السبت، سبتمبر 10، 2016

علي شاهين يكتب: مخلص كتاب هكذا تكلم زرادشت لمؤلفه فريدريك نيتشة


أولا معلومات عن الكتاب:
اسم الكتاب : هكذا تكلم زرادشت
 اسم المؤلف: فريدريك نيتشة (1844-1900)
 اسم المترجم : علي مصباح
الصعوبة التى تواجه أي شخص ينتهي من قراءة هذا الكتاب تحديدا هو تصنيف الكتاب؛ فالكتاب فيه من الفلسفة نخاعها الشوكي، ومن الأدب كل فنونه وأحابيله، ومن النقد جميع طوربيداته وباروده، ومن علم النفس أعماقه السحيقة وذهولنا أمامه، ومن اللغويات الأسُس التشريحية لها، فكيف يمكن ضبط وتنظيم وتلخيص كتاب كهذا وهو يستعصي على اللغة نفسها؟ إذا المجازفة هى المصير المحتوم لمن قرر تلخيص هذا الكتاب ورغم ذلك لايسعنا إلا الوثوق بالأمل بأن نستنبط معالم الكتاب؛ فالكتاب عبارة عن رواية مُقسمة إلى أربعة أجزاء وضع فيها نيتشه خُلاصة أفكاره وفلسفته على لسان النبي الفارسي زرادشت بطل الرواية بأسلوب لايمكن القول بأنه أدبي وإنما هو أقرب لنصوص الوحي والكتب المُقدسة وتلك نقطة سأتناولها فى سياقها، لكن بشكل عام نستطيع أن نقول أن فلسفة نيتشه ترتكز على أربعة أعمدة يمكن لم شملها فى الآتي:
أولا: نقد وهدم جميع أفكار عصره: من العبارات التى يُمكن أن تلخص نيتشه بشكل مذهل عبارة الدكتور فؤاد زكريا حين قال عنه ـ فى كتابه الذي يحمل إسم نيتشه ـ "إن نيتشه هو أول ناقد للحضارة فى التاريخ". يبدأ نيتشه روايته بالنبي الفارسي زرادشت الذي مكث طويلا فى مغارته فى الجبل يرى أنه قد أكتسب من الحكمة مايجعله يرغب فى أن يفيض بها لغيره من الناس فينزل حاملا مطرقة النقد والتحطيم أو كما يحب نيتشه (التفلسف عبر المطرقة) لكل ماهو سائد من أفكار وتيارات عصره ومُبشرا بدعوة الإنسان الأعلى، فيحطم مبادئ القانون وفلسفة العادلة السائدة فى عصره ويفتك بالديانات وخاصة المسيحية التى رأى فيها انحطاطا وخذلانا، وأنها هي سبب شرور العالم، وينتقد السياسيين ويعصف بكل ماتشتمل عليه كلمة ((سياسة)) من برلمان وساسة وأحزاب وقوانين وثورات، ويحطم عبر مطرقة البلاغة وسندان الرؤية النقدية عادات عصره وتقاليده ويأتى بحملة شعواء من السخرية والتنكيل بأساتذته الجامعيين ومناهج التربية السائدة فى عصره، ويسخر من أفكار كانط وهيجل وأرسطو وسقراط والمدرسة المثالية الألمانية والنخبة المثقفة، بل وتيارات الفن التى كانت آنذاك موجودة بعصره مؤمنا إيمان عميق بأن جميع ماسبق كان هلاكا على إرادة الإنسان وكان سببا فى إنحطاط الفكر الألماني وتعطيل طاقات الإنسان الإبداعية.
ثانيا: الإنسان الأعلى: يؤمن نيتشه بنظرية داروين التطورية ويري أن الجنس البشري حاليا ماهو إلا حلقة تطور نحو ظهور جنس بشري آخر راقي، ونظرا لأن نيتشه كان مُتكمن بشكل رهيب من اللغة ـ فالرجل قد درس فقه اللغة وعلم الفيولوجي فى جامعة بازل وحصل على دكتوراه ثم ترقي إلى دكتور جامعي ـ فقد نحت لنفسه مصطلح جديد فى اللغة الألمانية أختلف الكثير فى ترجمته، تارة (بالإنسان الأعلى) وتارة (السوبرمان) وتارة (بالأنسان الأرقى) وتارة (مافوق انسان) وأيا كانت الترجمة فقد آمن نيتشه بضرورة ظهور جنس بشري آخر خال من جميع سوءآت الجنس البشري الحاضر، متحررا من جميع الأيدولوجيات والأديان وليس له إمام سوي إرادته ومن خلال الأخيرة سيصنع مجده بل ويكتشف (خيره وشره)، فقد كان نيتشه يكره فكرة الخير والشر معتبرا إياها (وهم قديم) حيث الإنسان هو من يُحدد خيره وشره معتمدا على ما يسميه ( إرادة القوة) فى خلق المفاهيم والقيم والمُثُل وكما كانت تلك القيم تُلائم حاجة الإنسان فى وقت أو عصر ما فعلى الإنسان أن يُبدع قيم ومُثل تلائم وضعه الجديد فلا حدود لإرادة القوة، ومن سمات هذا الإنسان أنه مُخلص كأشد ما يكون الإخلاص للمعرفة والفن والإقبال على الحياة وأن لا يكتفي بصناعه أمجاده وإرادته، بل يتجاوزها إلى ما هو أرقى منها باعتبار أن إرادة القوة هى من تخلق تلك الأمجاد مؤمنا بأن الإرادة و الألم ـ والذى كان يُبجله نيتشه كثيرا ويرى أنه بمثابة وقود أحفوري من خلاله تستطيع أن تُنجز وتُسَخّر وتصنع مايتجاوز جميع خيال الشعراء ــ هما الحق اللذان لا يجب أن  تُقيدهم  نصوص أو عقائد أو طوطم أو أى مُنتج من مُنتجات الحضارة والفلسفات الوضعية التى رأى فيها نيتشه إنحطاط وتعطيل لما فى الإنسان من الأشياء السامية وتحديدا (( الإرادة))
ثالثا: العود الأبدي: يؤمن نيتشه إيمانا عميقا بمقولة الفيلسوف اليوناني هيراقليطس (إنك لا تضع قدمك فى النهر مرتين) أى الإيمان بالصيرورة وأنه لا شئ ثابت ولا شئ يبقى على حاله، فالتغيّر هو الشئ الوحيد الثابت وتوسع نيتشه فى مفهومه إلى درجة أقر فيها البعض  ـ حتى من شيعته ـ بالتناقض، ففي الجزء الرابع من الكتاب يتحدث زرادشت مع الظل  الذى كان يصاحبه بأن كل ماكان سيكون وكل ماحدث فى الماضي سيتكرر بنفس أحداثه فى المستقبل، بل وحتى وقوفه وحديثه مع الناس ومع الظل سيتكرر مرة أخرى فى المستقبل وأن جميع الأحداث الماضية ستُعاد بنفس أحداثها دون أدني تغيير ومن مات سيُبعث مرة أخرى ليُكرر نفس ما قد فعله حين كان حي، فلا ماضي أو مستقبل أو (( الآن)) بل صيرورة دائمة وتكرار أبدي مُلازم للإنسان، الأمر الذى أوقع الجميع فى حيرة تجاه هذا المبدأ والذي رأى البعض أنه ينسف مفهوم الإرادة من جذوره، إلا أن نيتشه ـ والمتابع لأعماله بشكل عام ـ لم يكن يهتم كثيرا بتفسير أفكاره ودحض أى فكرة مضادة قد تلوح في أفق الأفكار الجديدة، فإخلاصه لتلك الفكرة جعله يؤمن بها، ويهتم بشرحها وتوضيح جنباتها أكثر من الإهتمام بالنظر لمثالبها
رابعا: اللغة: من يقرأ هذا الكتاب يُدرك أن هذا الرجل قد أدرك (الشفرة الجينية) لكتب ونصوص الوحي وقام (بإستنساخ ) جيني  بطفرة وراثية هائلة لهذا يؤمن المُتلقي أنه أمام نص يكاد يكون وحي، وحتى نيتشه نفسه كان يُدرك هذا الأمر ففي الرسالة التى أرسلها للناشر يقول له نيتشه بكل ثقة ( لقد تحديت كُل الأديان ووضعت كتاب ديني جديد) فالكتاب غارق فى جميع أشكال الإستعارات وحيل المجاز والتشبيهات التى تجعل حاجب القارئ يقف زهاء يوم مذهولا دون العودة لموضعه والطباق والجِناس الذى ينشر الربيع فى أغصان القارئ وجميع الميكانيزمات التى تقوم عليها الكتب المُقدسة (القرآن، الإنجيل، التوراة، الفيدا، الإبستاق، إلخ إلخ) والمُذهل فى الأمر أنه برغم جهل نيتشه بالقرآن إلا أن أسلوب ( الآيات المُقطعة) ذات نهايات السجع هو تقريبا البنية الداخلية لكتاب (هكذا تكلم زرادشت) بل وصل إعجاز نيتشه اللغوي إلى أنه نحت مصطلحات خاصة به لم تكن موجودة أصلا فى اللغة الألمانية مما دفع المختصين بنصوصه إلى وضع قاموس خاص به من مجلدين يبلغ الأول 600 صفحة ذكرها  الأستاذ على مصباح فى مقدمة ترجمته بالمصادر فأى عقلية هذه؟ وإلي أى درجة من درجات التمكن من اللغة وصل نيتشه؟ فهذا رجل فاض عن اللغة ولم تستطيع الأخيرة أن تُجاريه أو تلاحقه، وبعقل أقل مايوصف به هو عقل إعجازي أصاب اللغة الألمانية بحمى شوكية فأضحت الأخيرة مشلولة عاجزة عن تلبية حيله اللغوية وهو مادفع الألماني صاحب نوبل للأدب (توماس مان) لأن يقول أن اللغة الألمانية بلغت قمة نضجها مع نيتشه والمشكلة هاهنا أن هذا التغلغل فى رئة اللغة الألمانية أصاب الكثير من القُراء بالربو فزهدوا فى قراءته وآمنوا بعقم تنسم هواء جبال نيتشه  بما فيهم الألمان أنفسهم ولا عجب أن يتم تجاهل الكتاب فى عصر نيتشه قبل أن تظهر العاصفة النيتشوية بعد وفاته وتظهر الحرب العالمية الثانية كأحد أسباب فهم هذا الكتاب ـ وبالمناسبة هو ماتوقعه نيتشه بالأضافة لسلسلة من التنبؤات تحققت بالحرف الواحد بعد وفاته ـ ولهذا أقول لمن لم يقرأ نيتشه عليك أن تذهب للأخير بعد سياحة وتجوال فى الفلسفة وكتب علم النفس والأجتماع وعلوم اللغويات والأدب وشئ من العلوم الطبيعية ثم تبدأ بقراءة هكذا تكلم زرادشت وليس العكس فهو وإن كان كما قال نيتشه ( كتاب للجميع) فهو أيضا قال ( وليس لأحد) والمعنى أن الكتاب ظاهره نص أدبي رشيق مُعتق بالحيل البلاغية فهو يصلح للجميع كأى رواية يُقبل عليها من يُحب قراءة الأدب ولكنه فى نفس الوقت ( ليس لأحد) إذا أن فئة معينة فقط هم من سيستطيعون الثبات فوق المعنى الباطني للنص بعد أن قام نيتشه بهز الصفائح التكتونية للنص فغدا هناك نص للجميع ظاهري وطبقة جيولوجية باطنية مُعتقة بأحافير معاني نيتشه  والتى لن يفهمها من أعتاد النوم والركض فوق أراضي البساتين.

وفي النهاية أقول: من سيفهم نيتشه حق فهمه سُيصيبُه ما آصاب الشخص الذى تجرع كوب عسل شديد الحلاوة حُرقة شديدة فى الابتلاع لكنها من شدة الحلاوة، وقطعا لن يستطيع تذوق أى شئ آخر وهل بعد أكل العسل يُستساغ أكل الخُبز؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق