الأربعاء، أكتوبر 18، 2017

فيصل موساوي يكتب: بين القصة القصيرة والرواية 1


القِصَّة القصيرة والرواية، هذان الجنسان الأدبيان من أحدث الفنون النثرية وأجملها وأكثرها انتشارا سواء في العالم العربي أو في كافة العالم. وهما عند الكثير من القَرَأَة -كما هو الحال بالنسبة لي- أفضل الأجناس الأدبية على الإطلاق –على الأقل في عصرنا الحالي- لقدرتهما على الولوج إلى أعماق نفس القارئ والتأثير فيه، ولما لهما من مساحة سردية قادرة على احتواء مختلف المواضيع والمضامين، وكذا هما أكثر القوالب الأدبية ملاءَمَةً لتمثيل الواقع ونقل أحداثِه من صورتها الواقعة في المجتمع إلى صورتها اللغوية النثرية السردية.
        إنَّ تِبيَان مواطن التشابه والاختلاف بين هذين الجنسين يستوجب أولاً التعريف بهما، وقبل ذلك لا بدَّ من تعريف النوع الذي يندرجان تحته ألا وهو "القصَّة" بصفةٍ عامَّةٍ. فالقصة لغة: بمعنى التتبع والتقفِّي مثلما ورد في مختلف المعاجم فــــ «القافُ والصّادُ أصل صحيح يدل على تتبع الشيء، ومن ذلك قولهم: اقتصصتُ الأثر إذا تتبَّعتُه»[1] وجاء في الذكر الحكيم: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ القصص: 11. أي: اتبعي أثره، وخذي خبره، وتَطَلَّبي شأنه من نواحي البلد. ولا يخفى علينا «أن كلمة "القصة" بالإنجليزية story ترتبط ارتباطا اشتقاقيا واضحا بكلمة "تاريخ" history في اللغة ذاتها، ومثل ذلك في اللغة اليونانية. وهكذا فإنها تعني في مجمل المقصود منها، تتبع آثار الأشخاص وسيرهم خلال فترة زمنية معيَّنة»[2]، هذا وقد ورد الفعل "قصَّ" حوالي عشرين مرة في القرآن الكريم.
        أمَّا اصطلاحاً فهي «مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب، وهي تتناولُ حادثةً أو حوادثَ عدَّة، تتعلق بشخصيّاتٍ إنسانيةٍ مختلفةٍ، تتباين أساليبُ عيشِها وتصرفِّها في الحياة، على غرار ما تتباينُ حياة الناس على وجه الأرض»[3] ويندرج ضمنَ هذا المفهوم جنسَا الرّواية والقصّة القصيرة فهُما سردٌ لأحداثٍ تتعلق بشخصيات مثلما هو الحال بالنسبة للأول(الرواية)، وسرد لحدثٍ واحد لشخصٍ واحد أو لشريحة معينة -في الغالب- بالنسبة للثاني (القصة القصيرة). وقد نجد خلطاً في المفاهيم عند بعض النقاد فتكون القصة* عندهم مرادِفةً للرواية، والأقصوصة* مرادفة للقصة القصيرة، ومحاولةً لتصحيح المفاهيم نقول أنّ القصةَ "عامَّةٌ" ويندرج تحتها أنواعٌ هي الأجناس الثلاثة الأخرى إضافة إلى المسرحية.
إنَّ القصَّة في تعريفٍ رائعٍ لها هي «حوادث يخترعها الخيال، وهي بهذا لا تعرض لنا الواقع كما تعرضه كتب التاريخ والسير، وإنَّما تَبسِط أمامنا صورة مموهة منه»[4] فهي بالدَّرجة الأولى خياليةٌ حتى وإن كان مضمونها يحاكي الواقع.
        بعد هذا التعريف الموجز للقصة أودُّ أن أشير إشارة خفيفة إلى أنها (القصة) «قديمة قِدم الإنسانية، وهي في أصلها ترجع إلى غريزة إنسانية تقوم على رغبة الإنسان في أن يروي للآخرين ما يقع له من أحداث، ودفعهم إلى مشاركته فيما يحس ويرى»[5].
وتتمثل القصة الحديثة كما يرى النُّقّاد في أربعة أنواع سبق أن ذكرتها، وسأعنى بأكثرها انتشارا ورواجا ألا وهي الرواية والقصة القصيرة.
الرواية roman
  ورد في المعاجم أن «الراء والواو والياء أصل واحد، والأصل ما كان خلاف العطش... وهو راو من قوم رواة، وهم الذين يأتونهم بالماء. فالأصل هذا. ثم شُبِّه به الذي يأتي القومَ بعلم أو خبر فيرويه، كأنه أتاهم بريِّهم من ذلك»[6].
أمَّا اصطلاحاً وعلى الرغم من أن تعريفها يبدو سهلا إلا أن النقاد وجدوا صعوبة في تحديد مفهوم دقيق لها نظرا لتطورها المستمرِّ وحداثتها، فمن التعريفات التي خُصَّت بها أنها «سرد نثري خيالي طويل عادة»[7]  كما أنها فن شامل، تكون مُختلَقَة أو متخيَّلَة، أو متألِّفة من عناصر واقعية ووهمية، وفيها يتصدى الكاتب لرسم جانب من الحياة الإنسانية، كما قد يعمَدُ إلى شحنها بغاية خلقية، أو فلسفية، أو دينية، أو سياسية، أو تاريخية[8]. وعموما فالرواية هي أطول الفنون القصصية وأكبرها حجما، وقد «ارتبط ظهورها بنشأة الطبقة الوسطى في أوروبا التي اتخذت منها أداة للتعبير عن مُثلها وتطلعاتها»[9] وذلك في القرن الثامن عشر، وبالتالي فهي لم تصبح جنسا مستقلا بذاته إلا في العصر الحديث.
القصة القصيرة short story
إن القصة القصيرة فنٌّ أدبيٌّ حديث «ظهر في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر، بتأثير النزعة الواقعية التي باتت تعنى بالأمور والمواقف الصغيرة والعادية من الحياة. مستنبطة منها حقائق ودلالات خطيرة تخص حياة الإنسان والمجتمع»[10] وروادها هم: إدجار ألان بو الأمريكي، غي دو موباسان الفرنسي، وتِشيخوف الروسي. إلا أن هناك نقادا يعزون بداية القصة القصيرة إلى العرب فقد كان لهم(العرب) نوادرهم وأساطيرهم ومغازيهم وقصصهم، ويقول أحد الباحثين: «إن نوادر جحا كانت إذن البدايات الحقيقية لفن القصة»[11]، وأقول إن جنس القصة القصيرة وإن تواجد عند العرب قديما ما يشبهه. إلَّا أنَّه لا يرقى إلى أن يُصَنَّف ضمن هذا الجنس فالخصائص الفنية لكتابته –التي تبلورت عند الرواد الذين ذكرتهم-لم تكن قد تبَيَّنت ملامحها بعدُ.
شأنها شأن الرواية لا يمكننا تحديد مفهوم دقيق للقصة القصيرة، إذ نجد اضطرابا لدى النقاد في تعريفها. ولأنَّ ما قيل فيها كثير ويحتاج استعراضه إلى العديد من الصفحات فقد اخترت –ما رأيت أنه-أكثر التعريفات تعبيرا عن المفهوم فهذا الجنس الأدبي هو سرد مكثف لموقف معين أو حادثة عابرة ولا تدل كلمة "قصيرة" إلى قصر في الطول أو عدد الصفحات وإن كانت هذه القصَّة فعلا عدد صفحاتها قليل، وإنما في أغلب الظن تدل على اهتمامها بموقف وجانب واحد من الحياة في زمن ومكان معينين[12]، و«يرى بعض النقاد أن كاتب القصة القصيرة يمكنه أن يحاول أي شيء، بل إنه تم له بالفعل تجربة كل شيء، لأن نوعه الأدبي الذي يستخدمه نوع غير منته، بل غير محدد المعالم»[13].






[1]- بن فارس، معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، د ط، ج5، ص11.
[2]- فؤاد قنديل، فن كتابة القصة، الدار المصرية اللبنانية، ط2، 2010، القاهرة، ص18.
[3]- محمد يوسف نجم، فن القصة، دار الثقافة، ط5، 1966، بيروت، لبنان، ص9.
*- لفظة القصة قديمة قدم الآداب العالمية، في حين أن لفظة الرواية حديثة العهد.
*- والأقصوصة هي ترجمة للمصطلح الإنجليزي  short short story أي القصة القصيرة جدا.
[4]- محمد يوسف نجم، فن القصة، ص10.
[5]- فائق مصطفى، عبد الرضا علي، في النقد الأدبي منطلقات وتطبيقات، مديرية دار الكتب للطباعة والنشر، ط1، 1989، الموصل، ص131.
[6]- بن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج2، ص453.
[7]- مجدي وهبة، كامل المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، ط2، 1984، بيروت، ص183.
[8]- ينظر: جبور عبد النور، المعجم الأدبي، دار العلم للملايين، ط2، 1984، بيروت، ص128.
[9]- فائق مصطفى، عبد الرضا علي، في النقد الأدبي منطلقات وتطبيقات، ص133.
[10]- المرجع نفسه، ص140.
[11]- عصمت رياض، الصوت والصدى، دراسة في القصة السورية الحديثة، دار الطليعة، ط1، مارس 1979، بيروت، ص11، نقلا عن: عامر مخلوف، مظاهر التجديد في القصة القصيرة بالجزائر، من منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1998، ص26.
[12]- ينظر: عباس محمود العقاد، ألوان من القصة القصيرة في الأدب الأمريكي، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، د ط، د ت، ص13.
[13]- عبد الرحيم الكردي، البنية السردية للقصة القصيرة، مكتبة الآداب، ط3، 2005،1426، القاهرة، ص57.

هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيك لطالما أعجبت بطريقتك في التأليف وفقك الله فهذه خطوة في طريق لانهاية له مقالة مفيدة حسنة الإيجاز

    ردحذف