تصنيف
الكتاب : سيرة ذاتية.
مؤلف
الكتاب: كي رديلف جايمسون. طبيبة امريكية فى علم النفس السريري وأحد الخبراء فى
مرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب وكاتبة مرموقة. تبلغ من العمر 70 عام وتعيش في
الولايات المتحدة الامريكية.
ترجم الكتاب إلى العربية: حمد العيسى
قبل سرد
كتاب السيرة الذاتية لكاي جيمسون ، ينبغي على القارئ ان يعلم شئياً عن مرضها ، أي
مرض الاضطراب الوجداني ثنائي القطب او الهوس الاكتئابي كما يسمونه احياناً. وهو
بإختصار مرض ذُهاني سببه خلل فى توزيع كيمياء المخ عبر الوصلات العصبية مما يؤدى
لتناوب أعراض الهوس والاكتئاب لفترات متقاربة، ويعيق المريض عن القيام بأعباءه ونشاطاته
اليومية. ففي فترات الهوس تُرافق المريض أعراض كالبهجة الزائدة وتطاير الأفكار والبذخ الغير
مبرر والعصبية عند الاستثارة وتطاير الافكار والمرح الزائد وقلة النوم وعدم
التركيز . أما فى الاكتئاب فيصاحبه نوم كثير وخمول وكسل وعدم القدرة على التذكُر أو
التفكير بسلاسة وانعدام معنى الحياة وافكار انتحارية. وهو مرض مزمن لكن يُمكن
التعايش معه عبر الأدوية والعلاج السلوكي المعرفي واحياناً عبر الجلسات بالصدمات
الكهربائية. ويُصنّف هذا المرض مع التوحد فى خانة (أمراض العباقرة والموهوبين)
لكثرة ملازمته للمشاهير من أمثال: (بيتهوفن، فان جوخ، تشرشل، نيتشه، والقائمة
تطول)
يُمكن أن
نهضم الكتاب عبر تلخيصه فى 3 بنود. الجزء الأول يتناول وصف ـ به اطناب واضح ـ حول
تاريخ عائلة الأب وشئ من عائلة الأم وكيف كانت طفولتها. حيث كانت بنت متحمسة، ذات
طاقة موفورة وقد ورثت المرض عن أبيها الذي غالباً ما كان يواجه نوبات الاكتئاب
بالكحوليات وكان لهذا الأمر تأثير سئ عليها. ويمكن أن نصف هذا الجزء بأنه سرد
مُسهب لأخلاق كاي قبل أن تشب عن الطوق، حيث الرغبة المشتعلة للعلم والفهم وتحقيق
الانجازات وبوادر الهوس الطفيفة والتي لم تجد فيه مايسترعى النظر. وتبدأ أعراض
المرض في الظهور بوقاحة وبشدة فى الثانوية العامة، حيث يهاجمها الاكتئاب وتختلف
معاملتها وينقلب سلوكها . تارة مرح وتارة تجنُب الناس، وتارة قلة نوم وتارة رد فعل
زائد. ولكنها على كل حال كانت تجتاز تلك المحن عبر السفر للريف الانجليزي والتريض
فى ربوع اوروبا حتى انتهت من الثانوية العامة بكل مراراتها وخيبات املها وبكثير من
علامات الاستفهام حول هذه التقلبات فى سلوكها.
الجزء
الثاني من حياتها تصف فيه رحلة الجامعة والدراسة الأكاديمية وكيف استفحل المرض
وكيف كان رد فعلها تجاه تلك الاضطرابات واحدة.. كان تجاهل مستمر وتركيز بقدر
المستطاع على الدراسة. خاصة أن مجموعها دفعها للإلتحاق بكلية الطب النفسي جامعة
كاليفورنيا ومن ثم تحتاج لكل قوة ذهنها الكليل. المثير فى الموضوع أنها كانت تدرس أعراض
الاكتئاب والأمراض النفسية والاضطرابات الوجدانية، ولم تلتفت لوضعها الذي كان
يتدهور بين هوس واكتئاب. حتى قررت أن تذهب فى مرة لطبيب نفسي وقد كتب لها الأخير
على أدوية اكتئاب (كان هذا فى أواخر الخمسينيات) لكنها لم تأخذ العلاج حتى وقعت
الواقعة. ففي إحدى الأيام وقعت فى نوبة هوس فأخذت تصرف الأموال بدون حساب أو رقيب
إلى درجة انها استدانت من أجل المزيد من الشراء. ومسألة الشراء الغير مبرر هي ((الوجه
الكلاسيكي للهوس)) كما تقول. وتدخل أخوها لسد ما عليها من ديون، ثم ثارت عاصفة
الهوس لدرجة أنها اخذت تُهذي وظهرت أعراض ذهانية خطيرة. وتحت ضغط الألم النفسي
اضطرت لبلع الأقراص .
تصف
الدكتورة الأعراض الجانبية للدواء (وخاصة الليثيوم الذي هو بمثابة الأنسولين
لمريض السكر ) وكيف كانت الأدوية تُشوش على ذهنها فى أكثر الأيام احتياجاً للتركيز
فتترك العلاج فتزدادا الأمور سوءاً. وصفت محاولة انتحارها الفاشلة فى المستشفى
النفسي! وخوفها المستمر من أن ينكشف أمر مرضها فلا تمنحها الجامعة درجة الدكتوراه
والماجستير. تصف بإسلوب أدبي رائع يُقطر دموعاً لا حبراً ليالي الاكتئاب السوداء
وكيف كان مطلوب منها وهي في نوبة اكتئاب بث الامل فى المرضى المكتئبين ! تصف كاي
بوجع ابتعاد الاقارب والاصدقاء عنها وهجرهم اياها بسبب سلوكها المتقلب. تصف ـ
ايضاً ـ عواقب الاهمال فى اخذ الجرعة. وتروى بإيقاع سريع اللهجة وذو بلاغة واضحة
رحلة كفاحها من اجل دخول نادي اعضاء التدريس والمشاكل التي واجهتها فى رفض العلاج
بالتحليل النفسي ونقدها القاسي ـ الغير مقبول انذاك فى اواخر الستينيات وأوائل
السبيعنيات ـ لمنهج فرويد فى العلاج النفسي والرفض العنيد الذي لاقته من الاطباء
والمعيدين فى القسم تجاه نقدها لفرويد. تروي كاي بشكل مؤلم الأزمات والانتكاسات
العاطفية وكيف كانت تتغلب عليها تارة بالانعزال او بالسفر لأوروبا ثم تذكر بكثير
من الإجلال والحب اصدقائها الذين وقفوا بجوارها فى اشد نوباتها جموحاً وعنفاً.
تُسرد
الدكتورة كاي الكثير من الكتب التى استطاعت التهامها فى نوبات الهوس أو أوقات
المزاج المرتفع وكيف استغلت تلك المعلومات فى حضور البديهة وسرعة الرد والإفحام بل
وأسر الآخرين لها وجذب اعجاب المحيطين بها، وكيف دمرت الاعراض الجانبية للدواء كل
تلك الصداقات!
في الجزء
الثالث من تقسيمنا تُركز الطبيبة على دور الاكتشافات الطبية بخصوص علاج الهوس
الاكتئابي وعقد الآمال على العلاج بالخلايا الجذعية والاستفادة من اكتشاف وحدة
بناء الخلية (دي ان آيه) والذي قد يؤدى لثورة فى استئصال جينات المُسببة للاضطراب
ثنائي القطب وعدم توريثها للأجنّة خاصة أن المرض وراثي فى المقام الأول. كما يظهر
من لغتها مدى تحمسها للمشاركة فى تلك المؤتمرات التي ترصد أحدث الابتكارات
الدوائية والمناهج العلاجية وتقنيات النانوميتر في ضبط افرزات الوصلات العصبية ،
وكيف أن رصيد الأمل لديها فى الشفاء التام من الهوس الاكتئابي كل يوم فى نمو
وتصاعد مع تصاعد وتيرة التكنولوجيا وصوت العلم.
وتنهي كاي جايمسون كتابها بخُلاصة سنوات من
مصاحبة مرضها؛ بأن المرض وأدويته وأعراضه لم تكن لترفضها لو عُرض عليها أن تولد من
جديد، وأن الحياة تستحق أن تُعاش بحب وبصرف النظر عن طبيعة مرضك. وكيف ان عدم
مصادقتها للمرض جعلها تدفع الثمن غالي وفادح من صحتها وانها ستُكرس مابقى من عمرها
للتعريف بالمرض ولمساعدة المرضى في تحمل العلاج واعراضه الجانبية القاسية. وان
المرض النفسي ـ تحديداً ثنائي القطب ـ مهما كانت محنته ففيه منحة وهي ـ اي كاي
جايمسون ـ استطاعت الاستفادة من منحته والتى تمثلت فى موهبة الكتابة الأدبية التى
كتبت بها هذا الكتاب وبضع كُتب اخرى والشغف بالطب والعلاج وتشجيع المرض على الانتظام
فى العلاج. وذكرت خبراً عن باقي مؤلفاتها التى كانت ترصد فيها العلاقة بين المرض
النفسي والابداع عبر سرد سيّر الشعراء والعباقرة والفلاسفة الذين عآنوا الأمريين
من المرض والأخرين وكانت محنتهم هي منحتهم التى ساهموا بها فى تغيير المسيرة
البشرية عبر ابداعتهم فى مجالات مختلفة.
تخرج ـ
اذن ـ كاي جيمسون بخُلاصات مُفادها أن الحياة ـ اياً كانت حياتنا ـ فهي تستحق ان
تُعاش وأنها ـ أي الحياة ـ بقدر ما تُسخّر قوتها لضربنا فى مقتل فهي تمنحنا من يقف
بجوارنا فى الاوقات التى نسقط فيها فى الحلبة. وان الهوس الاكتئابيـ وهذه كانت
نصيحتها للمرضى ـ أيا كانت قسوته فلابد من البحث عن جانبه المُشع الذي يمنحه
لمريضه وأيا كانت قسوته فالتخلي عن العلاج أقسى. وأن المجتمع يتحمل نصيب من اللوم
تجاه جهله بالثقافة النفسية واحترام حقوق المريض النفسي وضمان رعايته. وتُنهي
كتابها بالكثير من ارصدة التفاؤل تجاه المستقبل وتُعطي ـ بإفعالها ـ مثال ونموذج
لشخص كافح ضد مرضه وضد سهام المجتمع ونظرته الدونية للمريض النفسي وبروح مُحارب
عاد من المعركة مُنتصراً ناظراً بفخر لرايته وغاض الطرف عن اعضاء جسده المثخنة
بالجراح بل وربما المبتورة .
يستحق
الكتاب القراءة فحياتها قصة كفاح توجّت بجعلها قدوة لكل من استسلم لمرضه النفسي
وآثر الانتحار او الموت البطيء عبر ترك العلاج اوإيثار للأول عبر الاخيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق