وفجأة توقف
المترو أمامي، وفتحت أبوابه ولم أكن قد أشتريت التذكرة بعد، فقد شغلني جدالي مع
الشيطان حتى جاء القطار. ولما سمعت صافرة الأبواب تنذر بالإغلاق، وجدتني أرمي
بنفسي داخل المترو وما هي إلا ثوان حتى وجدت رجلا يرتدي بدلة سوداء من دون كرفتة
يقترب مني ويسألني: هل يمكنني أن أرى تذكرتك؟!
تذكرتي؟!كدت أن
أقول له يبدوا أنك قد سمعت الحوار الذي دار بيني وبين إبليس!! إلا أنني حاولت أن
أتظاهر بالهدوء والثبات، وأن أبتعد عن أي توتر أوعن أي شئ قد يثير الشك والريبة،
ومن ثم فقد أخرجت التذكرة وأعطيتها إياه. أخذها مني وألقى فيها بنظرة متفحصة ثم
قال:- أنت قد تخطيت المدة المسموح لك بها في هذه التذكرة. قلت له مستفهما:- حقيقي؟
ثم استدركت بقولي: عفوا فأنا غريب واليوم هو الأول لي هنا في برلين، ولم أكن أعلم
بهذا الأمر.
نظر الرجل إلي
نظرة بها كثير من الشفقة، أو ربما كان بها كثير من الإحتقار "الله
أعلم"، ثم ردها إلي قائلا: أرجو أن تنتبه بعد ذلك، ثم أشار بيده ناحية لوحة
معلقة بجوار باب المترو، وقال: من فضلك اقرأ هذه اللوحة جيدا! ثم انصرف. وهنا شعرت
أن كل الناس يحدقون في، فأخذ جسدي يتصبب عرقا وشعرت بالإحراج، وفي محاولة لتغيير
هذا الموقف اقتربت من اللوحة التي أشار على الرجل بقرائتها ثم قرأت ما يلي:
"تحذير
هام: لكل من تسول له نفسة "ويستعبط ويستهبل"ويستقل القطار من دون تذكرة
أو بتذكرة منتهية الصلاحية "وأحسست ان التحذير يقول لي فاهم ياله"،
فعقوبته أن يدفع 40 يورو. قلت لنفسي "طب ما أنا عارف المعلومة دي من
زماااان".
وعند أول محطة
وقف فيها القطار نزلت من فوري، فإحساسي بأن نظرات الناس تحاصرني جعلني لا أطيق
البقاء.
نزلت من المحطة
ولسان حالي يقول: "تبا لك يا إبليس فلقد أخرجتني من المترو كما أخرجت أبوي من
الجنة". أعدك ألا يتكرر هذا الأمر بعد ذلك لن تنتنصر علي بعد الآن.
خرجت من بوابة
محطة المترو بعد أن سألت في الاستعلامات عن أقصر الطرق للوصول إلى جزيرة المتاحف.
أين أنت يا فريدرش لم أكن في حاجة لكي أسأل الناس لقد كنت أنت مرشدي.
كثيرون هم من
سألتهم أين تقع جزيرة المتاحف؟ واتفقت إجاباتهم على أنها لا تبعد كثيرا عن المكان
الذي أقف فيه وأن من علاماتها أنني سأجد مبنا ضخما يشبه سفينة عملاقة يحيط به
الماء من ثلاث جهات. ولما أشرفت على الاقتراب من جزيرة المتاحف بدا
لي المكان أشبه ما يكون بسفينة عملاقة تنتطرني. وصلت إلى الجسر الذي
يؤدي إلى جزيرة المتاحف التي يوجد بها خمسة متاحف مجتمعين وسألت للمرة العشرين عن
شباك التذاكر فدلوني إليه ولما وقفت أمام الموظفة ، قامت بتعريفي بالمتاحف الخمسة
قائلة هذه الجزيرة تضم خمسة متاحف هي :-
"متحف
بوده"، "متحف بيرجامون"،"المتحف الحديث"، "المعرض
الوطني للتراث" و "المتحف القديم". ويمكننك زيارتها جميعها بجانب
زيارة المتحف المصري الذي توجد به رأس نفرتيني بتذكرة واحدة ثمنها ستة يوروهات وفي
حالة ما إذا كنت طالب فستدفع ثلاثة يوروهات فقط. قلت لها على الفور أنا طالب
وأخرجت لها ما يثبت ذلك، فأعطتني التذكرة من فئة الثلاثة يوروهات.
سعدت جدا أنني
طالب، وسعدت أكثر لأنني سأدخل متاحف كثيرة في يوم واحد.... لقد عاد النشاط إلي
جسدي ... حتما سأشاهد كل هذه المتاحف... إنها فرصة لن تتكرر.
دخلت متحف بودة
فأعطتني موظفة الإستقبال جهازا به سماعة، ثم قالت لي إن هذا الجهاز هو مرشدك داخل
المتحف، فيمكنك اختيار اللغة التي تود أن تسمع الشرح بها وما عليك إلا أن تدخل
الرقم المكتوب على الأثر أو التمثال أو اللوحة في هذا الجهاز، وسيبدأ الجهاز على
الفور بتقديم شرح كاف وواف لما تريد معرفته.. إنه المرشد الإلكتروني .. يا سلام
على ألمانيا ومتاحف ألمانيا.
أخذت الجهاز
وبدأت أبحث عن لغتي العربية فلم أجدها بين اللغات المعروضة، فهناك الألمانية وهناك
الإنجليزية ثم الفرنسية والإسبانية وكذلك الصينية . وعلى الرغم من وجود آثارا
كثيرة من بلدان عربية إلا أن الشرح باللغة العربية لم يكن موجود!!
أول ما دخلت من
المتاحف كان المتحف القديم والذي بني ما بين عامي 1825 وعام 1830 وقد بناه المهندس
فريدريش شينكل ( غريبة معظم المهندسين اسمهم فريدريش) أين أنت يا فريدريش!!
هذا المتحف
القديم ( بالمناسبة أول ما بني كان اسمه المتحف الجديد) يضم بين أركانه آلاف القطع
الأثرية لعصور قديمة من معظم أنحاء العالم وقد وجدت فيه آثارا فرعونية.
بعد ذلك دخلت
متحف بودة "نسبة للمهندس الذي قام بترميمة " وما أدراك ما متحف بودة إنه
يعتبر بحق لؤلؤة في سماء برلين وشاهد على التاريخ والحضارة حيث أنه يوجد به
منحوتات ورسومات فنية تؤرخ لعصور مختلفة. كما أنه يؤرخ لضرب النقود عبر التاريخ في
مجموعة نقدية تعد الأهم في العالم.
وأجمل ما
أبهرني في هذا المتحف هذا التفنن والإبداع في اختيار أجمل المواقع وأكثرها روعة،
وأبدعها إضاءة لعرض المنحوتات في صالات المحف " ياسلام ناس عندها حس عالي جدا، فالأسطح الخشبية
والرسومات على الجدران تزيد المكان روعة وتألقا، وتجعل من التاريخ وكأنه قد ولد
وقد بعث من جديد.
ويزداد المشهد
جمالا من خلال القطع الأثرية التي تؤرخ لعصور وأزمان مختلفة ومتباعدة تتوزع ما بين
عصر النهضة والعصر الباروكي والعصر الكلاسيكي.(أنا أعشق المتاحف ) ويبلغ عدد القطع
المعروضة في هذا المتحف حوالي 1700 قطعة منذ البدايات الأولى للعصور الوسطى وحتى
نهاية القرن الثامن عشر.
انتهيت من زيارة هذا المتحف وعز على فراقه، وما كان من شئ ليعوضني عن فراق هذا المتحف سوى دخولي "متحف بيرجامون" فقد هالني ما رأيته بوابة كبيرة جدا كتب عليها باب عشتار من العراق. ياالله ما هذا الجمال وما هذا الإبداع والدقة اللانهائية..لم أقاوم نفسي وأخرجت من حقيبتي بكاميرتي المتواضعة، ثم التقط لها صورة على الفور. وما هي إلا ثانية أو أقل حتى وجدت سيدة تقف بجواري وتقول لي عفوا فالتصوير بالفلاش هنا ممنوع وإن كنت تريد أن تصور فينبغي عليك أن تغلق الفلاش. تأسفت لها ثم وعدتها أن أتبع ما قالته لي. " تساءلت في نفسي وما سيضر إن كنت أقوم بالتصوير بالفلاش أو بغيره وأساسا كاميرتي من النوع الردئ الرخيص الذي لا يوجد به سوى الفلاش.. ياعم سيبها على الله"
جلست قليلا أمام بوابة عشتار ثم أدخلت الرقم المدون عليها على لوحة مرشدي
الإلكتروني فعرفت ما يلي:-
"تعد
بوابة عشتار في بابل البوابة الرئيسية لسور المدينة الداخلي، وهذه البوابة كانت
مدخل المدينة من ناحيتها الشمالية. وتقع بامتداد الجانب الشمالي من القلعة
الجنوبية وتشمل النقطة التي يتوغل منها الى شارع الموكب. ويعود تاريخ بناءها الى
ما قبل حكم نبوخذنصر(604-562) قبل الميلاد. ولما جاء نبوخذنصر أعاد بنائها ، بحيث
اصبحت اكثر اتقانا واحكاما، فقد زين البوابة بالثيران وبالطابوق المصقول المطلي،
ووضع ابوابها بعد ان غطاها بالنحاس وثبت فيها مغاليق ومفاصل من البرونز. "
والحق يقال
بأنني كدت أن أجن فكيف لهم أن يأتوا بهذه البوابة الضخمة ويضعوها في هذا المتحف ،
إلا أن الإنسان دائما عدو ما يجهل، فبعد البحث والفحص والتمحييص عرفت أن سبب وجود
آثار بابل في برلين يعود إلى اتفاقية أبرمتها ألمانيا القيصرية مع الحكومة
العثمانية عام 1899، وعلى أثر الاكتشافات التي حققها الباحث الألماني روبرت
كولدوي، فقد تم نقل السيراميك الملصوق على بوابة عشتار وشارع الموكب بهيئة حطام
إلى برلين، ثم قام العلماء على مدى سنوات بترتيب القطع وإخراجها بهذا الشكل الحالى.
تركت هذه
القاعة ثم دخلت قاعة أخرى بجوارها وما أن دبت قدماي بداخلها حتى وجدت شئيا عجيبا
مدهشا، يا الله ما هذا إنه شارع الموكب، حملوه أيضا من العراق. يا للجمال والدقة
والإبداع. وهنا لم أعد أحتمل، فأخرجت كاميرتي ثم التقطت لها صورة دون مراعاة للوعد
الذي أخذته على نفسي، وما هي إلا ثواني وجاءتني السيدة مرة أخرى.
وغدا نلتقي
محمد شحاتة