السبت، أكتوبر 08، 2011

قصه الحمار ماركو!

أعطى صوتى لماركو

بقلم : فهمي هويدي
 
تقول النكتة إن أسعار علف البهائم تضاعفت، فثارت الحمير وخرجت فى تظاهرة حاشدة توجهت إلى مقر الرجل الأول فى البلد، وظلت تنهق وتضرب الأرض معبرة عن احتجاجها. فتحدث إليهم رئيس الديوان قائلا إن هذا الضجيج لن يحل المشكلة. ومن الأفضل أن يختاروا من بينهم وفدا يمثلهم لكى يعرض الأمر على صاحب الأمر. ففعلوها ودخل الوفد لكى يعرض شكاية الحمير، ومرت ساعة واثنتان ولم يعد الوفد من مهمته. فقلقت الحمير وتوجست شرا، وعادت إلى النهيق وضرب الأرض بالحوافر، لكنهم وجدوا أن أعضاء الوفد اطلوا عليهم من شرفة المبنى راجين منهم العودة إلى الهدوء، وأبلغوهم بأنهم اكتفشوا أن مهمتهم صعبة للغاية، إذ طال الوقت معهم لأنهم يحاولون منذ دخلوا على الرجل إفهامه حقيقة مشكلتهم إلا أنه لم يفهم.

النكتة التى تناقلتها الألسن قبل عدة سنوات عممت على الجميع فى حينها رسالة حاكمت صاحب الأمر وسخرت منه على الطريقة المصرية، التى ظلت النكتة فيها أحد أسلحة المقاومة وضمت الضحك إلى قائمة أسلحة الدمار السياسى الشامل. لكن يبدو أن المصريين لم ينفردوا بهذا السلوك، لأن البلغار فعلوها بصورة أخرى أشد وأقوى. ذلك أنهم رشحوا حمارا لرئاسة بلدية إحدى المدن. إذ لم يتحدثوا عن رئيس بعقل حمار ولكنهم تخيروا حمارا حقيقيا ووجدوا أنه الأنسب لكى يشغل منصب الرئيس. أما كيف حدث ذلك، فإليك الحكاية.

فى الخبر الذى نشرته صحيفة «الشروق» يوم 3 أكتوبر أن لجنة انتخابات البلديات فى بلغاريا أعلنت عن قبولها ترشيح الحمار «ماركو» لمنصب عمدة إحدى المدن المطلة على البحر الأسود. وكان ماركو هذا قد سبق له الترشح لذات المنصب من قبل حزب «مجتمع بلغاريا» لكى ينافس مرشحى الأحزاب الأخرى، ووافقت عليه لجنة الأحزاب، لكنه لم يفز.

الحزب أعد للحمار برنامجا انتخابيا يلبى مطالب سكان المدينة، وقدمه باعتباره شخصية متميزة وموثوق فيها، فإلى جانب قوته وثباته فإنه يعمل بجد وبغير ملل طول الوقت، ثم أنه لا يكذب ولا يسرق ولا تحوم حوله أى شبهة فساد. وفى مؤتمر صحفى عقده ممثلو الحزب لتدشين حمله ماركو، قال المتحدثون إن مناقبه الكثيرة يشوبها عيب واحد، هو أنه مطية لسيدة تملكه، ولكن ذلك لا يعيب الحمار كثيرا لأن عمدة المدينة الحالى السيد كيريل يوردانوف بدوره خادم مطيع لرئيس وزراء بلغاريا بويكو يوريسوف. ولئن تعادل الاثنان من هذه الزاوية، إلا أن مناقب الحمار ماركو التى تركز حول استقامته ونظافة يده (رجله إن شئت الدقة) ترجح كفته وتعزز موقعه باعتباره المرشح الأصلح.

صحيح أن النكتة المصرية أكثر جرأة، لأنها رفعت السقف عاليا وبطريقة ذكية ولماحة طالت أعلى رأس فى البلد إلا أن النكتة البلغارية أقوى. فالأولى سخرت من ولى الأمر وجرحت ذكاءه ومقدرته على الفهم. أما الثانية فإنها بمثابة بيان مباشر اغتال عمدة المدينة الذى انتهت ولايته، واتهمه فى ذمته وسلوكه الوظيفى بل وطعنت فى نزاهة بقية المرشحين للمنصب. بالتالى فإن المؤتمر الصحفى الذى أعلن فيه ترشيح ماركو لم يكن هدفه تسويقه وحشد الأنصار له، بقدر ما أنه استهدف فضح العمدة الحالى وقطع الطريق على احتمالات إعادة انتخابه، كما حاكمت بقية المرشحين. حتى أزعم أن النكتة المصرية كانت نوعا من التشهير والحط من قدر ولى الأمر، أما النكتة البلغارية أقرب إلى عريضة الاتهام الموجهة لكل المرشحين للمنصب، الذين اعتبر حزب مجتمع بلغاريا انه ليس بينهم من توفرت فيه النزاهة والقدرة التى تؤهله لرئاسة البلدية. ولذلك اعتبر أن الحمار هو الحل!

أعجبتنى الفكرة، ليس فقط لأنها بهذا الأسلوب حاكمت المرشحين للمنصب العام وأدانتهم، ولكن أيضا لأنها فتحت أعيننا على بدائل من عالم الحيوان يمكن أن تفى بالغرض وتملأ الفراغ إذا لزم الأمر. لا تفوتك هنا ملاحظة أن اليأس من توافر البدائل المناسبة للوظائف العامة يحدث عادة فى المجتمعات التى يشيع فيها فساد النخبة جراء خضوعها لأنظمة استبدادية تستخرج من الناس أسوأ ما فيهم. الأمر الذى يعنى أن ثمة تشابها بين المرحلة الشيوعية التى عاشت بلغاريا فى ظلها وبين مصر خصوصا فى عهد الرئيس السابق.

ليس جديدا هذا التوظيف للحيوانات فى التعبير عن الرؤية السياسية. فقد لجأ إليه عبدالله بن المقفع فى كتابه الشهير كليلة ودمنة، واستخدمه الكاتب الإنجليزى جورج أورويل فى كتابه «مزرعة الحيوانات» وخوان رامون خيمنيث الشاعر الإسبانى الذى حاز جائزة نوبل فى كتابة «أنا وحمارى». وبوسعنا أن نعتبر الدكتور محمد المخزنجى على رأس رواد هذا الفن فى زماننا، ليس فقط فى كتابه «حيوانات أيامنا»، ولكن أيضا لأن أغلب كتاباته عن الشأن العام يدخل إليها من عالم الحيوان.

لا أعرف ما هى المعانى التى تتداعى إلى ذهنك حين تتدبر القصة البلغارية، خصوصا فى ظل الحيرة التى تنتاب كثيرين فى مصر هذه الأيام، لكنى أرجوك ألا تشطح بعيدا فى الخيال، علما بأننى حزمت أمرى فى هذا الصدد، وقررت أن أعطى صوتى «لماركو»!

هناك تعليق واحد: