرى:
-          يا جماعة أنا عارفه، لو أنا نزلت السواق ها يسيبني ويمشي، من فضلكم حد يروح ينادي على الظابط.
-          يا ستي مفيش حد في الكمين. قال أحدهم.
-          من فضلك لو سمحتي أنا عندي امتحان ومتأخر. قال آخر.
-          ياستي مش مشكلة علشان اللي عنده امتحان ده. صاح ثالث.
-          أنا كمان متأخره على شغلي، بس إحنا لازم ندافع عن حقوقنا يا جماعة. قالت السيدة.
-          لو حضرتك معاكي رقم الضابط ممكن تكلميه يجي. قال الرجل بجواري.
أخرجت السيدة هاتفها ثم بدأت بالبحث عن رقم الضابط، اتصلت به فلم يرد، عاودت الاتصال فلم يرد، قالت: يبدو أنه لا يسمع الهاتف.
-          لا يسمع إيه يافندم، هو فيه ظابط ها يوقف في الكمين دلوقتي؟! تساءلت في اندهاش.
-          أيوه يا فندم فيه ظابط في الكمين. أجابت السيدة في ثقة.
-          يا فندم اللي واقف كان عسكري مش قادر يصلب طوله من البرد.
في الخارج كان يقف السائق ومعه بعض الركاب في شد وجذب. وفي الداخل كانت السيدة تحاول الاتصال بالضابط مرة أخرى، وعندما فشلت في الوصول إليه استدارت نحوي قائلة:
-          على فكرة، المشكلة في أكتوبر إن عدد الضباط قليل جدا. قالت السيدة.
-          تمام، يبىقى نتكل ع الله ونمشي لشغلنا، على ما عدد الضباط يكتر. أجبت في حدة.
-          لا يا فندم، احنا لازم نكون إيجابيين وما نسيبش حقنا. قالت السيدة.
-          يا فندم كنا إيجابيين وفي الأخر ما حدش كان بيعبرنا وبيوقفوا مع السواقين ضدنا.
ركب السائق وركب الركاب، واستعد السائق للانطلاق ثم صاح: حرام عليكي، ليه الأذى ع الصبح، والله لو كنت شوفتك في الموقف ما كنتش ركبتك، بس انتي بتيجي متخفيه في النقاب.
-          ملكش دعوه بالنقاب، ده حرية شخصية، صاحت السيدة.
هنا فهمت السر وراء تدافعها ووراء تغطية وجهها، والحق أني تعاطفت معها، بل استجدعتها، امرأة  بخمسة عشرة رجلا، ولكنها تسبح ضد التيار، وتحارب أشباح وبلطجية، لا الوقت ولا الصحة يسمحان بذلك، ربما لديها الوقت ولديها الصحة! ربما.
ساد الصمت لدقيقة، قطعته بصوتها المرتفع.
-          على فكره الأجرة الرسمية تلاته جنيه ونص.
-    طب لما هيا تلاته جنيه ونص فين الرقابة؟ ولا كل يوم احنا نعمل مشاكل مع السواقين؟ مش المفروض الضباط هم اللي يطبقوا القانون؟ ولا يسبونا احنا نطبقه؟
-          لا يافندم حضرتك عدد الضباط قليل، لأنهم عمالين يتقتلوا، فلازم لما احنا نشوف غلط نبلغ عنه؟
-          واشمعنا عددهم كبير في القاهرة؟
-          لأن القاهرة عاصمة وفيها مؤسسات كتيرة زي البرلمان وزي الوزارات.
-          يا سلام، نموت احنا بقى علشان هما يحموا العاصمة؟  مش احنا بندفع ضرايب برده ولا لأ.
استدار شاب يجلس بجوار الرجل البدين، نظر إلى قائلا: لو سمحت سيب الست تقرأ قرآن ما تعطلهاش. ورتب الرجل بجواري على كتفي قائلا: خلاص يا ابني.
لم تسكت السيدة، وواصلت حديثها إلي مدافعة عن الشرطة، ثم قالت:
-          حضرتك لو عندك وقت تعالى معايا وأنا أثبت لك إن الشرطة شغالة على أكمل وجه.
-          للأسف أنا معنديش وقت، أنا عندي مراقبة.
-          خمس دقائق فقط  مش ها أخرك.
-          ان شاء الله في مرة قادمة.
حاولت السيدة أن تسترسل في الحديث فاستدار إليها رجل كبير في السن بقوله: والله يا بنتي أنا واخد سبع برشامات ع الصبح وتعبان.
استدرت أنظر من النافذة بعيدا عن السيدة، فانشغلت هي بقراءة القرآن حتى وصلنا بالقرب من فندق ماريوت في جزيرة الزمالك، عندها استدارت السيدة نحوي قائلة:
-          حضرتك ها تيجي معايا علشان تشوف بعينك الشرطة شغالة ولا لأ؟
-          يا فندم شغالة إيه بس؟
-          خمس دقائق بس مش ها أخرك؟
-          مرة تانية ان شاء الله.
-          والله مش ها نتأخر، أنا كمان عندي شغل، بس لازم نبقى إيجابيين.
-          مرة تانية ان شاء الله
ساد الصمت حتى دخل الميكروباص الموقف فانتظرت حتى نزل الجميع. كنت أحاول أن أبطئ من حركتي حتى تنصرف السيدة التي ارتبت في أمرها، إلا أنها انتظرتني خارج الميكروباص ولما رأتني خارجه اقتربت قائلة: الضابط واقف هناك، تعالى علشان تشوف بعينك ازاي هما شغالين وها يجبوا لنا حقنا.
كان أحد الركاب يرمقني بعينيه، يريد أن يعرف ماذا سأفعل، كنت مترددا، ولكن إلحاحها جعلني أستسلم.
عبرنا الشارع حتى اقتربنا من الضابط، عنده قالت السيدة:
" صباح الخير يا فندم، أنا الدكتورة هالة، دكتورة في القانون، أنا كلمت الرائد على، والمقدم ابراهيم، واللواء سعيد مدير أمن أكتوبر لأن السواقين بيغلوا علينا الأجره، وبيخلوها أربعة جنيه وهيا رسميا تلاته جنيه ونص، والأستاذ مش مصدق إن الشرطة شغالة"
-          نظرت إليها في اندهاش واستغراب ولم أنطق.
قاطعها الضابط بقوله:  يعنى حضرتك عاوزه إيه دلوقتي؟
-          حضرتك بيغلوا الأجره.
-          هو السواق فين اللي بيغلي الأجره؟
-          في الموقف يا فندم لسه داخل حالا.
-    خلاص روحي لفهمي بيه اللي قاعد في العربية الملاكي هناك تحت الكوبري وهو ها يتصرف، ثم نادى على عسكري كان يقف في إشارة المرور ليبحث عن سائق الميكروباص. أعطته السيدة رقم الميكروباص ثم ذهبنا سويا للقاء فهمي بيه.
سلمت السيدة على فهمي بيه وأعادت نفس الكلام الذي حكته لزميله:  
" صباح الخير يا فندم، أنا الدكتورة هالة، دكتورة في القانون، أنا كلمت الرائد على، والمقدم ابراهيم، واللواء سعيد مدير أمن أكتوبر لأن السواقين بيغلوا علينا الأجره، وبيخلوها أربعة جنيه وهيا رسميا تلاته جنيه ونص، والأستاذ مش مصدق إن الشرطة شغالة"
-          يخرب بيتك، والله أنا مصدق!  قلتها في سري.
-          يعنى حضرتك عاوزة إيه؟
-          بيغلوا علينا الأجره يا فندم.
في هذه الأثناء رأيت العسكري قادما ومعه السائق، اقترب السائق من فهمي بيه، قالت السيدة: الأجرة تلاته جنية ونص وهو أخد منا أربعة جنية.
-          لا الأجرة أربعة جنية إلا ربع، وبعدين أنا بكلم الباشا مش بكلمك انتي، صباح الخير يا باشا. قال السائق
-          رخصتك! أمر فهمي بيه
-          اتفضل ياباشا.
-          فيه خط السير؟
-          حاضر ها اجيبة من العربية.
ذهب السائق ليحضر خط السير وانصرف العسكري بينما راح فهمي بيه يخط بيمنه على ورقة بيضاء كتب فيها اسمي واسم الدكتورة هالة، ثم قال: والله لو كل الناس زيكوا كده إيجابيين كانت البلد انصلح حالها. ولو حضراتكم عندكم وقت ممكن تروحوا تعملوا محضر ونسجنه.
-          لا، سجن إيه يا فندم، مش لازم، وكمان مفيش وقت. أجبت.
-          أنا ها اعمل له مخالفة بـ 1800 جنيه علشان يحرم يعمل كده تاني.
-          أهم حاجة يا فندم انه يبلغ زمايله علشان ما يغلوش علينا الأجره.
-          الكلام سهل إنما الفعل صعب. أجاب فهمي بيه.

مددت يدي إلى فهمي بيه أحييه، بينما انحنت الدكتورة هالة لتأخذ منه رقم هاتفه، ثم نظرت إلى نظرة فهمت منها: الشرطة شغالة ولا مش شغالة؟!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق