وكان عمرو قد أصهر إلى قيل من أقيال (ملوك) اليمن
يقال له: ذو الشناتر، فظ غليظ القلب، جاف الطبع، سيئ الخلق، مدخول الضمير. على أن
خصاله هذه لم تكد تبدو منه للناس حين كان قيلا من الأقيال لا ينبسط سلطانه إلا
على المخلاف الذي كان يعيش فيه؛ فقد كان ماهرا عظيم المهارة، مداورا شديد
المداورة، يلقى الرجل فيخدعه ويخيل إليه أنه أكرم الناس، وأصدق الناس، وأرحم
الناس، وأوفاهم وأشدهم استقامة واعتدال مزاج. لذلك انخدع فيه أقرانه من الأقيال
(ملوك حمير) و الأذواء (ملوك اليمن)، وحسن فيه رأي تبع حتى قدمه وعظمه واختار
ابنته تماضر زوجا لابنه عمرو. وكانت تماضر بارعة الجمال، ذكية القلب، رضية النفس،
شديدة الحنان، أنكرت في زوجها الغدر ولكنها لم تجروء أن تباديه بهذا
الإنكار.(....) وكان لها صبى لم يبلغ الرابعة، وكان لزوجها أخ لم يبلغ السابعة،
فجمعت أخا زوجها إلى ابنها، وقامت على تربية الطفلين، فمنحتهما من الحب والحنان ما
كان يملأ قلبها الرحب الرقيق (....) ولم تكن تفكر لنفسا ولا لأحد من الصبيين في
ملك ولا وراثة (...) ولكن أباها فكر في الملك لها ولابنها في ظاهر الأمر، وفكر فيه
لنفسه في أقصى ضميره ودخيلة قلبه. وما هي إلا أن أعلن أن حماية الأسرة المالكة قد
صارت إليه، وأنه ناهض بها على أحسن ما ينهض الأوصياء بأمر الذين يقومون عليهم من
القاصرين. وأظهر ذو الشناتر أول أمره سيرة حسنة ونهجا صالحا في الملك (...) فما
أسرع ما قَبِل الإغراء واندفع إلى الطغيان؛ وإذا هو يصطفى لنفسه من الجند والقادة
قوما يؤثرهم بالمودة، ويختصهم بالمعروف، ويسبغ عليهم النعمة ويجزل لهم العطاء، ثم
يستعينهم على غيرهم من الجند والقادة، وما يزال يُغرى ويَغوي، ويمكر ويكيد، حتى
تخلُص له صنعاء وما حولها من الأرض، ثم إذا هو يضرب بمن أطاعه من عصاه، ويبعث
الهيبة والخوف كما يبعث الرغبة والرجاء، حتى يعظم أمره، ويظهر أشراف حمير له
الطاعة إشفاقا منه أو أملا فيه. وأنفق ذو الشناتر أعواما على هذا النحو رفيقا شديد
الرفق بمن رجا منه الخير وانتظر منه النفع، عنيفا شديد العنف على من يئس من نصحه
ولم يتوسم فيه خيرا ولا نفعا، حتى إذا دانت له اليمن كلها، وآمن له العظماء
والأشراف، ولم يبق له بينهم منازع أو مدافع أظهر ما كان قد أخفى من أمره ، وأعلن
ما كان قد كتم من سره، فاغتصب الملك لنفسه خالصا من دون ابنته وسبطه، ومن دون أهل
البيت من أبناء تبع وذويه، وألقى بتماضر والصبيين في قصر بعيد هو بالسجن أشبه منه
بالقصر، وأقام عليهم الحراس والرقباء يعدون عليهم ما يقولون وما يعلمون، ويضيّقون
عليهم فيما كان ينبغى أن يتسع لهم من سبل الحياة. وفرغ ذو الشناتر بعد ذلك للأشراف
والعظماء، فأعمل فيهم مكره وكيده، ثم سلط عليهم بطشه وبأسه، وأخذ يطغى عليهم ويسئ
السيرة فيهم (...) ولكن الشباب من أبناء السادة والقادة عجزوا عن ضبط العواطف
والأهواء، وكرهوا عيشة الذل والخضوع، فجمجموا وغمغوا أول الأمر، ثم انطلقت ألسنتهم
بعد ذلك بالنكير واللوم، ثم سعى بعضهم إلى بعض وأخذوا يمكرون ويدبرون. ولكن
الطاغية كان أشد منهم مكرا، وأنفذ منهم أمرا، وأحسن منهم تدبيرا، فما هي إلا أن
يستهوى فريقا منهم بالمال، ويغوي فريقا آخرين بالوعد وإظهار المودة، حتى إذا ظفر
من بعضهم بالطاعة والهوى استعانهم على من لم يظفر به، حتى استقام له أمره، وإذا هو
ينتقم لنفسه من هؤلاء الشباب بما يستطيع أن ينتقم به من ضروب الكيد وألوان
الإذلال. (...) وأفاق ذو الشناتر من سٌكره
ذات يوم، فخطر له على غير انتظار ولا تفكير ذكر ابنته تماضر وابنها عمير وأخى
زوجها زرعه، فلما خطر له ذكرهم في هذا اليوم أنكرهم ثم هابهم، ثم اشتد خوفه مهم
فاشتد مكره بهم وكيده لهم. ولم يحتج إلى تدبير طويل، حتى استقر رأيه على أن يخلص
منهم ويزيلهم من طريقه. وما هو إلا يوم أو بعض يوم حتى أُنفذ أمر الملك، فرأت تماضر
ابنها يٌصرع بين يديها، ورأى زُرعة ابن أخيه وأمه الثانية يقتلان بمرأى منه،
وانتظر أن يسعى إلى الموت، ولكن الموت أعرض عنه، ولم يسع إليه إلا القيد والغل!
فلما انتهى الفتى إلى القصر وأدخل على الملك، فهش
له الملك وبش، وتلقاه بالعطف والبر، ثم دعاه فما يزال يلاطفه ويؤنسه ويؤكد له أنه
لا يريد به إلا خيرا، ولا يعد له إلا نعيما وملكا عظيما، وأنه لم يفعل ما فعل ولم
يجن ما جنى إلا ليخلص ملك تبع لابن تبع.(...) وإنما هي أعوام أهيئك فيها للنهوض
بأمر الملك، وأعلمك فيها مالم تعلم في أعماق ذلك القصر، وأقربك فيها إلى الجند
والعظماء (...) وأصبح ذو الشناتر ذات يوم وقد هم بأمر عظيم. وأصبح الفتى ذلك اليوم
وقد تهيأ لأمر عظيم، وما ارتفع الضحى حتى أقبل رسول الملك يدعو الفتى إلى منادمته،
فأظهر الفتى طاعة سريعة واستجابة ليس فيها تردد ولا التواء. حتى إذا بلغ مجلس
الملك حيا فأحسن التحية، ثم هم الشيخ بأمر، وأقدم الفتى على أمر وانصرف الفتى بعد
ساعة، فلما كان من غد كان زرعة قد جلس على عرش تبع، وتسمى يوسف، وتلقب ذانواس.
( من كتاب على هامش السيرة لـ طه حسين)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق