أولا: نبذة عن المؤلف
جين بابتيست ألفونس كار
(1808-1890)، كاتب وناقد روائي فرنسي، ترجم له المنفلوطي روايته ماجدولين وله
روايات وقصص أخرى مثل الطريق الأقصر ، وأسس مجلة ساخرة بعنوان الدبابير .
ثانيا: ملخص الرواية
من
ماجدولين إلى سوزان ... سواء لدي أقرأت كتابي هذا أم مزقته فهو خلو من كل شيء يهمك
العلم به أو النظر إليه. يمكنني أن أخبرك أن الغرفة التي كانت خالية في الدور
الأعلى من منزلنا قد سكنها اليوم فتى إسمه استيفن, غريب الأطوار في وحشته ونفوره
وانقباضه عن الناس, حتى يكاد يظن الناظر إليه أنه بائس أو منكوب. لم تتصل بيني
وبينه معرفة حتى اليوم وربما لا يقع شيء من ذلك فيما بعد. إن الفتى ليس بجميل ولا
جذاب, بل إن في منظره شيء من الخشونة والجمود مما ينفر نظر الناظر إليه, وبعد: أظن
أني جعلتك تملين يا سوزان بحديثٍ يتعلق أكثره بإنسان لا شأن لي ولا لك معه
فلا تعتبي عليّ, فهذا كل ما تستطيع أن تملأ به صفحات كتابها فتاة تعيش في قريتها
الصغيرة عيشاً متشابه الصور والألوان, لا فرق بين ليله ونهاره وصبحه ومسائه, ولا
تطلع الشمس فيه على مرأى جديد ولا تغرب عن منظر غريب. الجو رائق, والسماء مصحية,
وأنا أظل أنتقل من مكان إلى آخر, كأنني أفتش عن شيء, وما أفتش إلا عن نفسي التي
فقدتها ولا أزال أنشدها, فإذا نال مني التعب آويت إلى أشجار الزيزفون في الحديقة
لأستريح في ظلالها .
من
إدوار إلى إستيفن .. الآن عرفت أنك لا تثق بي ولا تعتمد عليّ, وأنك لا تزال تنظر
إلي بالعين التي تنظر بها إلى اولئك الذين آثرت مغاضبتهم والتبرم بهم من أفراد
أسرتك, فقد كتمت عني ما كنت أرجو أن تفضي به إليّ من تبرم ذات نفسك فيما اعتزمت
عليه من رحلتك لأعرف ماذا تريد وأين تريد. إنك لا تبغضني يا إستيفن ولكنك لا تحب
أن تراني, لأنك تعلم أن لي في الحياة رأياً غير رأيك, وطريقاً غير طريقك, فأنت
تخاف أن تسمع مني ما يفجعك في تصوراتك وأحلامك, ويكدّر عليك لذائذك التي تجدها في
العيش في ذلك العالم الخيالي المظلم. إن أهلك يعجبون لأمرك كثيراً, فسافرت خفية من
حيث لا يعلمون بأمرك ولا بنيّتك التي انتويتها, ويقولون إنك ما سافرت إلا لأنك قد
عدلت عن رأيك في الزواج من تلك الفتاة التي أعدوها لك, وأنت تعلم أن والدك فقير,
ولقد كان لك في هذا الزواج حظك من سعادة العيش وهنائه .
نزل
إستيفن صبيحة يوم من الأيام فرأى مولر والد ماجدولين واقفاً على رأس بعض الجداول
فحيّاه بتحية حُيي بأحسن منها, فقال له مولر : ما أجمل شمس هذا اليوم وما أصفى
سماءه, فأراد استيفن أن يواصل الحديث بينه وبين مولر فلم يجد شيئاً أقرب إلى ذهنه
من أن يسأله عن ابنته, فقال استيفن : إن ماجدولين لم تنزل اليوم كعادتها فلعلها
بخير, فقال مولر : إنها بخير, ولكن ضيفاً من أقربائنا نزل بنا أمس فلم أر
بداً من أن أكِل إليها أمره, ثم قدمت ماجدولين وأرشميد وكان منظرهما منظر عاشقين
يتغازلان لا قريبين يتسامران, فسلما على استيفن فرد عليهما رداً فاتراً, وأحس بانقباض
ووحشة وقال لنفسه : مالي ولهذا الفتى؟ وبأي حق أحمل له بين جنبي ما أحمل من
الضغينة ؟ فما أنا بعاشق الفتاة فأغار منه عليها! ولا هو بمزاحم لي على هوى فأبغضه
فيه ! ولم يزل يسأل نفسه هذه الأسئلة دون أن يستطيع الإجابه عليها, فعلم أن الذي
يشعر به ليس الهذيان, ولا الجنون ولا الوسواس, ولا حرارة الحمى كما كان يظن,
وإنما هو الحب !!.
طلب
مولر من ابنته ماجدولين أن تعد طعاماً للعشاء حيث أنه دعا استيفن للعشاء عنده, إلا
أن استيفن لم يستطع القدوم في الوقت المحدد للعشاء حيث أنه اضطر للذهاب لوداع أخيه
الذاهب للحرب, ولكنه حضر في المساء وشرب الشاي مع مولر الذي أخذ يخبره عن الشاي
وأنواعه, ولكن استيفن كان يختلس النظر طول الوقت إلى ماجدولين, وكانت تبادله
النظرات. رجع استيفن إلى غرفته وقال لنفسه : أحمدك اللهم فقد ظفرت بالحياة التي
كنت أقدّرها لنفسي, ووجدت المرأة التي كنت أصورها في مخيلتي, وما المرأة إلا الأفق
الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته, والرسول الإلهي الذي يطالع
المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله, ففي وجه هذه الفتاة التي عثرت بها اليوم قد عثرت
بحياتي وسعادتي ويقيني وإيماني. ولم يزل يهتف بهذه التصورات حتى انحدر برقع الليل
عن وجه الصباح فهجع في مرقده قليلاً. ثم قام فنزل إلى الحديقة يترقب نزول ماجدولين
فلم تنزل, فلم ير بداً من زيارة مولر, فمشى إلى المنزل بقدم مضطربة وقلب خفاق,
وعندما وصل قال مولر : قد شغلني أني كنت أفتش في قواميس اللغة عن أصول أعلام
نباتية ما زلت معنياً بأمرها منذ اليوم, فهل لك أن تكون عوناً لي عليها على شرط أن
لا تفارق منزلي قبل الغداء ؟ فابتسم استيفن إبتسامة الرضا والقبول, لأنه علم أنه
سيقضي وقتاً طويلاً في منزل ماجدولين, فقال مولر : لقد أراد الله بي خيراً إذ
أرسلك إليّ في هذا اليوم فقد كدت لا أجد في هذه الوحدة أنيساً, فإن ابنتي سافرت
منذ الصباح لزيارة إحدى صواحبها ولا أحسبها راجعة قبل المساء ! فبقي استيفن حائراً
في مكانه مشدوهاً وليس وراء ما به من الهم غاية .
من
سوزان إلى ماجدولين .. كنا قد عزمنا على أن نزورك في قريتك يا ماجدولين أنا ووالدي
فحدث حادث حال بيننا وبين ذلك: دعانا أحد الأصدقاء لزيارته في بلدته, وهناك رأينا
جمعاً عظيماً من الناس يندفع فوق الشاطيء والناس تنادي : الغريق الغريق, واذ برجل
عار يدفع الجمع وينزلق بين الناس وألقى بنفسه في النهر وأنقذ الغريق. ولكنا ما
كدنا نستفيق حتى راعنا منظر الغريق وكأنما جن جنونه, فظن أن مخلصه يريد به شراً
فأخذ يضربه, فظن المخلص أنه هالك لا محالة فرفع يديه إلى السماء وهتف بإسم أظنه
إيا ماجدولين, فلم أفهم ماذا يريد ولا من هي تلك التي يريد ... ثم بعد أن أنقذه
تركه المخلص وأخذ يمشي وهو يتحامل على نفسه إلى شجرات بنفسج كن على الشاطيء,
فأخذ يقتطفها كأنما يريد أن يتخذ منها طاقة ليجعل من تلك الحادثة تذكاراً .
مرت
بعد ذلك أيام كان فيها استيفن بين يأس الحياة ورجائها, واستقر في نفسه العزم على
أن لا يفر من وجه ماجدولين إذا رآها, وأن يتقدم نحوها ويحييها, يحادثها وينفض بها
جملة حاله. ولم يلبث أن رآها مقبلة عليه وجهاً لوجه, فلم ير سبيلاً للفرار من بين
يديها, فحياها واستمر يحادثها ساعة حتى حان وقت رجوعها فودعته وانصرفت, فصعد إلى
غرفته وقد عزم أن يراسلها ويخبرها بما عجز عن مفاتحتها فيه. كتب لها كتاباً نطق
فيه قلمه بما عجز عنه لسانه, ثم رآها مقبلة نحوه تحمل في يدها كتاباً فلما دنت
قالت : أتذكر يا سيدي مكان الشجيرات التي اقتطفت منها زهرات البنفسج التي أهديتها
لي ؟ فاضطرب لسؤالها, وقالت له: إقرأ هذا الكتاب فإن لك فيه ذكراً وأعطته رسالة
سوزان فقرأها,وقالت: إنك تكتم عني نفسك يا استيفن فقد عرفتك وعرفت يدك البيضاء في
حادثة الغرق, ثم مدت يدها إليه فصافحته, فلم يكن بين تلامس كفيهما, وخفوق قلبيهما,
إلا كما يكون بين تلامس أسلاك الكهرباء, فقرأ استيفن في وجه ماجدولين لوعة الحب
وألم الحزن, وقرأت في وجهه الحب والسعادة والدهشة والسرور, ثم أخذ بيدها وألصقها
بكبده, وكأنما هو يقول لها: إن لغة اللسان لا تكشف عما اشتملت عليه بين أضالعي من
الوجد بك والحنين إليك, فالمَسِي قلبي لتعرفي مكنونه, ثم خر راكعاً بين يديها
قائلاً : أتحبينني يا ماجدولين ؟ فلم تجب ومدت يدها مودعة قائلة : غداً في مثل هذه
الساعة في هذا المكان, فمد يده إليها ذاهلاً لا يعلم ما يراد به. وعندما التقته في
اليوم الذي يليه, قال : ما في قوة في هذا العالم كلها تستطيع أن تحول بيني وبينك
يا ماجدولين, لا تخافي من الحب يا ماجدولين, ولا تخافي من غضب الله فيه, واعلمي أن
الذي خلق الشمس وأودعها النور, والزهور وأودعها العطر, قد خلق القلب وأودعه الحب,
وما يبارك الله شيئاً كما يبارك القلبين الطاهرين المتحابين لأنهما ما تحابا إلا
إذعانا لإرادته, فامددي إليّ يدك واقسمي بما أقسم به: أن نعيش معاً, فإن قدر لنا
أن نفترق كان ذلك الفراق آخر عهدنا بالحياة, فمدت إليه يدها فتقاسما وتعاهدا .
جلست
ماجدولين في غرفتها تخيط ثوباً لها, ربما كانت تعده لليلة عرسها, فإذا أبوها ماثل
أمامها, وقال : أتعلمين إني أرسلت جنفياف الساعة بكتاب إلى استيفن أمنعه فيه من
دخول بيتي, بل أمنعه من البقاء في منزلي, ولا سبب لي في ذلك إلا أنه يحبك !
فقالت ماجدولين : إنه لا يحبني ولكنه يحب أن يتزوج بي, فقال أبوها : ذلك ما لا
أريد أن يكون, لأنه لا يصلح أن يكون زوجاً لك, إنه بائس فقير. فركعت بين يديه ومدت
يدها إليه ضارعة, وأخذت تسترحمه بالبكاء, فتركها ماضياً لسبيله قائلاً : إنك اليوم
تجهلين وغداً تعلمين ..
وعندما
وصل الكتاب إلى استيفن مر بخاطره كل شأن إلا الشأن الذي كتب فيه, فلو أن رامياً
سدد إلى قلبه سهماً جديداً فنفذ إليه ما بلغ منه ما بلغ هذا الكتاب. أخذ يحدث نفسه
: كذبت أيها الرجل إنك أضعف من أن تمد يدك إلى هذا الرباط المقدس فتقطعه, إنك أعجز
من أن تنتزع شعرة من شعور رأسك البيضاء, فأحرى أن تعجز عن أن تنتزع روحاً عن
جسدها. إن الذي بيني وبين ماجدولين شيء لا تصل إليه يدك. ثم أخذ يبكي بكاء الطفل
الصغير وينشج نشيجاً محزناً, وإذ بماجدولين ماثلة أمامه وهي تقول : إني جئتك أودعك
يا استيفن, إنني أحببتك حباً ملأ فراغ قلبي فما يسع لغيره، نزل مني منزلة الروح من
الجسد فما ينتقل عنه, وقد عاهدتك على الزواج بين يدي الله ويدي ضميري, وما أنا
بخائنة ضميري, ولا بكاذبة ربي, فسافرْ يا استيفن وفتش عن سعادتنا, وعد إليّ بعد
ذلك وسأكون لك ما حييت ...
وفي
الصباح ألقى استيفن نظرة عامة على الحديقة وعلى شجرة الزيزفون التي كان يجلس إليها
مع ماجدولين, والجدول الذي كانا يمشيان بجانبه, والمقعد الذي كان يقتعده من
الحديقة لينتظر مجيئها. ثم ذهب استيفن إلى البستاني واتفق معه على أن يحمله على
فرسه إلى كوبلانس, ثم فارق المدينة بين وجد يقتله وأمل يحييه ...
من
استيفن إلى ماجدولين .. لقد لقيت في كوبلانس أبي وأهلي وكثيراً من أبناء وطني, فلم
يغنِ لقاؤهم عن لقائك, ولم أجد في وجوههم ذلك الأنس الذي كنت أجده فيها قبل أن
أعرفك. لقد أحزنني كثيراً ما تكابدينه من الآلام والأحزان من أجلي, ولو كُشف لك من
أمر نفسك ما كشف لي منها, لعرفتِ أنك أسعد مني حظاً, لأنك تعيشين في المواطن التي
شهدت سعادتنا وهناءنا, أما أنا فكل ما حولي غريب عني . أكتبي لي كثيراً أرجوك .
أقام
والد استيفن في بيته حفلة راقصة, وأمر ولده أن يشهدها. لم يرتاح استيفن للحفلة
فانزوى لوحده في الحديقة. ولما انصرف الناس أشار أبوه إلى جماعة من أهل بيته وخاصة
أصدقائه أن يبقوا, ففعلوا وقال لاستيفن : قد كنت دعوتك إلى مصاهرة هذه الأسرة منذ
عام, ودللتك على مكان الخير لك في هذه الصفقة الرابحة فأبيت واستعصيت, فلما عدت
هذه المرة ظننت أنك أذعنت وفهمت معنى الحياة, ولكنك أبيت إلا تمرداً وعناداً
كأنما ظننت أنني باق لك الدهر, أو خُيل لك أن هذا العلم الذي تدل به وتعتز بمكانك
منه منجم من مناجم الذهب يخرج لك ما يقوتك اليوم ويقوت من وراءك من بنيك وأهل بيتك
غداً, فإن أردت لنفسك الخير فدونك الرأي الذي رأيته لك, وأنت أعلم به, أو لا ,
فدونك الأرض الفضاء فامش في مناكبها ما شئت, واطلب لنفسك الرزق من الوجه الذي
تعرفه, فقد أصبح وجودك في منزلي على حالتك هذه من البطالة والفراغ عاراً عليّ وعلى
أهلك جميعاً. ثم التفت إلى القوم وقال : هأنذا قد أشهدتكم عليه وبرئت إليه وإليكم
وإلى الله من ذنبه, فلا معتبة عليّ بعد اليوم.
فطار
طائر الحلم من رأس استيفن وقال له : نعم إنك قد أحسنت إليّ ولكنك لم تمنحني في يوم
من أيامك الماضية عطفك ولا رحمتك, ولو فعلت ذلك لكان خيراً لي من كل ما أسديت إليّ
من صنوف البر والمعروف, فقد أبعدتني عنك أنا وأخي منذ ماتت أمي, فلن أسير في طريق
غير الطريق التي ترسمها يدي, ولا أبني مستقبل حياتي على أساس غير الأساس الذي أضعه
بنفسي. ثم تناول استيفن حقيبة ملابسه وخرج هائماً على وجهه يخترق أحشاء الظلمات,
ومشى في طريقه يعلل نفسه بالآمال الحسان, ويرسم لمستقبل حياته ما شاء من الخطط
والنظم حتى وصل إلى جوتنج, البلدة التي تعلم في مدرستها, وقضى فيها أكثر أيام
صباه.
من
ماجدولين إلى استيفن .. لم أستطع أن أكتب إليك منذ شهرين لأني كنت مريضة, ولقد
كابدت في مرضي شدة عظمى لم أر مثلها فيما مر بي من أيام حياتي, فحاولت أن أكتب
إليك كتاب وداع أبثك فيه بعض شأني فلم أستطع, ثم كتبت إليك كتاباً أوصيت لك فيه
بجميع ما تملك يدي, وما تملك يدي إلا كتبي ومحفظة رسائلك, والخاتم الذي نسجته من
شعرك, وذخيرة من الذهب ورثتها عن أمي وهي أعز الأشياء عندي, وكيساً صغيراً يشتمل
على بعض القطع الفضية والذهبية مما كنت أستفضله من نفقاتي, ثم طويتُ الكتاب
وأعطيته لجنيفاف لتوصله إليك بعد موتي !!! .
مر
الشتاء واستيفن يختلف إلى أستاذه هومل,أستاذ الموسيقى, وأستاذه يسعى له سعي المجد
المُلح فلا ينجح. كان أكبر ما يحزن استيفن أنه وعد ماجدولين بالسعي إلى الثروة
والنجاح وملأ قلبها ثقة وأملاً في المستقبل وأن فشله سيقتلها .
من
استيفن إلى ماجدولين .. قد ابتسم لي الدهر قليلاً يا ماجدولين؟ فقد بشرني أستاذي
بأنه وجد لي عملاً في بعض المدارس الصغيرة بوظيفة شهرية, لا صعب في الحياة يا
ماجدولين غير الخطوة الأولى, فلنهنأ منذ اليوم باللقاء .
جلس
استيفن في غرفته غداة يوم من أيام الآحاد, فسمع خفق نعل ثقيلة على السلم, وإذ
بالقادم يصيح بإسمه صياحاً عالياً, فابتدر الباب وفتحه وإذ بصديقه إدوار, فابتهج
استيفن بمرآه وعانقه عناقاً طويلاً وقال إدوار : سأنزل عندك في غرفتك الصغيرة
ضيفاً شهرين أو ثلاثة, فلقد اشتد النزاع بيني وبين عمي حتى أصبحت لا أطيقه ولا
يطيقني, ففارقت منزله وأقسمت ألا أرى وجهه حتى تنتهي قضية الوصاية التي بيني وبينه
..
لم
يأت اليوم العشرين من الشهر حتى صفرت أيديهما من النقود. وهكذا استمر إدوار ينغص
على استيفن عيشه واستيفن لا يغضب ولا يشكو, بل لا يشعر بالألم والضيق لانه كان
صديقه وكفى .. وحين انتهت الثلاثة أشهر جلس إدوار إلى صديقه في الليلة التي
عزم على السفر في غدها وقال له : إنني لا أنسى لك أنك وأنت في أشد حالات بؤسك
وضيقك قد آويتني وواسيتني أياماً طوالاً, فقال له استيفن : إنني لم أسد إليك يداً
تستحق مكافأة, ولكنك صديقي وللصداقة آثار طبيعية تتبعها وتنبعث وراءها, إنني شقي
مذ ولدت يا إدوار, فأنا أحب الأشقياء وأعطف عليهم لأنني واحد منهم, ولا صداقة في
الدنيا أمتن من صداقة الفقر والفاقة, ولا رابطة تجمع بين القلبين المختلفين مثل
رابطة البؤس والشقاء. فأخذ إدوار بيد استيفن وأقسم له بكل محرجة من الإيمان ألا
يهدأ له في حياته روع حتى يراه ظافراً من دهره بالسعادة التي يرجوها. وفي الصباح
مشى استيفن مع إدوار ليودعه ثم افترقا.
سافرت
ماجدولين مع أبيها إلى كوبلانس, ونزلت في ضيافة صديقتها سوزان, فأدهشها منظر القصر
وبهاؤه وحجراته. وكانت سوزان قد أعدت لها أنواع الأقمشة من حرير ومخمل وفرو, فخاطت
لها خيّاطة ثوباً للرقص وآخر للملعب, وآخر للمائدة وقميصاً للبيت. فرقصت وغنت
وتحدثت بأحاديث فتيات كوبلانس, ولذّت لها الحياة الجديدة فتضاءل في نظرها كل شيء
في ماضيها إلا حبها لإستيفن. وقصّت ماجدولين على سوزان قصتها مع استيفن وذكرت لها
العهد الذي أخذه كل منهما على صاحبه أن يعيش له, فقالت لها سوزان : إنك إذاً
تريدين أن تبتلي وتستوحشي وتهجري العالم كله في أحد المنازل المهجورة المنفردة
وتقتلين فيها نفسك هماً وكمداً بعهدك هذا, فصمتت ماجدولين ولم تنبس
بكلمة .
في
مقصورة الأوبرا جلست سوزان وماجدولين وإبن عمتها ألبرت وأشميد إبن عم سوزان, وهما
فتيان جميلان متأنقان في ملبسهما وحليتهما. جلسا يقلبان النظر في وجوه الجالسين في
المقاصير المماثلة لهما, فإن وجدا وجهاً جميلاً تغامزا وتهامسا, أو قبيحاً ضحكا
وسخرا, ثم علا صوتهما بالضحك والسخرية على رجل جالس في مؤخرة الصفوف, وقال ألبرت :
هل رأيتم أعجب من هذا القرد اللابس ثوب إنسان !! فقال اشميد : إنه الوحش المستأنس,
فقالت سوزان : إنه الشيطان الذين كانوا يخيفوننا به يوم كنا صغاراً, ثم التفتوا
جميعاً فرأوا ماجدولين قد تراجعت إلى الوراء وهي ترتعد وقد استحالت حمرة وجهها إلى
صفرة كصفرة الموت, فسألوها ما بها؟ فزعمت أنها تشعر برعدة في جسمها ودوار في
رأسها, ولم تكن صادقة فيما تقول لأن الرجل الذي يسخرون منه إنما هو خطيبها الذي
تحبه وتستهيم به. فجلست تخالس النظر إلى استيفن فحياها بابتسامة خفيفة لم يشعر بها
أحد غيرها, ثم ألقت ماجدولين عليه نظرة شكرته فيها على الإهتمام وحضوره لرؤيتها
وانصرفوا جميعاً. تذكرت ماجدولين آمال استيفن وأحلامه وبؤسه وشقاؤه, فبكت رحمة به
وإشفاقاً عليه. وهكذا أخذ حبها يستحيل إلى رحمة وشفقة, والحب إذا استحال إلى هذين
فقد آذن نجمه بالأفول ...
بعد
أسبوع ذهب استيفن مرة أخرى لرؤية ماجدولين فلم يراها في مقصورة الأوبرا, فخرج من
الملعب ومشى في طريق قصر سوزان, فرأى عجلات كثيرة مصطفة, فسأل أحد الخدم : ما
الخطب, فقال : إنه عرس السيدة سوزان. إختلس النظر إلى الداخل وشاهد ماجدولين ترقص
مع رجل, فتبين بعد فترة من التحديق أنه هو صديقه إدوار. لم يأبه لذلك كثيراً إلا
أن ما أزعجه أنه رآها ترقص في ثوب رقيق شفاف لا يكاد يحجب جارحة من جوارحها, وخيل
له أن صدرها ملتصق بصدره, وأنه يخاصرها ويحتضنها, فأنّ أنيناً مؤلماً وقال :
ماذا فعلتْ بك الأيام يا ماجدولين ؟ ثم لمح خاتماً في أصبعها فتبينه فإذا به
الخاتم الذي نسجته من شعره, فاغتبط بذلك اغتباطاً عظيماً.
وعندما
عاد استيفن إلى جوتنج وجد رسالة من قريب له قد أحسن إليه فى يوم ما يقول له فيه
إنه مريض وإنه يحب أن يراه في ساعته الأخيرة. أخذ استيفن إجازة من المدرسة لمدة
ثلاثة أيام لمعاودة قريبه المريض, وبعد أن قضى معه ثلاثة أيام كتب استيفن إلى
المدرسة التي يعمل بها برسالة يخبرهم بأنه يريد التخلف عن الدوام وأدلى
إليها بعذره في ذلك, فبعثت له المدرسة بكتاب تقول فيه إنها لم تر بداً من
الإستغناء عنه واستبداله, وأنها قد أرسلت إليه ما بقي له من مرتبه. شعر استيفن
بالعجز عن احتمال أموره الصعبة هذه.
بعد
أن تيقن استيفن إلى أن قريبه المريض قد مات أخذ يدور بنظره في أنحاء الغرفة, وقعت
عيني استيفن على خزانة المال فوثب استيفن على قدميه وقال : لا بد لي من النجاح في
حياتي, فمن هم الذين يملكون الدور والقصور والضياع الواسعة, والرباع الحافلة,
والذين تموج خزائنهم بالذهب موج التنور باللهب, أليسوا هم اللصوص والمجرمين الذين
يسمون أنفسهم ويسميهم الناس سراة ووجوهاً ؟ كان استيفن يهذي بأمثال هذه التصورات
وهو يضرب في أرجاء الغرفة ذهاباً وجيئة, ثم مشى إلى الخزانة ففتحها, ومد يده إلى
الأوراق يقلبها وخيل إليه أن الخزانة تهتز فارتعد وتساقطت الاوراق من يده واحدة
بعد أخرى من شدة ارتباكه, وفجأة أحس بيد باردة على كتفه ليرى قريبه الميت واقفاً
خلفه, فصرخ صرخة عظمى ودفعه بيديه دفعة قوية ثم سقط استيفن مغشياً عليه. إستيقظ
استيفن فجراً وأعاد الأوراق إلى مكانها, ونقل الجثة إلى مضجعها. تم دفن الميت وحضر
دفنه وارثه, وسافر استيفن إلى جوتنج .
علق
إدوار بماجدولين منذ الليلة التي رآهما فيها استيفن يرقصان معاً, ولم يزل بها حتى خلبها
ووقع من نفسها, وأصبحت ماجدولين لا تكاد تصبر عن مجلس إدوار ساعة, ولا تزال تفتقده
وتسائل نفسها عنه كلما غاب عنها, وهي تظن أنها إنما تحبه من أجل استيفن, ولو كشف
لها عن دخيلة نفسها لعلمت أنها قد بدأت تنسى استيفن من أجله. ولقد أعجبت سوزان
بتلك الصلة التي نشأت بين صديقتها وقريبها إدوار ورضيت عنها الرضا كله.
وتناست ماجدولين استيفن لأنه صورة من صور الحياة الماضية التي عافتها, وأحبت إدوار
لأنه مظهر من مظاهر الحياة الجديدة التي أحبتها وافتتنت بها ! إلا أنها كانت
إذا خلت إلى نفسها تراءى لها شبح استيفن ومنظر عينيه الممتلئتين حزناً ودموعاً,
فتحن إليه حنين الغريب إلى داره فتبكي حسرة وإشفاقاً عليه .
وقف
استيفن على عتبة باب بيته الجديد, وكان البناءون لا يزالون يشتغلون باستصلاح بعض
أنحائه, وقال استيفن : ها قد أصبح البيت على الصورة التي اتفقنا عليها منذ عامين
أنا وماجدولين, إنها لا تعلم الآن شيئاً من هذه السعادة المهيأة لها, وربما كانت
اليوم تكابد أشد حالات يأسها وحزناً بعد انقطاع رسائلي عنها أياماً طويلة,
وإننى سأباغتها بهذا الأمر مباغتة لا يزول أثرها من نفسها أبد الدهر ...
ما
كان استيفن قبل اليوم آمراً ولا ناهياً, فقد عاد إلى جوتنج بعد تلك الليلة الليلاء
التي كابدها في غرفة قريبه صفر اليدين, وقضى في فراشه مريضاً بضعة أيام كابد فيها
آلام جسده ونفسه, ولم يزل يراوح الفكر حتى دخل عليه رسول البريد يحمل إليه برسالة
يقول فيها : إن الميت قد أوصى إليه في كتاب وصيته بعشرين ألف فرنك يأخذها في الحال
وعشرة آلاف يأخذها في كل عام, فاستطير فرحاً وسروراً وقال : أحمدك اللهم غللت يدي
عن أن آخذ هذا المال حراماً, حتى بعثت به إليّ حلالاً. وبعد بناءه للبيت ركب عجلته
وسافر وقلبه يخفق فرحاً وسروراً حتى وصل إلى ساحة قرية ماجدولين, فذهب إلى المقعد
الذي كانا يجلسا عليه سوياً هو وماجدولين, وما إن وقع نظره على المقعد حتى تجمد
واصفر, ووقفت دورة الدم في عروقه, فقد رأى ماجدولين جالسة بجانب فتى غريب وتبتسم
له ويبتسم لها, وألقى برأسه على صدرها, فقال : إنه صديقي إدوار ! دنا منها, ففزعا
إذ رأياه, ووثبا على أقدامهما وثبة واحدة, وأنشأ يقول لها : لقد انقضت أيام شقائنا
يا ماجدولين, ولقد أصبحت والحمد لله صاحب ثروة كافية لسعادتنا وهنائنا, فجئت أخطبك
من أبيك, فارتعدت ماجدولين وامتقع لونها وقالت : إني أهنئك بصلاح حالك يا سيدي !
فعجب استيفن لذلك, ووقع نظره على أصبعها فرأى خاتماً جديداً, فازدحمت الدموع في
عينيه تتبادر إلى السقوط فقال إدوار : كان يجب عليك أن تستأذن قبل الدخول, ولم يكن
يجمل بك في هذه السن المتقدمة أن تنسى أول درس يتلقاه التلميذ في مدرسته في أدب
الزيارة والإستئذان. ثم تبعت ماجدولين إدوار حتى دخلا البيت وسمع طرق الباب.
فظل
استيفن شاخصاً لا يتحرك ولا يطرف له جفن وبقي ساعة على هيئته حتى سمع صهيل جواد
إدوار فلحق به وسأله عما يجري, فقال إدوار : إني أختلف إلى بيت الشيخ مولر لأني
خطيب ابنته وسأتزوج بها بعد شهر واحد, وإذا شئت إحضر حفلة عرسنا بل أنا
أدعوك إلى ذلك, فارتعدت شفتا استيفن وشعر بالموت يتسرب إلى قلبه قليلاً قليلاً,
فقال استيفن : ولكنك تعلم يا إدوار أني أحبها وأنها كل حظي في هذه الحياة, فقال :
أنا أعلم أنك تحب هذه الفتاة وأنك استملتها في بعض أيام حياتك الماضية, إلا أن
أباها حماها من ذلك المستقبل المظلم وطردك من بيته , إني أسديت لك نعمة إن جهلتها
اليوم فستعرفها غداً, وإن كنت تعتقد أنها أرغمت على الزواج فأنت مخطيء, لقد نسيتْ
كل ماضيها خيره وشره, ولم يبق بين يديها سوى حبها لخطيبها وإخلاصها له. حينها
استطير استيفن غضباً وانقض عليه يريد الفتك به ولكنه تراجع عن ذلك, فهمز إدوار
جواده وطار به ملء فروجه .
من
استيفن إلى ماجدولين ...أصحيح يا ماجدولين أن ما كان بيننا انقضى؟ أصحيح أننا إذا
التقينا بعد اليوم في طريق واحد مضى كل منا في سبيله دون أن يلوي على صاحبه ؟ ما
أسرع تقلبات الأيام وما أغرب تصاريفها وشؤونها ؟! لقد أحببتك حباً لم يحبه أحد من
قبلي, وأخلصت لك إخلاصاً لا يضمر مثله أخ لأخيه, ولا والد لولده, وأجللتك إجلال
العابد لمعبوده, فما خنتك في سر ولا جهر. إن كنت ترين أني لا أستحق محبتك فاعلمي
أنك لا تستطيعين أن تجدي بين الرجال من يحبك محبتي أو يخلص لك إخلاصي. لقد خدعوك
يا ماجدولين وزينوا لك حب المال والشهوات, وخيلوا إليك أن الحياة طعام وشراب, وثوب
فاخر وقصر باذخ, وأن الزواج شركة مالية, وما علموا أن الزواج المالي هو نوع من
أنواع البغاء. لا تصدقي يا ماجدولين أن في الدنيا سعادة غير سعادة الحب, فإن صدّقت
فويل لك منك, فإنك قد حكمت على قلبك بالموت. لا شيء يعزيني عنك في العالم يا
ماجدولين, لأنك كنت لي كل شيء فيه, فلما فقدتك لم أجد عنك عوضاً ولا بدلاً, وكنت
كمن قامر في ساعة واحدة بجميع ما تملك يده, فلما خسر خسر كل شيء. ألا تخافين يا
ماجدولين أن يأخذك الله بذنبي يوم يأخذ الناس بذنوبهم, ويسألك عن هذه النفس
الطاهرة التي قتلتها في جميع مواهبها وفضائلها, وأن يتبعك صوتي في كل مكان تكونين
فيه.
إنني
أتألم كثيراً يا ماجدولين, ولا أحسب أن في العالم نفس تحمل ما تحمله نفسي من
الآلام والأوجاع, فارحميني واعطفي عليّ, فإنْ لم أكن كفؤاً لمحبتك فامنحيني
صداقتك, فإن أبيتها فاسبلي عليّ ستر حمايتك, فإن ضننت بها فائذني أن أسير وراءك في
كل مكان تسيرين فيه كما يتبعك كلبك الذليل, لأراك وأسمع صوتك. أكتبي إلي كلمة
واحدة قولي فيها ما تشائين من خير أو شر, فقد وطنت نفسي على احتمال كل شيء. لم تبق
فيّ بقية تحتمل أكثر مما احتملت, وربما لا أستطيع أن أكتب إليك غير هذا الكتاب فقد
بلغ بي الضعف منتهاه, وأظلم بصري فما أكاد أبصر شيئاً. فالوداع يا ماجدولين وداع
الحياة إن كان لا يزال في الأجل بقية, أو وداع الموت إن كانت الأخرى .
من
ماجدولين إلى استيفن .. لا أكتمك يا سيدي أني بكيت كثيراً عند قراءة رسائلك. أنت
تعلم يا استيفن أنني فتاة فقيرة وأنك فتى بلا مال, تناس كل شيء يا صديقي وسافر إلى
كوبلانس, واستصلح أباك وأهلك وتزوج من الفتاة التي اختاروها لك, وحسبك مني أن أكون
صديقتك الوفية لك ما حييت, ولا تحمل في نفسك ضغينة لصديقك إدوار, فقد علم الله أنه
ليس له يد في شيء مما كان, وإنما هو رأي رأيته لنفسي .
من
استيفن إلى ماجدولين .. قد نسيت كل شيء يا ماجدولين, فاختاري لنفسك في حياتك ما
شئت, وإني أتقبل صداقتك بالصدر الرحب, ولا أنقم عليك ولا على خطيبك شيئاً, بل أسأل
الله لكما السعادة في حاضركما ومستقبلكما .
إزدحمت
الكنيسة بسكان قرية ولفباخ رجالاً ونساءاً وظلوا جميعاً ينظرون إلى الباب بشوق
ينتظرون حضور العروسين. ثم دخل إدوار آخذاً بيد ماجدولين وهي لابسة ثوباً أبيض
ناصعاً. كان استيفن قد جاء إلى المعبد قبل حضور الناس واختبأ وراء سارية من سواريه
فلم يشعر به أحد. ثم بدأ القسيس يتلو صلاته, فشعر استيفن أن قلبه يخفق خفقاناً
شديداً, فاستلهم الله الصبر على نكبته. وبعد انتهاء مراسم الزواج خرج هائماً على
وجهه. وجد نفسه أمام بيت ماجدولين, ورأى الناس منصرفين من الحفلة, ودخل إلى بيت
ماجدولين واقترب من غرفة نومها, وسمعها تناجي إدوار (أنت حياتي التي لا حياة لي
بدونها) فجن جنونه وحدثته نفسه أن يضرب الباب بقدمه ضربة هائلة تطير به ثم يقتحمه
عليهما فيقتلهما ويخضب سرير العرس بدمهما, فوقف يغلي دمه ومزّق صدره بأظافره حتى
امتلأ قميصه دماً فزلت به قدمه فانقلب إلى أسفل السلم وهو بين الحياة والموت, ولم
يزل في سقطته تلك حتى استيقظت الخادمة جنفياف ورأته صريعاً في مكانه, فأدهشها
وجوده في هذا المكان, ثم استفاق وناشدها أن تكتم عليه ما كان, وخرج من المنزل ومشى
في طريق قريته.
لبث
استيفن في سرير مرضه شهرين كاملين كابد فيهما من آلام النفس والجسم ما قدر له أن
يكابده, ثم تحسن قليلاً فهجر فراشه وأخذ يهيم على وجهه ليله ونهاره, ينام
حيث يجد مضجعه ويأكل حيث يجد لقمة ولا يستقر بمكان. وأخذ يفكر بالموت ويقول : لقد
كذب الذين قالوا إن الإنتحار ضعف وجبن, وما الضعف ولا الجبن إلا الرضا بحياة كلها
آلام وأسقام فراراً من ساعة شدة. مهما كابد المرء من الغصص والأوجاع فهي ذاهبة ولا
رجعة لها بعد ذلك. ثم رنّت في أذنه ضحكة ماجدولين مع زوجها, وقال في نفسه: إن من
كان مثلها في خيانتها وغدرها, وصلابة قلبها وقسوته, لا يبالي ما أقدم عليه من
شؤونه, فربما إذا سمعت بخبر موتي تنفست تنفس الرحمة والدعة واغتبطت بينها و بين
نفسها, وأعجبها أنها قد أصبحت آمنة مدى الدهر من أن يُذكّرها مذكِّر بخيانتها, أو
يتراءى لها في مسلك من مسالكها شبح تلك الخيانة التي اقترفتها .
الحب
قطرة غيث تنزل بالتربة الطيبة فتثمر الرحمة والشفقة والبر والمعروف. وكان استيفن
طيب القلب طاهر السريرة, فاستحالت تلك الآلام التي كانت تعتلج في نفسه إلى وجدان
طاهر شريف يشعر ببؤس البائسين فيرثى لهم. ولقد وفى بعهده الذي عاهد عليه صديقه
فرتز فأمسك عن ذكر ماجدولين والتفكير بها, وأخذ نفسه بنسيانها ونسيان ماضيها معه,
فاستقام له بعض الذي أراد وتراجعت آلام نفسه وأحزانها .
من
ماجدولين إلى سوزان .. أنا سعيدة والحمد لله, ولا أشكو شيئاً غير فراقك, وإدوار لا
يزال يحبني وينزل عند رغباتي, لا أكتمك يا سوزان أني كنت أشعر في نفسي ببعض الحزن
على ذلك الفتى المسكين الذي لقى في سبيلي الشقاء العظيم الذي تعلمينه, ولقد سررت
اليوم سروراً عظيماً حينما علمت أنه نسي الماضي وأنه قد عاد إلى رشده وصوابه,
وأصبح يعيش في بيته الذي بناه عيشاً هادئاً ساكناً لا يمازجه حزن ولا كدر, بل سمعت
أنه يشتغل بفن الموسيقى, وقد برع فيه براعة غريبة لا يبلغ مبلغه فيها إلا القليل
من الناس, فحمدت الله كثيراً.
من
ماجدولين إلى سوزان .. أنعي إليك مع الأسف والدي, فقد مات رحمة الله عليه
بعد مرض لازمه خمسة أشهر, وهذا ما حال بيني وبين الرد على رسائلك فسامحيني وابكي
معي ذلك الأب البار. ولكني عجبت كل العجب وامتلأت نفسي دهشة وحيرة أني وجدت بين
كتب التعزية بوالدي كتاباً من استيفن يعزيني فيه أجمل تعزية وأرقها, ألا تعجبين
معي يا سوزان لهذا الإنسان الغريب ؟
من
ماجدولين إلى سوزان ...أشعر يا سوزان منذ مات أبي أنني ضيقة الصدر خائبة النفس,
وما أدري ما الذي طرأ على إدوار, فقد تغير بعض التغير عما كان عليه, وصارت
ابتسامته مزيجاً من المجاملة والحب, وأصبح يستهجن في محادثاتنا أكثر ما أستحسن,
ويستحسن أكثر ما أستهجن, كأنما يتعمد مغايظتي ومحادتي, وأصبح لا يهتم بي .
لقد
صدقتْ ماجدولين فيما قالت, فقد ملها إدوار بعد عامين اثنين من زواجه منها, وبرِمَ
بها وانتهى أمره معها بما ينتهي كل زوج تعقده يد الشهوة. وعرفت ماجدولين أن الصلة
التي بينها وبينه إنما هي صلة الزوجة بالزوج لا صلة القلب بالقلب, فعرفت أنها لم
تحسن الإختيار لنفسها, وأن شقاءاً طويلاً ينتظرها فيما بقي لها من أيام حياتها .
إنتشر
لاستيفن صيت بعيد في جوتنج وما يليها من البلدان, وامتد إلى كوبلانكس, فدر عليه
الرزق بعد تلحينه للقطع التمثيلية الكثيرة, وسال واديه بالذهب سيلاً. وكان أبوه قد
مات وورثّه تلك الصيابة من المال التي كانت في يده, وتغيرت به الحال إلى الأفضل
....إلا أنه ومع هدوء الليل تمر أمامه جميع آلامه القديمة, فيخيل إليه أنه يعيش
متقطعاً عن العالم لأن ماجدولين ليست بجانبه, وأن ما يتمتع به من مجد ومال لا قيمة
له عنده لأنها لا تقاسمه إياه, فتمتليء نفسه غماً وحسرة, فهو يجمع لها في قلبه في
آن واحد بين عاطفتين مختلفتين, عاطفة الرضا, وعاطفة السخط, فهو يحبها لا يستطيع
مقاطعتها, ويجد عليها فلا يريد أن تشعر بحبه إياها .
من
ماجدولين إلى سوزان ... قد اطلعت منذ أيام قلائل على سر هائل ليتني مت قبل أن أعرف
منه حرفاً واحداً, قد أفلس إدوار وباع جميع ما يمتلك ولا تزال عليه بقية من الدين
لا سبيل له إلى أدائها, فاعترف لي بعدما راوغته وقال : لقد أفلس من المقامرة
والمضاربة, وقال لي أيضاً : إنه لم يخطيء في حياته إلا في أمر واحد, وهو أنه تزوج
من زوجة فقيرة لا تستطيع أن تمد يد العون له. إنني لا أبكي على نفسي يا سوزان بل
على ذلك الجنين المسكين الذي يختلج في أحشائي, لقد أصبحت لا أسأل الله إلا موتة
عاجلة تريحني وتريحه من شقاء الدنيا وعنائها .
مرض
إدوار على أثر تلك النكبة التي نزلت به مرضة شديدة, فوقف بجانب محنته تلك وقدم له
العون صديقه ذو القلب الطيب استيفن. واقترح عليه استيفن ,والذى قد لازمه مدة
مرضه, أن يسافر معه إلى جوتنج ليفرج قليلاً مما به, وفعل ذلك وسافرت معهما
ماجدولين حتى بلغوا إلى البيت الذي بناه استيفن. وبينما استغرق إدوار في نومه ولجأ
بستاني الحديقة إلى مخدعه بقي استيفن وحده مع ماجدولين, وتحادثا طويلاً, وبعد حديث
طويل علمت أنه لا يزال يحبها ويستهيم بها وأنه تحبه حباً يستعبدها, فقضت في مضجعها
ليلة ليلاء ما يكاد يغرب لها نجم .
من
ماجدولين إلى سوزان ... إستيقظتُ في صباح يوم من الأيام فذهبت إلى مخدع إدوار فلم
أجده, ثم سألت عنه الخدم فأخبرني أحدهم أنه لمحه خارجاً في الغلس من باب القصر
وبيده حقيبة سفر, ولا يعلم أين ذهب. ثم علمت بعد ذلك أنه باع القصر إلى أكبر
غرمائه وأخذ بقية ثمنه وهرب. وقد أرسل إليّ مالك القصر الجديد ينذرني بالخروج بعد
شهر واحد, لم يبق لي في العالم مَنْ أعتمد عليه أو أرجو معونته سواك. أنتظر كتابك
خاصة أني بآخر شهور حملي ؟.
من
فردريك إلى ماجدولين .. أكتب إليك كتابي وسوزان في أشد حالات مرضها, أمرني الطبيب
أن أجنبها كل ما يؤثر في نفسها من سرور أو حزن, فرجائي إليك أن تنتظري بحضورك بضعة
أسابيع حتى أحتال للأمر أو تهدأ عن سوزان علتها .
قرأت
ماجدولين ذلك الكتاب ووقع في نفسها أن سوزان ليست بمريضة إنما تريد التخلص منها,
فقد صادفت فتاة من صواحبها فسألتها ماجدولين متى كان آخر عهدها برسائل سوزان فقالت
: قد جاءني بالأمس منها كتاب تُهنِّئني بعيد ميلادي, وتقترح أن أسافر إليها, فصمتت
ماجدولين وقالت : لا عتب عليها إنما هي الإرادة الإلهية تأبى إلا أن تجازيني غدراً
بغدر ..
بعدها
بأيام رجعت ماجدولين إلى مدينتها واستأجرت الغرفة العليا في بيتها, الذي باعته
لسداد بعضاً من ديون زوجها إدوار, والتي كان يقطن بها استيفن, وما هي إلا أيام
قلائل حتى جاءها المخاض فولدت طفلة جميلة, وما كادت تنهض من نفاسها حتى جاءها
الخبر بأن إدوار قد انتحر شنقاً في فندق في شيكاغو على أثر ليلة قضاها في المقامرة
وخسر فيها كل ما كان بيده من المال .
وصل
كتاب من أحد أصدقاء استيفن فيه خبر وفاة إدوار, ويقص عليه قصة سفره وانتحاره, فحزن
عليه حزناً شديداً ورأى أن يعود ليرى ما حل بماجدولين, فتقصى فى أخبارها حتى عرف
عنها كل شيء وأنها تعيش مع طفلتها عيش البؤس والشقاء في الغرفة العليا, واستحال
غضبه ونقمه إلى رحمة وشفقة, فأخذ طريقه إلى بيت الشيخ مولر حتى بلغه, وعندما رأى
ماجدولين قالت له : لقد كنت أحتمل هذه النكبات كلها بصبر وجلد لو أنك عفوت عني يا
استيفن, فقال : أما العفو فإني لا أستطيعه لأني لا أستطيع أن أنسى . ثم تركها في
المكان وأعطى البستاني كتاباً مختوماً ليعطيه لماجدولين وذهب في سبيله .
ذهب
استيفن إلى بيت صديقه فرتز. وفي الصباح مرت على مقربة من زوجة فرتز إمرأة مقنعة
تسرع في مشيتها وتتعثر في ذيلها, فعجبت لأمرها ولكنها لم تحفل بها, ودخلت الحديقة
فراعها أن رأت في دهليز البابا سفطاً صغيراً كأن فيه شيء يضطرب, دنت منه زوجة فرتز
فرأت طفلاً رضيعاً, فأسرعت زوجة فرتز إلى استيفن لتخبره بالأمر, فداخله ريب عظيم,
ورأى استيفن بجانب الرضيع كتاباً مختوماً أخذه وقرأ في عنوانه *من ماجدولين إلى
استيفن* ففضه ولمح بين سطوره كلمة الموت فأسرع في الطريق التي مشت به ماجدولين كما
أخبرته زوجة فرتز حتى أشرف على النهر فرأى خلقاً كثيراً مجتمعين على ضفته وكلهم
يشير إلى الماء, فرأى استيفن الغريقة تضطرب في الماء ثم اختفت, فنزل إليها وكان
فرتز يتجه بالزورق نحوها, وأخرجاها إلى ضفة النهر. واكب الناس عليها يتسمعون ضربات
قلبها, ويتلمسون أنفاسها, ثم أخذوا يهمهمون بصلواتهم فعلم استيفن أن الأمر قد
انتهى. ومشى بالجثة إلى المنزل, فصعد إلى الطبقة العليا ودخل إلى الغرفة الزرقاء
فأضجعها على ذلك السرير الذي كان بالأمس سرير عرسها, فأصبح اليوم لحدها الأخير.
وظل بضع ساعات لا يتحرك حتى حلت ساعة الدفن, فأكب على الجثة وكشف عن وجهها, وتناول
من فمها تلك القبلة التي كانت تحرمها عليه الحياة حتى أحلها له الموت, ثم سقط
مغشياً عليه.
أصبح
منذ ذلك اليوم خائر النفس, منقبض الصدر, كئيباً مستوحشاً, ينظر إلى الحياة نظر
الغريب النازل بدار لم يطرقها من قبل, فهو يعد عدته للرحيل عنها. وبعد أن انقطعت
أخبار استيفن عن كوبلانس وأنديتها ومجامعها تساءل عنه أصدقاؤه حتى عرفوا بقصته
فأشفقوا عليه وأجمعوا رأيهم على زيارته في قريته, فاستقبلهم استيفن باسماً كأنه لا
يضمر بين جنبيه لوعة ولا أسى, فجلسوا على المائدة التي أعدها لهم وأخذوا يتحادثون
عن حياة بيتهوفن, وبعد أن فرغوا من الحديث قال استيفن : هل تأذنون لي أيها
الأصدقاء أن أسمعكم لحن بيتهوفن الأخير الذي وقّعه في آخر ساعات حياته ؟ وتوجه إلى
البيانو وما أتى على النغمة الأخيرة وكانت أعلى النغمات حتى نهض القوم جميعاً على
أقدامهم وأخذوا يصفقون ويتدافعون لتهنئته, وإذا بهم ينظرون إليه فيرونه مائلاً
برأسه على ظهر كرسيه, وقد اقشعر وجهه وتغيرت سحنته, فتشاءموا وانقبضت نفوسهم. فتح
عينيه بعد ساعة ونطق بإسم فرتز فلباه ثم نادى ماجدولين الصغيرة وضمها إلى صدره
وقبلها قبلة امتزجت فيها عاطفة الرحمة بعاطفة الذكرى, ثم نظر إلى السماء وإلى فرتز
مرة أخرى وكأنما يوصيه بالطفلة, ثم قال : أشهدكم أن جميع ما تملك يدي قسمة بين
هذين وأشار إلى فرتز والطفلة, ثم قال : أوصيك يا فرتز أن تدفني مع ماجدولين في
قبرها, وأوصيك بالصغيرة أن تحميها مما تحمي منه أهلك وولدك, حتى إذا يفعت زوّجتها
من الزوج الذي تختاره لنفسها. وأوصيكم جميعاً ألا تحزنوا على موتي, فإنني وإن قضيت
حياتي شقياً فها أنتم ترون الآن أنني أموت بينكم سعيداً, وكان هذا آخر ما نطق به.
ثم أسلم روحه .....
هكذا
انتهت حياة هذا الرجل العظيم الذي قتل الحب جسده, ولكنه أحيا نفسه وسجلها في سجل
النفوس الخالدات. أما أسرة فرتز فقد سعد حالها, وأصبحت في نعمة واسعة من العيش,
وأما ماجدولين الصغيرة فقد تولى فرتز شأنها ورباها مع ولده برنار تربية قروية
ساذجة بعيدة عن مفاسد المدنية وآفاتها حتى شبّا فتحابا حباً شريفاً طاهراً, وانتهى
بهما الأمر إلى الزواج فعاشا أسعد عيشة وأهنأها. وأما المنزل فقد اشترته جمعية
الموسيقى الملوكية في برلين, ولا يزال حتى اليوم مزاراً يزوره الناس ويشاهدون فيه
آثار التاريخ, ويرون حديقته, وأزهار البنفسج المنتشرة في أنحائها, والحوض المقام
في وسطها, والمقعد الذي جلس عليه استيفن وماجدولين, والغرفة الزرقاء التي كانت
غرفة عرس ماجدولين أولاً, ولحدها أخيراً .... فاذا فرغوا من زيارة المنزل ذهبوا
إلى المقبرة فزاروا ذلك القبر الذي دفن فيه الشقيان البائسان, فيبلل تربته بالدمع
منهم من نكب في حياته بمثل نكبتهما, أو عاش فيها شقياً كعيشهما .