الربيع العربي
في برلين
1)
إضراب
المضيفين الجوويين
الجمعة : 7 سبتمبر 2012
أول ما وقعت
عليه عيناي من الأخبار في صباح هذا اليوم كان ذلك الخبر المنشور في اليوم السابع
تحت عنوان ( المضيفون الجوويون لمصرللطيران يضربون عن العمل) نزل الخبر على رأسي
وعقلي وقلبي كالصاعقة، ففي صباح الغد
سأسافر إلى برلين على متن خط من هذه الخطوط!! ومن ساعتها بل ومن لحظتها وأنا أتابع
جميع الأخبار المتعلقة بهذا الإضراب، والتطورات التي طرأت عليه، ولم يجد جديد حتى
قمت لأداء صلاة الجمعة في المسجد، وبعد عودتي قرأت خبرا
آخرا يقول (الإضراب ما يزال قائما وخسائر الشركة تقدر بالملايين) ثم تبعه خبر آخر يقول: (
تكدس كبير في صالات السفر بسبب إضراب المضييفين).. بعد ذلك صليت العصر وظلت الأنباء
تشير على أنه لا يوجد بوادر لحد هذه الأزمة..
مصر للطيران
تضرب قبل سفري بيوم واحد ، تركوا ثلاثمائة وأربع وستون يوما من دون إضراب، ثم جاءوا
ليضربوا قبل سفري بيوم واحد!!! شئ يدعوا بأدنى شك للتفاؤول!
خبر صغيراعتبرته بمثابة بشارة خير، فالخبر يؤكد على أن شركة مصر للطيران قد استأجرت ثلاث طائرات لنقل الركاب
إلى دول عربية .. "عربية عربية بس أهم حاجة إن فيه حل"... بعدها بقليل جاء خبر آخر
يقول: (المضربون يعلقون من إضرابهم ليوم الأحد)... هييييييييييييييه يا مسهل!
تيقيت يقينا
لا يساوره شك من أن رحلتي غدا - وإن قدر لها بالتمام - فستتأخر حتما لبضع ساعات، إن
لم تصل إلى يوم كامل.
**********
انشغلت في
ترتيب حقيبتي وتذكرت أن حذائى الذي اشتريته بالأمس يلزمنى تغيره بحذاء أوسع منه
درجة، لذا أخذته وذهبت إلى المحل الذي اشتريته منه، ولما دخلت على الرجل ورأى ما
بيدي اكفهر وجهه ثم قال: نعم " بفتح النون وزيادة خمس ألفات بعد النون يعني ناااااااعم! قلت له عفوا أريد
أن أغير هذا الحذاء بأوسع منه درجة، فأخذه مني ثم نظر فيه وقال: انظر لقد تم استخدامه،
فكيف لي أن أعرضه ثانية للبيع؟! قلت له أنا لم أستخدمه، فقط خرجت به من عندك وما
هي إلا بضعة أمتار حتى استوقفت ميكروباصا فركبت فيه، ثم شعرت بضيقه على قدمى، فلما نزلت خلعته
ولبست حذائي القديم، فهل هذا يعد استعمالا؟!! ثم قلت له إنني لا أريد استرجاع
نقودي، فقط أريد استبداله بآخر! نظرإلى الرجل صاحب الذبيبة السوداء على جبهته ثم قال بصوت
متحشرج به كثير من السلبطة: ( ما تحسسنيش بالذنب) قلت له: إذا دع هذا الحذاء عندك لأني
ببساطه لن ألبسه، إنه سوف يجرح قدمي ! وجاء زميلة في المحل وأخذ يقلب في الحذاء
دونما كلام... وواصل الرجل صاحب الذبيبة السوداء تكرار جملته (ما تحسسنيش بالذنب)
ثم استطرد سلبطته بقوله ( طب أعمل إيه شوف حضرتك، وأحضر حذاءا آخرا وقال لي: انظر حضرتك
الفارق، هذا الحذاء لم يستعمل نعله بعد ، ثم
قارنه بنعل حذائك!) ... فقلت له سلام.. وانصرفت
عدت بحذائي الجديد الضيق وأنا
حزين فأشد الأشياء ضيقا على الإطلاق بعد الهم ، هو ضيق الحذاء. وضيق الحذاء كفيل
أن يجعلك تنسى كافه الهموم لتشتغل به وحده.
تذكرت طريقة
لتوسعة الحذاء الضيق فلم أجد من سواها حل أمامي . الطريقة باختصار هي عبارة عن إحضار كيس
بلاستيكي وملؤه بالماء، ثم وضع الكيس داخل الحذاء الضيق ومن ثم تركه في فريزر الثلاجة حتى
يتجمد الماء بداخله، فتكبر كتلته ثم فيتسع معها الحذاء... المشكله في تطبيق هذه
الطريقة كانت في ضيق الوقت!!
*****
توقفت أخبار الإضراب عند آخر خبر كنت قد
قرأته قبل نزولي لتغيير الحذاء والذي كان يقول: ( تم تعليق الإضراب حتى يوم الأحد) ودخلت الانترنت ثم أخذت أتبادل
الحديث على الفيس بوك مع أصدقاء المنحة الذين سيسافرون معي في الغد إلى برلين على
خطوط مصر للطيران. وبدأت في تلطيف الجو المشحون بالكآبة والحزن والخوف من تجدد
الإضراب وعدم السفر أو التأخير أو التأجيل
أو أو .. وكتبت لهم ( ياجماعة تفائلوا خيرا فمصر للطيران شركة وطنية تعمل
في خدمة هذا الوطن، ففي حالة التأخير - لا قدر الله - ستصرف لنا الشركة ثلاثة عشر ملعقة من الأرز
الأبيض المسلوق وربع دجاجة نصف سوى ورغيف خبز مدعم. أما في حالة التأجيل فستصرف لنا
بطانية صوف صناعة الجيش المصري! (تفائلوا بالخير تجدوه) وضحك الجميع وضحكت معهم..
نمت وكلي تفاؤل وثقة في قضاء الله . كان
النوم متقطعا به فواصل عدة وأرق مع شيء من قلق قليل.. استقيظ فصليت الفجر في
المسجد ثم حزمت حقيبتي وتوكلت على الله. نزلت إلى الشارع وقررت أن أذهب
بالميكروباص وليس بالتاكسي. أخذت مكانين وضعت حقائبي في مكان وجلست بجوارها، وما أن
وصلت إلى رمسيس حتى استبدلت الميكروباص بأتوبيس 111 الذي يتجه مباشرة من شارع صلاح
سالم وصولا إلى المطار.. وهنا وجب على أن أنبه بأنني لم أخذ تاكسي لا بخلا ولا فقرا؛
ولكني تركته لحاجه في صدري؛ ألا هي معاقبة نفسى لما بدر منها من عُجب وفخر، فقد روادني بالأمس
شعور بأنني أفضل من أناس كثيرون، وأنني سوف أسافر إلى ألمانيا وسأدخل البرلمان
الألماني وسيقابلني رئيسه ونوابه.. لذا كان لزاما على أن أؤدب نفسي حتى تعود وتعرف قدرها؛
فما من فضل هي فيه لا يعود إليها؛ بل يعود إلى خالقها...
لم تكن هناك مشكله في الميكروباص، المشكلة
كلها كانت في أتوبيس 111 ، فلقد كان مزدحما للغاية مما اضطرني أن أندس بين الواقفيين تاركا واحدة من حقائبي
لأحدهم فرماها بجواره ووقفت أراقبها من بعيد فتارة ألمحها وتارة أخرى لم أتمكن من رؤيتها.. وقد كان العقاب
قاسيا!!
وصلت صالة السفر من خلال القطار الذي يربط
بين صالتي 2،3 وتعجبت من صنع قطار معلق تبلغ تكلفته الملايين في حين أن المناطق
المزدحمة بالبشر يشتاقون لتوكتوك معلق!
زحام شديد في صالة السفر نتيجة تكدس المئات
بحقائبهم راجين الله عز وجل أن يساعدهم على تخطي هذه المحنة، وأن يعيد الرشد إلى
المضيفين حتى لا يعاودوا الإضراب..
وبصعوبة بالغة وصلت إلى المكان الذي يقف فيه
أحمد مسعد زميلي في المنحة . وقفنا في طابور طويل بطيئة حركته وكثير ناسه.. وبينما
نحن وقوف فإذا بامرأة قصيرة منحنية الظهر قليلا، ترتدي حجابا أشبه بحجاب الأتراك
أو الأردنيين وتحدثت إلي بلهجة أقرب للهجة الخليجية منها للهجة المصرية وقالت لي
" هل تسمح أن تأخذ حقيبة من حقائبي لتخفف الوزن عني؟ قلت لها ليست لدي مشكلة
إن كان وزن حقائبي لن يتخطى الوزن المتاح، ثم سألتها مازحا هل هذه الحقيبة بها شئ
ممنوع مثل الهرويين أو الحشيش؟! فانزعجت المرأة وقالت لا لا أنا فلسطينية من غزة
ومسافرة إلى ألمانيا. فواصلت المزاح معها بقولى: إذا هذه الحقيبة بها أسلحة أو
قنابل! وهنا ضحكت المرأة وضحكنا سويا..
قال لي أحمد ماذا فعلت؟ أليس في ذلك مخاطرة ؟
أنت لا تعرف هذه المرأة ولا تعرف ما ورائها وهل هي صادقة أم كاذبة؟! قلت له إن
المرأة طلبت المساعدة ولا يبدوا من هيئتها شئ يدعوا الشك أو يثير الريية ثم ألم تعد هناك
مرؤة؟؟ وذكرت له الحديث الشريف الذي يقول " كان الله في عون العبد ما دام
العبد في عون أخية "
ولا شك في أن في ذلك من المخاطرة ما يدعوني
لأتدبر الأمر أكثر وأكثر، فماذا لو حدث الأسوأ وكان في الحقيبة ما هو ممنوع؟! وعندها
تخيلت المتفجرات مثالا لذلك.
أحمد مسعد
قلت لأحمد مازحا " ياللا ياعم أحمد خلّي
الواحد يتشهر.. ساعتها ها يقولوا محاولة مصرية لتفجير البرلمان الألماني بالتعاون
مع عناصر من غزة...وستتوتر العلاقات الألمانية المصرية، وستوضع صوري على صفحات
الجرائد والصحف العالمية، وسيتردد إسمي كثيرا على الجزيرة وقناة الفراعيين، وسيخرج
رئيس البرلمان الألماني ليعتذر للشعب الألماني عن سوء الإختيار، وستخرج عشرات
الإشاعات، فستذكر "المصري اليوم" علاقتي بالتنظيم الدولي للإخوان
المسلمين، وستتحدث اليوم السابع عن سر اختياري لمرسي في الانتخابات الرئاسية ،
وستتبرأ مني ساعتها يا أحمد"! ضحك
أحمد وقال: طبعا....
وبينما كنا نتبادل الضحكات التفت فجأة ناحية
الكاونتر الذي كانت تقف أمامه السيدة الغزاوية فلم أجدها... اختفت... تركت لي
الحقيبة واختفت... عاودت النظر مرة أخرى، أدرت بصري في الصالة المكتظة بالبشر فلم
أجدها ولم أعثر لها على أثر... وازداد الشك!
في هذه الأثناء اتصل رامز "صديق آخر في
المنحة" بأحمد وأخبره بأنه يقف في الطابور الذي نقف فيه. استأذن مني أحمد
ليسلم على رامز، وتركني أتلفت حولي فربما أرى للمرأة خيالا أو أثرا...
ماذا عساني أن أفعل بهذه الحقيبة، هل أتركها
وشأنها، وماذا لو فعلت ذلك، فهل سيعدّ هذا
نقضا للعهد أو خيانة للأمانة؟!
الطابور يتحرك ببطيء شديد، يشبه في بطئه بطء
النملة سوسو، ملحوظة: النملة سوسو هي بطلة الحكايات التي أحكيها قبل النوم لصغيري
أنس. سأفتقدك يا ولدي..
وفي وسط هذا التفكير والشرود والخوف والتأمل
والرجاء والقلق استأذنتني امرأة مصرية كانت تقف أمامي بأن تترك لي جميع حقائبها وولدها
الصغير " العفريت " ذو السنوات الخمس لتذهب بابنها الأصغر إلى الحمام..
فأذنت لها ثم قلت في نفسي "آآه هي كدا
كملت "!!!
وقفت أحرس حقائبي وحقيبة السيدة الغزاوية
بالإضافة إلى حقائب السيدة المصرية وابنها عمر. ولم أرى في حياتي طفلا عجيبا مثل هذا الطفل. في البداية حاولت ملاعبته
والتحدث معه فرفض، ثم جلس على الأرض وكان كل همه أن يفتح حقيبتي من خلال القفل ذو
الأرقام السرية. قلت في نفسي " سيبه يلعب، فمستحيل يعرف الرقم السري"
ولكن.... وبعد فترة قصيرة ومحاولات قليلة منه إذا بي أراه ينهض فرحا ليقول "هيييييييه
فتحته"... ونظرت فإذا بالقفل مفتوح!!
عاد أحمد ليجد حقائبي وقد زادت وأن طفلا يلعب في حقيبتي ، فدعى لي بالزيادة ثم أخبرني
بأن رامز يقف في نهاية الطابور وأنه غير متفائل،
فقلت له وأنا كذلك! تكدس الناس رهيب .. هل هذا يوم البعث أم انه يوم
النفور؟!
كانت هذه المرة من المرات النادرة التي أُظهر
فيها عدم تفاؤلي، فطالما كنت أنصح من أجده متشائما بقوله عليه الصلاة والسلام:
"تفاءلوا بالخير تجدوه" والقول المشهور: "كن جميلا تجد الوجود
جميلا"، وأشياء من هذا القبيل... ولكن هذه المرة تختلف
ولقد زاد من عدم تفاؤلي أن وجدت الدكتور محي
"زميل لي في الكلية" يقف على الكاونتر، فاقتربت منه فعلمت أنه قد ألغيت رحلته بالأمس
بسبب الإضراب فاضطر مع ذلك للعودة إلى بيته ليأتي في وقت مبكر من صباح اليوم... ساعتها
تذكرت المثل الشعبي الذي يقول "اللي يشوف بلوة غيره تهون عليه بلوته"
استرها يارب.
انتبهت على صوت شجار لشاب يتوعد ويهدد موظفي
الكاونتر؛ لأنهم يسمحون بدخول من هم ليسوا في الطابور... وصار هرج ومرج وشد وجذب.
فالوسائط ما تزال تعمل والفساد ما يزال متفشيا، وخمسون جنيها يمكنها أن تنقذك من
الوقوف في هذا الطابور... "وكأن ثورة لم تقم"
ولا تزال السيدة الغزاوية مختفية، وما تزال
الشكوك تراودني والخوف يملؤني... وسرعان ما عادت السيدة المصرية ومعها طفلها
الصغير، فرددت إليها أمانتها من الحقائب، واستكمل عمر هوايته المفضلة في صمت
وتصميم، ثم هلل فرحا بعدما نجح في فتح
حقائبي للمرة الثانية! "الأطفال أحباب الله "
واقتربنا من الكاونتر وكلما اقتربنا كلما ازددت
قلقا وتوترا فأين المرأة ؟! هل سآخذ معي الحقيبة أم سأتركها ! الشك يزداد والهواجس
تتكاثر...
انتظروني فللقصة بقية
محمد شحاتة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق