جذبني غسان من يدي وانحرف بي هذه المرة
ناحية اليمين.
-
إلى أين يا غسان؟ تساءلت.
-
تعالى لنشرب من بئر بروطة، فماؤه مثل ماء نهر النيل،
من يشرب منه مرة يعود إليه من جديد.
صعدنا عدة درجات قربت من العشرين،
فاستقبلتنا رائحة نفاذة من البخور، زادت حدتها كلما اقتربنا من البئر.
- ما هذا الجمل يا غسان؟
لم أكن أتخيل أن أجد جملا عند البئر، قيل
لنا أن هذا تقليد موروث منذ مئات السنين، جمل يدور حول البئر، مربوط في جرار (جمع
جره) معلقة بعجلة خشبية، كلما دار الجمل كلما غرفت الجرار من الماء لتصبه في جرة
كبيرة من الفخار، وعند امتلائها يقوم العامل بتوزيع المياه في أواني صغيرة يشرب
منها الزوار. ما أعزب هذا الماء وما أنقاه! قال لي العامل: هذا الماء يشفي من
الإمساك! قلت له: نعم، ولكن الشافي هو الله.
في تونس يضربون "بجمل بروطة"
المثل، يقولون: "يعمل مثل جمل بروطه" أي "داير في ساقية" كما
يقول المثل المصري. وفي الماضي كان يدخل جمل بروطة الخدمة "حوارا" أي جملا
صغيرا على رجليه، ويخرج على الأطباق أي مذبوحا. أما الآن فقد تغير الحال وصار
الجمل يستبدل بآخر كل عدة أعوام.
خرجنا من بئر بروطة على أمل أن نعود إليه
يوما ما، ترى هل سنعود؟ العلم عند الله. كان ينتظرنا عند الباب شاب نحيف، يرتدي
ملابس غاية في البساطة، لا نعرفه من قبل، صاح بلهجته التونسية: تفضلا، من هنا.
-
ماذا؟ سأل غسان.
-
ألا تريدون زيارة متحف القائد العلاني
للسجاد؟ سأل الشاب.
-
نعم سنزوره، أليس من هنا؟ سأل غسان
-
نعم تفضلا. أجاب الشاب، ثم سبقنا بعدة خطوات،
أو بالأحرى نحن من تأخر عنه تلك الخطوات، فقد أدركنا أنه من أولئك الذين لا يقدمون
الخدمة إلا بمقابل. تعمدنا أن نلتقط لأنفسنا صورا جعلنا خلفيتها إما أبوابا قديمة،
وإما بيوتا أثرية. كان الشاب ينتظرنا من دون ملل أو كلل، ولم نجد بدا من أن نتبعه
حتى وصلنا إلى دار غاية في الروعة والجمال.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق