الجمعة، أغسطس 12، 2016

على هامش "لخص كتاب" الموسم الثاني


الدكتور حسام الدين بدر يكتب: السراب لا يروي ظمئا      

يقول الخالق تصويرا لحال المنافقين "يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". (البقرة: 20).
_______
في هذه الآية رسمٌ لملامح المنافقين يتجلى في مشهد يجسد حالة من أمل مفقود ورجاء يودي إلى طريق مسدود. لقد دار في ذهني وأنا اقرأ هذه الآية تلون بعض علماء الدين وتلونهم ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون" (الأنعام: 110)، وهي فئة تتحرق شوقا إلى متاع قليل تافه حقير، فتعرض من أجل هذا بضاعتها من التدليس والتحريف واللبس والتلبيس، ومن خلال حصاد ألسنتها وليّها تتخبط الأذهان، ولا يدرك المتلقي للكلام الحدود بين الغي والحق، فالقائل مفتون والسامع مغبون.
 إن آفة علماء الدين حين نفاقهم تأويل مالا يؤول، فيُعتسف التفسير، ويُزعم من خلال ذلك أن لرأيهم امتداد من نصوص في التراث، وهناك بالطبع سامع، لجهله لا يفرق بين النص والمدلول ، فيحدث الشك والتخبط، ويقع النزاع والخصام بين فئات المجتمع،  فالرب أصبح ربين والقران قرآنين، ولتتحول القبلة إلى قبلتين .
فعل ذلك ذي قبل الذين هادوا "يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِه " (النساء: 46) و "من بعد مواضعه " (المائدة: 41)، ويلبسون الحق بالباطل،  وليّ اللسان ابتغاء مال أو رضى سلطان. وحدث ذلك أيضا ذات مرة بين أروقة الكنيسة في العصور الوسطى، رغم ما ذكر في الكتاب المقدس أن "المنافق يثير الخصومات"!  وما أشبه اليوم بالبارحة ، والفارق اختلاف الأديان.  
سألت نفسي: لماذا يستبدل مثل هؤلاء ــ رغم علمهم الديني ــ الشقاء بالنقاء؛ وهو شقاءٌ بمثابة التردي من الشموخ والعلياء إلى هوة المذلة والازدراء؟ إنها أهوائهم التي تأرجحهم بغية  الوصول إلى  مقاصدهم، بل نراهم يتبجحون ويبررون مسلكهم "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ " (البقرة:11) ، إنه عجز عن مشاهدة النور بعدما نسوا حظاً مما ذكروا به، وأضلهم مسعاهم عن إدراك الحق والحقيقة "وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا " (الكهف: 104).
 جال في خاطري أن البرق ما هو إلا انعكاس لصور الآمال المتوهمة لدى المنافقين ظالمي أنفسهم، ملهاة رغبة في مال مما يميلون إليه من عرض الدنيا، فـ" ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ" (الحجر:3)، يتوهمون أنه سينقذهم من ورطات غبائهم وغيهم في طلب الدنيا، وما البرق إلا سراب ينتهي إلى عذاب، فإن تخيلوا أنهم بذلك ماكرون ، فما أكثر ما تكررت "وما الله بغافل عما يعملون"،  ينبهرون بهذه الآمال يسيرون فيها ، وإذا تبددت قاموا بالبحث عن أوهام (أمال) أخرى إليها يرحلون. إن الحكمة الإلهية في ذلك ما هي إلا استدراج لذليل و"سنستدرجهم من حيث لا يعلمون" (الأعراف: 182)، وتسيير الى محنة لا خروج عنها من سبيل"فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ "(المؤمنون:54)،   والقادر قادر على منعهم حتى بريق البرق المخادع بسلب سمعهم وأبصارهم. يسألني سائل ما ذنب من يفتتن بمثل هؤلاء؟ له حكمته في هذا، اخالها اختبار، لمن رأى ظلم المنافق ولم يُثار، وكان لذلك غير مبال ، أو سكت خِشية على دنيا زوال، أو خيفة من سوء حال.
 بعدما أنفق عالم الدين ما أنفق من نفاقه وبذل من ماء الوجه وإهدار الكرامة، أصبح "يقلب كفيه على ما أنفق" (الكهف: 42)  حينئذ ما لاح إذ لاح إلا سوء المصير، فالخسران يؤكده فرق بين سمع يسمع وسمع يعي، الذين هم عنه "لمعزولون" (الشعراء: 212)،  وبصر يرى وينظر وبصر يدرك  "وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون" (الأعراف: 198). هنا تأتي النهاية ويُسدل الستار، مشهد رحيل العالم المنافق ونفوقه ، فليس ثمة بارقة أمل تلوح أمام أعينه، في إنقاذ متوهم يثبّت أرضا مزلزلة تحت أرجله.

ما أشبه نفاق عالم الدين بالإشراك، فالهدف ارضاء واسترضاء من يهبه العطايا من مال أو جاه، وكلاهما (المشرك وعالم الدين المنافق)" كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ" (الرعد: 14)، إن صورة طلب الماء من بُعد يعكس صورة العيش في خدعة كبريق البرق المخادع، يتعلق به العالم المنافق ، وهو تعلق لا يريد أن ينفك عنه "كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ"، "كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء" (النور: 39)، والسراب لا يروي ظمئا.       


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق