الخميس، أغسطس 02، 2012

من يومياتي في ألمانيا ( برلين 9 )



تركت هذه القاعة، ثم دخلت قاعة أخرى بجوارها، وما أن دبت قدماي بداخلها حتى وجدت شئيا عجيبا مدهشا، يا الله ما هذا؟ إنه شارع الموكب، حملوه أيضا من العراق... يا للجمال، والدقة ،والإبداع! وهنا لم أعد أحتمل، فأخرجت كاميرتي ثم التقطت لها صورة من دون مراعاة للوعد الذي أخذته على نفسي، وما هي إلا ثوان معدودات حتى جاءتني السيدة مرة أخرى، ومن دون أن تنطق بكلمة من التى تقال كثيرا في هذا المناسبات عندنا  في مصر من قبيل" أنا مش حذرتك أنا مش قلتلك انت ما بتفهمش انت .."  قلت لها أنا آسف جدا فأصدقائي في مصر لن يصدقوا أنني زرت هذا المتحف إلا بعد أن يروا صورا له. قالت لي: ياسيدي هذه تعليمات، وعليك أن تتبعها، لأن هذا الفلاش يضر بهذه اللوحات وبهذه الآثار. لم أشأ أن أطيل معها الحوار، فقد وجدت في عينيها جدية قد تؤدي إلى اتخاذ إجراءات ربما لا تعجبني، لذا آثرت السلامة والسكوت.



تركتني ثم تركتها وتركت المكان، ثم ذهبت إلى قاعة أخرى مهمة إن لم تكن هي الأهم على الإطلاق وفقد سمي هذا المتحف باسمها، إنها قاعة مذبح برجامون. ومذبح برجامون هذا من العصر الإغريقي عثر عليه في تركيا ويزيد عمره على 2000 سنة، وهو تذكار كبير يتكون من آلاف القطع المرصوصة إلى جانب بعضها البعض. ويعتبر هذا المذبح المعلم الأكبر والأكثر اجتذاباً للزوار في "جزيرة المتاحف". جزيرة المتاحف تأثرني... ترى لو قامت حكومنا بعمل مثل هذه المتاحف في  جزيرة  من الجزر الكثيرة التي يزخر بها نيلنا ألم تكن أفضل؟!! نحن لم نعدم الجزر ولم نعدم الأثار ولكننا عدمنا الإرادة وعدمنا الجمال...

غادرت هذا المتحف مضطرا فالوقت يمضي سريعا وما زال أمامي متحفين لم أزرهما بعد، والساعة قاربت على الثانية ظهرا والمتاحف تغلق أبوابها في الرابعة. وبسرعة البرق دخلت إلى"المتحف الوطني القديم" وهو أشبه ما يكون بالمعبد، وهو بحق يزخر بالعديد من الرسومات الشهيرة على المستوى العالمي لفنانين من أمثال الرومانسي المعروف "كاسبار دافيد فريدريش." خلي بالك من فريدريش دا ورانا ورانا".

خرجت من هذا المتحف مجهدا متعبا، وفي حاجة ماسة إلى الراحة ولو لبضع دقائق ألتقط فيها أنفاسي، فمازالت معدتي خاوية على عروشها، فلم أتناول سوى القهوة والتفاحة... ولكنها القشعريرة التي ما زالت تدب في جسدي ياعزيزي. و قد زاد من إجهادي ومن تعبي ذلك المنظر الخلاب الذي يخطف الأبصار ويذهب بالعقول، إنها "حديقة المتعة" بالألمانية "لوست جارتن" التي تمثل واحة صغيرة خضراء تنتشر فيها النوافير ومقاعد الجلوس، كما يغطي أرضها عشب ناعم يدعوك للجلوس والاستمتاع بالأجواء الجميلة في أحضان الطبيعة،، وأنا عاشق بطبعي للطبيعة، لذا تركت المقاعد وألقيت بجسدي على العشب الأخضر الناعم ثم رحت في سكرة عميقة. وما أحلاها!

 تذكرت فريدريش، وتذكرت معه الحشيش، ثم سخرت من نفسي عندما وقفت تحت لوحة ماكدونالدز، و احتقرت نفسي وأنا أركب القطار بتذكرة منتهية الصلاحية، وتأملت قليلا في قبة البرلمان الزجاجية ، ترى لماذا كان التصميم بالزجاج؟ربما أرادوها شفافة مثل ديمقراطيتهم أو هكذا أرادوا أن تكون ديمقراطيتهم.... وتأسفت على فراقك يا فريدريش.

نظرت في الساعة فإذا بها قد تخطت الثالثة ببضع دقائق، فقمت من فوري أسأل عن مكان المتحف المصري الذي به نفرتيتي، فهو الوحيد الذي تبقى من دون زيارة، وهو الأهم بالنسبة لي على الإطلاق. وكانت المفاجأه فالمتحف ليس موجودا بالقرب من جزيرة المتاحف!! عرفت بعد ذلك أنه يبتعد عن المكان الذي أقف فيه بحوالي ثلث الساعة بالأتوبيس. يا للهول!! ماذا أصنع؟ وهل لو ركبت الأتوبيس سألحق المتحف قبل إغلاقه؟ كم أنا غبي وكسول!! انطلقت بسرعة الريح نحو محطة الأتوبيس، ولما وصلت إليها سألت الناس عن أي الأتوبيسات أركب؟ فدلني أحدهم على رقمه، وما أن التفت خلفي حتى وجدته قد وصل المحطة! أههه أنا لم أشتري التذكرة بعد، ماذا أفعل؟؟ لو ذهبت لأشتريها من الماكينة سأتأخر، وسيغادرالأتوبيس المحطة وسأضطر للانتظار!! وهنا جائني إبليس للمرة الثانية يراودني عن التذكرة ... كلا لن أركب من دون تذكرة هكذا كان جوابي لإبليس على وسوسته إياي ثم  رميته باللعنات، وجريت نحو ماكينة التذاكر، وقذفت فيها بالاثنين يورو ونصف، ثم ضغطت على زر المكان فنزلت لي التذكرة  ووجدت الأتوبيس يتهيأ للإنطلاق فصرخت بأعلى صوتي انتطر اننتطر!! وانتظرني السائق على غير العادة، وانتصرت على الشيطان.



 نزلت من الأتوبيس وما هي إلا بضعة أمتار حتى شاهدت لوحة قد رسمت فيها صورة المكلة المصرية نفرتيتي ومكتوب أسفلها "المتحف المصري" وقد رسم سهما يشير نحو الإتجاه داخل شارع جانبي. دخلت الشارع وعلى بعد حوالي عشرين مترا وجدت مبني متوسط الحجم، يتكون من طابقين، وقد كتب عليه لافته تقول "المتحف المصري مرحبا بالزائرين". أعطيت التذكرة للموظفة، فأخبرتني بأن موعد إغلاق المتحف بعد نصف ساعة فقط ، قلت لها وعلامات الأسى تكسو وجهي : أعلم ذلك ولكنه الحنين يا سيدتي.



 على بعد خطوات قليلة أبعدتني عن تلك الموظفة وجدتني وقد هبطت درجات ثلاث ثم انحرفت إلى اليمين قليلا لأرى ملكة مصر وقد وقف أمامها جمع من الناس فتحت أفواههم واشرأبت أعناقهم في زهول متأملين تمثالا نصفيا مفقودة إحدى عينية. إنه تمثال الملكة نفرتيتي " جميلة الجميلات".



 ووقفت أنا أيضا.. ولم يكن وقوفي تأملا في التمثال بقدر ما كان تأملا في أولئل البشر المبهورين بحضارتنا فهل نقدر ذلك ؟؟ وسألت نفيسي هل يعلم الناس في مصر أن تمثال نفرتيتي هو أحد أشهر الأعمال الأثرية المصرية القديمة، وأنه تمثال نصفي مدهون من الحجر الجيري عمره أكثر من 3300 عام، نحته النحات المصري تحتمس عام 1345 ق.م تقريبًا، وأن الملكة نفرتيتي هي زوجة  الفرعون المصري إخناتون؟  لقد جعل هذا التمثال من نفرتيتي أحد أشهر نساء العالم القديم، وجعل منها رمزا من رموز الجمال الأنثوىّ البسيط.



عرفت بعد ذلك أن هذا التمثال النصفي للملكة نفرتيتي قد عثر عليه فريق تنقيب ألماني عن الآثار بقيادة عالم المصريات لودفيج بورشاردت في تل العمارنة  في محافظة المنيا بمصر عام 1912. وقد وضع التمثال في عدة مواقع في ألمانيا منذ عثر عليه، بما في ذلك منجم ملح في ميركس- كيسلنباخ، ومتحف داهليم في برلين الغربية، وأخيرا في هذا المتحف في شارلوتنبورغ في برلين.

وهنا أخذ ينتابني شعوران غريبان أحدهما ممزوج بالحزن و المرارة و الألم لعدم وجود هذه الآثار التاريخية النادرة في وطنها الأصلي مصر، والآخر ممزوج بالبهجة و الفرح و السرور بأن هذه الآثار موجودة سالمة معززه مكرمة في هذا المتحف، كي تتطلع عليها وتشاهدها  شعوب العالم الوافدة إلى برلين .

ولقد تغلب شعور البهجة والفرح والسرورعلى الشعور الآخر وذلك عندما رأيت الذهول والإعجاب وقد ارتسم على وجوه الزائرين، وأصابتني حالة من الفخر والافتخار بكوني مصري، وتذكرت ذلك الموقف المشابه لهذا الأمر من شعور بالفخر بمصريتي، عندما دعتني جارتي الصينية في جوتنجن كي أذهب معها إلى الكنيسة  لنقرأونتعرف على الإنجيل. وذهبت معها، ولما دخلنا الكنيسة وكانت أرثوذوكسية، وجدت مجموعة من الرجال والنساء زاد عددهم عن العشرة وقد جلس منهم ثلاثة في زاوية القاعة وفي يد كل منهم آلة موسيقية وأخذوا يعزفون وأخذ الباقون يتناوبون القراءة من العهد القديم ، ثم جاء دوري في القراءة وقرأت صفحة كاملة عددت فيها كلمة "مصر" خمسة عشر مرة !! ياله من أمر يدعو للفخر .. أحسست ساعتها بأنني مميز، وأن بلدي مقدس، وأنني ينبغي أن أحافظ على قدسيته. فخور دوما بمصرتي....



ونلتقي غدا
محمد شحاتة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق