الأربعاء، يوليو 12، 2017

الدكتور طلعت فاروق يكتب:

قراءة في كتاب "الاستغراب العربي: صور أمريكا في الشرق الأوسط" للدكتور عيد محمد الأستاذ المساعد بقسم التاريخ بجامعة جويلف الكندية
اعداد:  دكتور طلعت فاروق كلية اللغات و الترجمة جامعة الأزهر


صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2015 عن دار  النشر البريطانية المرموقة في مجال الدراسات الشرق أوسطية (أي بي تورس )، وسيتم إصدار النسخة ال paperback منه في شهر سبتمبر المقبل بمقدمة جديدة بقلم المؤلف.

كما هو الحال بالنسبة للمصطلحات الناشئة، لايزال مصطلح الاستغراب مثيرا للجدل في العالم العربي، نظرا لعمومية اللفظ الذي يجمع في ظلاله أفكارا متنوعة تبلغ حد التناقض. وبتتبع النقاشات المعاصرة حول المصطلح، يبدو تباين ردود الأفعال نتيجة للاختلاف في النظرة إليه أو في استقباله. فهناك من يتبنى المصطلح باعتباره وسما لخطاب مناهض للاستشراق الغربي الذي حصر العالم العربي في دائرة الاستلاب أو اللا فعل، ومن ثم باعتباره تأسيسا لنظرية جديدة يكون فيها الشرق فاعلا ومعبرا عن ذاته وناقضا للصورة النمطية المنسوبة إليه ظلما على يد المستعمر الغربي، وأيضا ناقدا للدراسات والنظريات المعرفية الغربية في كافة المجالات. وعلى الجانب الآخر يرفض بعض الكتاب العرب هذا المصطلح باعتبار معناه اللغوي "الناقص"، وهو الميل نحو الغرب انبهارا بثقافته ومعارفه والقبول بقيمه المختلفة مع القيم الشرقية، والمتعارضة معها أحيانا.
لذا يمثل كتاب الدكتور عيد محمد، الاستغراب العربي: صورة أمريكا في الشرق الأوسط دراسةنقدية متوازنةلمظاهر للاستغراب العربي، متمثلة في الحالة المصرية في الأغلب، تتضمن تعقيدات التصور والصورة في العالم العربي فيما يتعلق بالآخر الغربي. وهنا يتفق الكاتب جزئيا في المنظور مع المفكر حسن حنفي، في كتابه مقدمة في علم الاستغراب، الخاص بأهمية مبادرة الباحث العربي إلى فاعلية تقديم معرفة موضوعية عن الشرق تناقض المعرفة غير الموضوعية التي رسختها النظرية الاستشراقية والمبنية على منظور استعلائي، كان المفكر الكبير إدوارد سعيد أبرز ناقديه وناقضيه. ومن هذا المنطلق، يمثل تيار الاستغراب مقاربة معرفية تهدف إلى التغلب على شعور العرب بالنقص أو بالدونية أما الغرب (كما يشير إلى ذلك حسن حنفي في الكتاب سالف الذكر حيث يراها عقدة تاريخية بين الأنا والآخر) ومجابهة المركزية الغربية المهيمنة معرفيا، حتى على الفضاءات المعرفية العربية. وفي هذا الإطار يمثل الكتاب الحالي تحولا في النظرة إلى الغرب/الولايات المتحدة، لا كذات دارسة ولكن، كموضوع مدروس. ويتضمن ذلك استعادة الصوت العربي في التعبير عن الهوية العربية ذاتها ورؤيتها للآخر الغربي، في ظل عملية تفاوض ثقافي تعددي متوازن، يحوي نقدا موضوعيا واعيا لكل من الأنا والآخر على السواء، تجاوزا للصور النمطية المبنية على رؤى أحادية غارقة في الرفض/الإقصاء أو الاستلاب/الافتتان.
في هذا السياق، يستهدف الكتاب الحالي تصو(ي)ـر التغيرات السياسية والثقافية الغربية، عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر والمواجهات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، في الأعمال الأدبية والثقافية والإعلامية العربية، وذلك يتضمن استقبال وتصوير القيم الغربية الأمريكية، المتمثلة في انتخاب الرئيس أوباما، في وسائل الإعلام، والسينما والرواية المصرية/العربية كمصدر ملهم للتغيير ولتموضع الدور العربي في النظام الدولي. إضافة إلى تسليط الضوء على تفاعلات الدين، والثقافة الشعبية، والسياسية في صياغة العلاقة المركبة بين أمريكا ودول وشعوب الشرق الأوسط. والهدف من ذلك وضع إطار نظري لتمثلات الرؤية العربية للغرب، وصور استقبال العرب للسياسة الأمريكية ومظاهر تشكيل الصورة الذهنية العربية، سياسيا واجتماعيا، للولايات المتحدة الأمريكية كدولة وللشعب الأمريكي كأمة. كما يشمل ذلك رصد للتحولات المفاهيمية التالية للحادي عشر من سبتمبر فيما يتعلق بتغير موقع العرب والمسلمين على الخريطة السياسية للقوة، وأيضا بتأكيد الذات الأمريكي في علاقتها بالسلطة والقوى السياسية.

ويتميز الكتاب بمنظوره المقارن، إلى جانب تسليط الضوء على الأعمال ذات النزعة السياسية الواضحة لاستخلاص أسئلة جوهرية بشأن إنتاج الصور النمطية الثقافية لأنواع جديدة من الرؤى السياسية وترسيخ ثنائية الأنا/الآخر. ولذا يحوي الكتاب فصلا عن استقصاء التمثيلات الثقافية العربية للولايات المتحدة وسياستها الخارجية، من خلال قراءة أعمال أدبية عربية تقدم سردية مقابلة للسردية الغربية عن الشرق، وفهما مركبا للعلاقات العربية الأمريكية، وبيانا لكون الاختلافات الظاهرية بين الشرق والغرب في الحياة اليومية العربية بين الأنا والآخر تتضمن أيضا تذكيرا بمستوى أعمق من التشابهات بينهما. وهنا يعمل المؤلف على تحليل السرديات الغربية/الأمريكية التي تصور تفاعل العرب مع الحداثة الغربية كحافز للعرب والمسلمين للمواءمة ولتبني القيم الثقافية الغربية، وعلى الجانب الآخر استخدام العرب والمسلمين التقنيات الإعلامية الحديثة كأداة لدعم التفاعل بين الثقافتين ولتعزيز الأداء الإعلامي الوطني.
ويعد أبرز إسهامات الكتاب هو التحليلات المنهجية المتكاملة لسياسات التمثيل في طائفة متنوعة من الأعمال الأدبية والإعلامية والسينمائية المصرية التي هي في طور النشوء في فضاءات عامة مشوبة بأزمات المراحل الانتقالية الحرجة بحثا عن إطار نظري جامع للوسائل التقليدية والحديثة معا، من منظور الدراسات الثقافية والاجتماعية/السياسية الأمريكية والشرق أوسطية؛ العربية والإسلامية. كما يمثل الكتاب إضافة مفاهيمية ونظرية في مجال العلوم السياسية والاجتماعية الحديثة من خلال نقد للنظريات الاجتماعية والسياسية المتعلقة بالاستشراق والاستغراب، والمتعلقة أيضا بالدراسات الشرق أوسطية والإسلامية، وللسرديات المعاصرة حول العلاقات الأمريكية/الشرق أوسطية. أيضا يتفرد الكتاب بالمقاربة النقدية لأوجه التأثير والتأثر بين انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة وبين ظهور حركات التغيير الاجتماعي/السياسي في العالم العربي، والتي تكلل نشاطها بقيام ثورات الربيع العربي بصورة أحيت الأمل في أمة شاع بينها الإحباط، وذلك يتضمن تقصي أثر النصوص الثقافية، كالأفلام والروايات والإعلام الجديد في إحداث تغيير اجتماعي.
ويتألف الكتاب من مقدمة وأربعة فصول، حيث يستعرض المؤلف في مقدمته قراءته النقدية لمنظور إدوار سعيد عن الاستشراق وتسليطه الضوء على عملية ’إعادة التدوير‘ العربية للصور النمطية الغربية عن الشرق وتحويلها إلى مادة لنقد الغرب ذاته، وكيف أن الخطاب الاستغرابي العربي يعد أحد صور المقاومة الفاعلة للخطاب الاستشراقي الغربي، وتختتم المقدمة بطرح الأسئلة الرئيسة التي تعالجها الدراسة، وعلى رأسها أنماط تصوير/تقديم أمريكا والأمريكيين في الأدب والسينما في مصر بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، والموضوعات المركزية في أنماط التصوير هذه، وتأثرها بتمثيل العرب والمسلمين في الأدب والإعلام والسينما في الولايات المتحدة، وخاصة في ظل أحداث جسام، كأحداث الحادي عشر من سبتمبر، والحرب على الإرهاب، وغزو العراق وأفغانستان، وذلك كله في إطار نزعة الهيمنة الإمبريالية الأمريكية، ولكن أيضا في إطار نزعة عربية لاستيعاب تاريخ الاستشراق والاستغراب، وأيضا لبناء جسور التفاهم والتواصل البناء بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط.
أما الفصل الأول، وعنوانه "الولايات المتحدة في الأدب العربي ما بعد الحادي عشر من سبتمبر"، فيستعرض روايتي شيكاجولعلاء الأسواني، وطيور الجنوب لأماني أبو الفضل، وكيف تقدم الأولى صورة للعرب/المصريين في الولايات المتحدة ورؤيتهم لذواتهم ولوطنهم الأم وللولايات المتحدة التي وفدوا إليها، في إطار سردية مناهضة للسردية الأمريكية مركزية النزعة، من منظور العرب الذين تلقوا تعليمهم في الولايات المتحدة، تتجاوز الثنائية المتعارضة بين الهويتين العربية والأمريكية والتي رسخها المستشرقون. وهنا يسلط الباحث الضوء على تقديم الروايتين لأصوات معتدلة مقاومة لفرضية ’صراع الحضارات‘ وللتصوير الشمولي للأنا وللآخر.
وفي الفصل الثاني، "الولايات المتحدة في الإعلام والحياة الثقافية العربيين"، يناقش الباحث قضية التمثيل/التصوير ودورها في تكوين الاستغراب، من خلال دراسة حدثين معبرين، أولهما رمي جورج بوش بالحذاء على يد صحافي عراقي وثانيهما انتخاب باراك أوباما رئيسا للولايات المتحدة، وبيان أثر التنميط وإنتاج المعرفة بصورة تعرقل التفاعل البناء بين الولايات المتحدة والعالم العربي، في محاولة لردم الهوة في فهم ‘الآخر غير المُمَثَّل‘. وفي سبيل ذلك، يستعرض الباحث طائفة من الكتابات المختلفة في توجهاتها والمتشابهة رغم ذلك في رد فعلها إزاء الحدثين.
يتبع ذلك الفصل الثالث، وعنوانه "الولايات المتحدة في السينما العربية ما بعد الحادي عشر من سبتمبر"، والذي يناقش فيه الباحث الخطر الناشئ عن القهر والإقصاء والشيطنة على إمكانية الحوار البناء بين الولايات المتحدة والعالم العربي، كاشفا عن الثغرات وحالة السيولة في الصورة التي قدمتها الأعمال السينمائية المختارة للدراسة، وعن مركزية الصراع العربي/الإسرائيلي، والحرب على العراق، ومشاعر العداء للعرب، في هذه الأعمال، إلى جانب تسليط الضوء على التفسيرات الجديدة التي قدمها صناع هذه الأفلام من منظور ‘الآخر المقهور’، أملا في الدفع نحو عالم خال من الحروب والصراعات، من خلال عرض صورة صحيحة لهذا الآخر بعيدا عن المغالطات التنميطية وسوء الفهم. وقد تضمن هذه التحليل الجوانب الاستغرابية في تلك الأفلام من حيث تقديمها لصورة نمطية مختزلة عن ‘الآخر’ الأمريكي كمستعمر بالأساس.
وتحت عنوان "رد الفعل الثقافي للعرب الأمريكيين على أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتداعياتها"، يناقش الباحث نصين أدبيين لكاتبتين عربيتين/أمريكيتين، هما ديوان ’رسائل الكترونية من شهرزاد‘ لمهجة كهف ورواية ذات مرة في أرض موعودة لليلى حلبي. ففي ديوانها، تنسج مهجة كهف فضاء تمثيليا من أسطورة ألف ليلة وليلة للتعبير عن معاناة الأقلية العربية/المسلمة في المجتمع الأمريكي، وعن صوت هذه الأقلية الغائب عن الخطاب القومي في كل من أمريكا والعالم العربي، من خلال استلهام التراث العربي، كمعالج موضوعي في مواجهة أزمة الحادي عشر من سبتمبر، وللموازنة بين الأصالة والمعاصرة أو الملائمة بين التراث والحداثة في عملية التعبير عن الذات. تلجأ مهجة كهف للربط بين عملية استعادة التراث من خلال أسطورة شهرزاد ذات الدور الرائد في تخليص جنس النساء من سلطوية ذكورية وفي تحرير المرأة ....
أما ليلى حلبي، فهي تنشئ لقطة استرجاعية طويلة لتسليط الضوء على أثر الماضي في إثراء الحاضر، وتأكيد الذات خلال المواجهة مع المستعمِر، وأيضا في تكوين ثقافة هجينة جديدة تشمل كلا من الثقافة القومية وثقافة المهجر (لأصحاب الهوية العربية/الأمريكية) وتتجاوز حاجزي التاريخ والزمن، كحل لأزمة الهوية في واقع ما بعد الاستعمار. وفي هذا الإطار تعتمد حلبي على تراث وطنها الأم لمواجهة حالة الإقصاء والاغتراب التي تعانيها بطلتها في مهجرها.

إن حالة التنوير المعرفي التي يقدمها هؤلاء الكتاب هي التي تبني جسرا في سبيل تقديم صورة متوازنة عن العرب في الولايات المتحدة والعكس، ومن ثم تمهيد الطريق لعملية تواصل بناءة، وهو ما يسعى الباحث عيد محمد جاهدا لتقديمه من خلال دراسة موضوعية للعلاقة الشائكة بين الشرق والغرب. وتتفرد الدراسة في النقد الذاتي للأعمال العربية في قصورها الاستغرابي بتقديم صورة أحادية مختزلة عن الولايات المتحدة إلى جانب نقد أوجه القصور في التمثيل الاستشراقي للعرب والمسلمين عموما، وفي تأكيد دينامية عملية التمثيل المتبادل ذاتها وأثرها في تكوين صورة ليست للآخر فقط، ولكن للذات أيضا، وهذا ما يجعل الكتاب جديرا بالقراءة، وخاصة في مجالي الدراسات الثقافية والأدبية، ودافعا لمزيد من البحث النظري والتطبيقي الخاص بمصطلح الاستغراب حديث الظهور.

هناك تعليق واحد: