الأحد، نوفمبر 19، 2017

محرز راشدي يكتب: التّشابه والاختلاف نحو منهاجيّة شموليّة (عرض وتقديم)


المقدّمة:
لعلّه غير خاف على دقيق الملاحظة أنّ الأبحاث العلمية الجادّة هي رشح عن طرح طريف متماسك فارق التّبسيط و التّسطيح. ومثل هذه الأبحاث تختزن قلقًا فكريًّا قمينًا بإخراج البنية الثقافية العربية من عطالتها حتّى تتمثل اللّحظة التاريخية التي تنتمي إليها.
وإذا سلّمنا بأنّ هذا التّخريج عابر للثقافات، فإنّ اهتمامنا سيدور مدار دراسة عربيّة نعتقد أنّها على درجة من الخطورة كبيرة، والرّهان عليها ليس رديفًا للبذخ المعرفي. ونحن إنّما نقصد بذلك كتاب ''التّشابه والاختلاف: نحو منهاجية شمولية'' للدّكتور محمّد مفتاح هذا الباحث الّذي ثُمّنت كتاباته في غير مناسبة، لأنّها تقوم على التّكذيب لا التّصديق، وطرح البدائل، هو شرط واجب الوجود في صياغة النّظريات العلمية.
وإذ نروم متاخمة هذا الكتاب دون سواه، فلأسبابٍ ثلاثة جماعها: طرافة الطرح أوّلا، فاستغلاقه ثانيا، والاعتراف بالآخر ثالثًا.
أمّا السّبب الأوّل فمؤدّاه أنّ دراسة محمّد مفتاح ليست تنويعًا على الموجود بل تحقّق الإضافة لما هو موجود، خاصّة أنّها ربيبة قلق فكري يدّعي الفرادة العلمية، وآية ذلك أنّ ''التشابه والاختلاف'' يتوفّر على أجوبة تبدّد حيرة قراء كتاب '' التلقّي والتّأويل: مقاربة نسقيّة '' لنفس المؤلّف.
ومن ثمّ تتّأتى أهمّية المدوّنة التي عليها نشتغل، إذ هي تكسير للمراتيج، وتبديد للمجاهيل، بأن تصدّى صاحبها للخلفيّات النّظرية فبسطها بذكر المبادئ والمفاهيم، وبيّن القصد من تصنيف العلوم، وترتيبها، وتدريجها. 
وأمّا السّبب الثّاني الذي أغوانا بمزاولة هذا الكتاب، فيتجلّى في محاولة فتح مستغلقاته، خاصّة أنّ هذا المتن جيّش نظريّات مختلفة المشارب، ذات أجهزة مفاهيميّة غريبة عن القارئ العربي، وربّما عصيّة عن الفهم.
وثالث الأسباب مرجعه أنّ اهتمامنا بهذا الكتاب هو فعل انخراطٍ في ثقافة الاختلاف مع الآخر، وعدم السّكوت عنه في آنٍ، وكذا هو فعل تنسيبٍ للحقيقة وهو أمر يغني الفعل النّقدي، ويعبّر عن دينامية السّاحة الفكرية العربية.
وبعامّةٍ كتاب "التّشابه والاختلاف" في رأينا، حريّ بالتّدبر لما احتوى من مفاهيم ومواقف متينة، وأطروحات راوحت بين التّقويض والتّأسيس، تحوم في فلك الظاهرة الثقافية والأدبية في البيئة العربية، خاصّة أنه ينطلق من رؤيا للعالم أشمل في إطار منهاجية شمولية لطرح إشكالية مدارها دفع الأغلوطة الانطولوجية والأغلوطة التّشييدية المتطرّفة.
وسيتّبع عملنا الخطوات التّالية:
- النّظر في المنهج المتّبع في الكتاب.
- ملاحقة أمّهات الأفكار المطروحة.
- المسك بجملة النّتائج الّتي بلغها الباحث.                                               
منهج الكتاب:
يبتدئ محمّد مفتاح كتابه باستهلال ولأنّه على قدرٍ من الأهمّية سنسجّله بحرفيّته:
"اعرف حقائق الأمور بالتّشابه فإنّ الحقّ واحد، ولا تستفزنّك الأسماء وإن اختلفت". (أبو حيان التّوحيدي ، المقابسات ، المقابسة 26)
"التّشابه يسبق الاختلاف" "التّشابه أقدم من الاختلاف" . (غريغوري باستون، الطّبيعة والفكر)
هذا الاستهلال في اعتقادنا ليس عفو خاطرٍ، وإنّما الهدف منه توريط القارئ في القضية المطروحة وقوامها أسبقية التشابه على الاختلاف، ولئن طفا الاختلاف على السّطح فإنّ التّغلغل في البنية العميقة يبين التّشابه ويقرّه. وبالاستناد إلى منهج نقد النّقد، قدّم المؤلّف لكتابه ببسط أسباب التّأليف، لينعطف إلى الحديث عن انتظام الكون لينزع عن عنوان الكتاب "التّشابه والاختلاف: نحو منهاجيّة شموليّة" عباءة الغموض، إذ تعتمد المنهاجيّة الشّموليّة على رؤيا للعالم أشمل، والرّؤيا للعالم هذه تؤكّد أنّ الكون انتظام، وقد اعتمدها القدماء لتحليل الكون إلى مكوّناته، وعناصره، لمعرفة ماهيّتها، ومكانتها، وعلائقها، وأدوارها، ولدرك القوّة المتحكّمة فيه.
ثمّ كانت مرتكز المحدثين للكشف عن البنية العميقة المشتركة، الثّاوية خلف ما في الكون جميعه، وفي هذا المضمار نذكر النظريات السّيميائية، والبيولوجية، والفيزيائية، والفلسفية، والنّسقية.

ولئن راجت مفاهيم كثيرة حول هذه الرّؤيا، فإنّ الكتاب يتصدّى لمفهوميْن رئيسيْن "أحدهما الدّينامية بما تحتويه من تفاعل ونموّ وتنام وفوضى وعماء، وثانيهما الانتظام بما يقتضيه من هيمنة وتراتب واختلاف..." (1) ويذكر أنّ أهمّ نظرية حاولت أن تتبنّى هذه الرّؤيا الشمولية هي النّظرية العامّة للأنساق، إذ حاولت أن تصوغ مبادئ عامّة، صالحة لكلّ الانتظامات، ممّا قلّل التّعارض بين الباحثين، وسهّل الرّبط بين الظواهر والمعارف، والتّوصل إلى تأويلات راجحة.
وفي معرض تحليله لبعض المفاهيم، تصدّى لمفهوم "طبيعة العلاقة" فبسط من خلاله خواصّ العلائق ودرجاتها، وأثبت أنّ خاصّة العلاقة ودرجتها تتحدّد بطبيعة المنطلق (الشّيء). وهذه العلاقة تتحكّم في درجتها طبيعة التّرتيب الّذي لا يكون على منوالٍ واحدٍ أوحد، وإنّما يتنوّع أنواعًا. هذا التّرتيب بعضه يوسم بالقوّة والبعض الآخر ميسمه الضّعف، وكلّ منهما تتحكم فيه خلفيّات فلسفيّة ومعرفيّة وعمليّة، ولعلّ أشهر أنواعه "التّرتيب الخطي" و"التّرتيب الشّجري" و"التّفاعل الدينامي" و"التّجاوري".
فـالتّرتيب الخطّي يبتدئ من منطلق تتوالد منه رتب متتالية، متدرّجة، وكأنّها درجات سلّم قائمٍ أو ممدودٍ، وأمّا التّرتيب الشّجري فيضارع شجرة لها إمكانات كثيرة للانشطار، وللتشّعب إلى فروع متكاثرة.
وهذان التّرتيبان - حسب محمّد مفتاح - يتوفّران على قدر من التّفاعل، إلاّ أنّ أقصى درجات التّفاعل تنجلي في التفاعل الدّينامي "حيث تكون هناك عمليّات معقدة متفاعلة متشابكة من العلائق" (2)، وخلاف ذلك الترتيب التّجاوري الّذي يعتبر أن كلّ وحدة إدراكية أو معرفية أو لسانية هي عملية مستقلّة عن باقي الوحدات الأخرى.
وثاني المفاهيم الذي حلّل المؤلّف ماثل في "طبيعة الاشتراك" الّذي أقرّ من خلاله وجود علاقة مشتركة بين العناصر، والمجموعات، مع اختلاف في درجات الاشتراك. ويبدو أنّ طبيعة العلاقة وطبيعة الاشتراك تتحكّم فيهما رؤيا فلسفية، ودينية، ومنطقية، ولغوية، رتّبت عالمها بطرقها الخاصّة.
وما يروج من مفاهيم مستحدثة من قبيل: التّشعب، العماء، الفوضى... يفترض أنّ خلفه نظامًا عميقًا تنكشف معالمه من خلال عدّة جوامع.
إذ في ضوء الجامع الأنطولوجي يصير إثبات العلاقة والاشتراك تحصيل حاصلٍ، والفصل ليس إلا إجراءً محظًا، مؤقتًا، بعديًّا.
والجامع الصّوري وإن لم يصل إلى مستوى الجامع الأنطولوجي إلا أنّه هو بدوره جامع تأسيسي وضعه بعض الأنتروبولوجيين، والنّسقيين، لإثبات تشابه الكائنات والمكونات في بعض الصّفات. ويضيف المؤلّف الجامع الشّبهي الذي يرتدّ بنا إلى نقطة البدء باعتباره صدى لمبدأ وحدة الكون.
وتبعًا لهذا فإنّ المبادئ الثلاثة متراتبة، مترابطة؛ فما أسماه بالجامع الأنطولوجي أهمّها، باعتباره شاملاً لكلّ ما في الكون في حالة عمائه، وما وسمه بالجامع الصّوري يرصد مظاهر الاشتراك والتّشابه في المجالات المتمايزة، وما سمّاه بالجامع الشبهي يوظف التشابهات المعطاة وقد يوجدها من أجل تحقيق المبدأ الأنطولوجي. ونتيجة للمفاهيم الثلاثة التي ألمحنا إليها يضحي مفهوم الانتظام شاملا للحيّ واللاّحي "بالطبيعة" أو بالتشييد من قبل المنظرين، والباحثين، الّذين حاولوا إرساء قوانين تمنع التّطورات الّتي تخلق الفوضى.
وبناء على ذلك يناقش المؤلّف مسألة القطائع الابستيمولوجية في ضوء الاتصال والانفصال، فيذهب إلى أنّ القطيعة الجذريّة، أو الانفصال التّام، لا يقول به إلا قلّة لأسبابٍ إيديولوجية، وأمّا الكثرة فتعترف بالاستمرارية، وأمّا ما يظهر من قطيعة فليس إلا هيمنة.
وكلّ هذه المفاهيم حسب صاحب الكتاب يمكن توظيفها في تحاليل ثقافية مختلفة مثل إثبات نسقية الثقافة، وكلّ ما تقدّم ذكره يمثل عتبةً للدخول إلى "المنهاجية الشمولية" حتّى يتسنّى لنا إحلال كلّ بنيةٍ أو عنصرٍ ضمن النّسق العام، ونتجنّب المقاربة التجزيئية الّتي تهتمّ ببعض العناصر وتلغي البعض الآخر.
الفصل الأوّل: التّدريج
استهلّ الكاتب هذا الفصل بالتطرّق إلى بعض الإشكاليات الّتي يطرحها الخطاب، ليتخلّى عنها ويقتصر على ما يمكن أن يعينه في حلّ المشكل الرّئيس، متمثلاً في دفع الأغلوطة الأنطولوجية والأغلوطة التشييدية المتطرّفة، فحدّد أولاً معنى النصّ، ومعنى الخطاب، وأقرّ التّمايز بينهما في اللّغتين الفرنسية  والأنجليزية، وبالرّجوع إلى الأصوليين لاح له أنّ اللّغة العربية من موقعها تقيم تمييزاً بينهما فـ"الخطاب عندهم يشمل النصّ أيضا، وإذن، فالخطاب أعمّ من النصّ" (3).
ومن ثمّ صاغ المؤلّف تعريفًا للخطاب، جماعه أنّ الخطاب عبارةٌ عن وحداتٍ لغويّة طبيعيّة موسومة بالتّنضيد والاتّساق والانسجام. وإذ يتّجه اهتمامه وجهة الخطاب، فإنّه نظر في استراتيجيّات تفكيكه، ومنها الاستراتيجية الفرنسية، حيث تعرّض للمنهاجية الكريماصية، واستخلص منها بعض الخصائص الخطابية أهمّها: السّردية، الدّينامية، الانغلاقيّة أو الدّورية، انسجام الخطاب.
كما ذكر، في السّياق ذاته، منهاجيّة تحليل الخطاب السّياسي القائمة على تحليل الخطاب لـ"هاريس" ودراسات "إميل بنفنيست" و"جاك ديبوا" وغيرهم. وقد اهتمّت بالخطاب السّياسي تحليلاً وتنميطًا.
وهاتان المنهاجيّتان، حسب الكاتب، متكاملتان متفاعلتان.
وزيادة على الاستراتيجية المذكورة آنفاً، رصد المؤلّف بعض النّماذج النّظرية ضمن الاستراتيجيّتين الأنجليزية والألمانية، وهي تهدف في جملتها إلى وصف ترابط الخطاب مهما كان جنسه، واسترساله، وعلائقه الدّلالية، ونموّ موضوعاته وخصائصه. وينضاف إلى المستوى النّظري مستوى إجرائيّ ماثل في نموذجين ألمانيّين تجريبيين: الأوّل من خلال كتاب (مدخل إلى اللّسانيات النصّية) تناولا فيه صاحباه "روبرت دوبوكراند" و"فولفكانغ دريسلر" أهمّ مفاهيم تحليل الخطاب، والنموذج الثّاني يمثله "شميت" من خلال كتابه ( أساس لدراسة تجريبيّة للأدب: مكوّنات النّظرية الأساسية).
ثمّ كانت للمؤلف وقفة عند نموذج التّماسك وهو يبحث في تماسك الخطاب، وتدليلاً على ذلك قدّم لنا نموذجيْ "هاليداي" ورقيّة حسن" اللّذين حصرا مظاهر التّماسك في خمسة أنواع كبرى وهي: الإحالة، الإبدال، الإيجاز، العطف والتماسك المعجمي.
هذا النموذج وسّعه "دجين سو نشا" وأسمى نموذجه "النّموذج التّماسكي النّسقي الموسّع"  وافترض أربعة مستويات للتّماسك، وهي المستوى المعجمي والنّحوي والدّلالي والسّيميائي.
هذه النّماذج جميعها تخطّت تحليل الجملة إلى تحليل الخطاب، فالتمست انسجامه بمفاهيم مختلفة مثل: التّماسك، التّشاكل، تسلسل الأحداث.
وعقب هذا العرض اقترح "محمّد مفتاح" استراتيجيّته وهي: دفع الأغلوطة الأنطولوجية ودفع الأغلوطة التشييدية المتطرّفة. فانطلق من إبراز بعض خصائص الخطاب الّتي منها تداخل التخاطب،  وعليه أقرّ وجود علاقةٍ قد تكون بين خطابيْن، أو أنواع  من الخطابات ممّا يفرض أن يكون هناك خطاب أصليّ، وأنواع من الخطابات فرعيّة. وقد يستخلص من الخطاب الأصلي - إذا كان كاملاً ونموذجيًا –
أمثل بنية مجرّدة تصير هي البنية المرجعيّة للبنى الفرعيّة الأخرى، وقد يُستخلص من مجمل أنواع الخطاب البنية المجرّدة فتصير نسقًا مغلقًا.
ومن المفاهيم الأخرى للاستراتيجية المقترحة مفهوم التّنسيق، إذ بالإمكان أن يوصف أيّ خطاب (نصّ) بأنّه نسق، وإذا كان من المسلّمات أن يُلحق بالنّسق ميْسم الانغلاق، فإنّ محمّد مفتاح يميل إلى كون الانغلاق الاصطناعي لا يعدم انفتاح النّسق اللّغوي، لأنّه مشدود إلى حاجات المجتمع المتبدّلة.
وكذلك نجد ضمن خصائص الخطاب خاصّة الإضمار وهذه الظاهرة هي من ماهية اللّغة الطبيعية نفسها، إذ يستحيل على اللّغة - أيّة لغة – أن تقول الواقع بكلّ دقائقه، ومن ثمّ تأتّى أهمية الحديث عن سدّ الفجوات وملء الثغرات. وفي هذا الصّدد نمّط البياض خمسة أنماطٍ هي كالآتي:
-         عدم التّحديد الذي لا أهمّية له.
-         شعور القارئ بثغرة في الخطاب.
-         حذف أشياء من الخطاب حتّى يسهم القارئ في تشييد معناه.
-         شعور القارئ بدلالات متناقضة في الخطاب.
-         عدم استطاعة القارئ تشييد دلالة واحدة.
ولا ضير إذن أن يعتبر الكاتب اللّغة الطّبيعية تضمر أكثر ممّا تعبّر، وتلبس أكثر ممّا توضّح، وتقتطع أكثر ممّا تستوفي.
علاوةً على ما سبق الخوض فيه نجد مفهوم الدّينامية، إذ أنّ النّسق ديناميّ من حيث الانطلاق من بنية ثابتة لتحقيق بنيات صغرى، هي من بنات البنية الوالدة، وهو ديناميّ أيضًا من جهة أنّه يمكن بناء بنية مجرّدة من عنصرٍ واحدٍ، أو من عنصريْن أساسيّين.
هذه الدّينامية محكومة بالمرجعية الذّاتية والتّنظيم الذّاتي.
وأمّا تعدّد القيم فيعتبرها الباحث خصيصة الخائص، وهي مواضعة تعدّد قيم الخطاب الأدبي.         ومؤدّى هذه الخصيصة أنّ اختلاف قراءات الفرد الواحد، أو قراءة مجموعة أفراد عن مجموعة أفراد آخرين، لا ينفي الجامع بينهم وهو المواضعة الجمالية. وتعدّد القيم يدفع الأغلوطة الأنطولوجيّة، والمواضعة تدفع الأغلوطة التّشييدية المتطرّفة، بما تتوافر عليه من بعض المبادئ والقواعد.
وخامس المفاهيم وآخرها ضمن استراتيجية الكاتب هو مفهوم الوظيفة، إذ أنّ الأدب في مساره التّاريخي المديد أسندت له وظائف مختلفة، فقد كانت وظيفته عند العرب مثلا خدمة القبيلة أو العقيدة أو التّحريض...
تأسيسًا على ما سلف يبدو أنّ فعل القراءة والتّأويل ليس واحدًا أوحد، ذلك أنّه وراء كل قراءة استراتيجيّة وأهداف معيّنة. فنجد القراءة الإيديولوجية، والقراءة الجمالية، والقراءة الأنتروبولوجيّة، والقراءة المعيارية الهادفة إلى التّرجمة الدّقيقة والفورية، والقراءة التي ترمي إلى تنظيم الذّاكرة الدّلالية.
الفصل الثّاني: الانتظام
تحت هذا العنوان نظر "مفتاح" في بعض الأطروحات المهتمّة بكتب المنتخبات والكتب الجامعية والكتب المتعدّدة المواضيع، ثمّ أردف ذلك باقتراح أطروحته الخاصّة.
الأطروحة الأولى تسم تلك المنجزات بالتّشتت والاضطراب المطلقيْن، وقد سلك هذا المسلك كلّ من "أحمد أمين" وإبراهيم الكيلاني" وبصفة متأخّرة "محمّد عابد الجابري".
من هذا المنظار نُظر إلى كتاب (البصائر) لأبي حيّان التوحدي، وادّعت هذه الأطروحة أسبابًا لهذا التّشتّت: منها موسوعية المؤلّف، وتكوين الأديب النّديم الذي يجب أن يأخذ من كلّ فنٍّ بطرفٍ، ومنها تحقيق مزايا للمؤلّف والقارئ والثقافة، ومن الأسباب أيضًا اعتبار الكتاب حكاية للتّشتت السّياسي والاجتماعي، ولا نسقيّته محاكاة للانسقيّة الأوضاع السّياسية.
هذه الأسباب، حسب الكاتب، وإن لم تكن خاطئة كلّ الخطأ فهي سطحيّة، إذ لم يقع النّظر في العلل العميقة.
وأمّا الأطروحة الثّانية فتنعت المؤلّفات المشار إليها سابقًا بالتشتت والاضطراب النّسبيّين، وفي هذا الاتّجاه يذكر المؤلف الدّكتورة "وداد القاضي" الّتي رأت أنّ كتاب (البصائر) يفتقر إلى أيّ نوع من التّصنيف أو التّرتيب، ووجود بعض الفقرات المتتالية المنسجمة هو استثناء على القاعدة. وليس بعيدًا على ذلك "مارك برجيه" الّذي يئس من العثور على نظام خاصّ في أعمال التّوحيدي، ففحصها في فوضاها وتلقائيّتها كما هي فوضى حياة التوحيدي وتلقائيّته.
بيد أنّ الأطروحة الثّالثة تقف على الضفّة النّقيضة للأطروحتين السّالفتين، ذلك أنّها تثبت البنية والوظيفة، وخير دليل على ذلك مساهمة "محمّد أركون" حول ما أنجزه بخصوص آثار مسكوية، وقد أبان الوحدة العميقة في أعمال الرّجل.
تبنّى "مفتاح" المقدّمات التي انطلق منها "أركون" والنّتائج الّتي انتهى إليها، وهي التي ستكون مرتكزه للبرهنة على وحدة كتاب (البصائر) السّطحية والعميقة. فيرى أنّ الكتاب "عالم سفلي محاكٍ لعالم علوي وفكري"، بين عناصره تعالق وتباين، وذلك من خلال عدّة مظاهر: أوّلها الإحالات التي اعتبرها أهمّ التقنيات الّتي وظفها المؤلّف لينبّه القارئ إلى ترابط كتابه، وتشارح فقراته، والإحالة نوعين، بعديّة   وقبليّة. ثانيها إقامة كتابه على ثنائية الجدّ والهزل، فهي وحدة تجريدية جامعة، كلّ ما ورد في البصائر يتلخّص فيها. وثالثها دراية المؤلّف بشروط التّأليف، وبقواعده، ومراميه. ورابعها مراعاة شروط الجنس الّذي يؤلّف فيه، والتّوحيدي يؤلّف كتابًا في الأدب، والأدب في عهده هو جماع الثقافات الإنسانية المعروفة عصرئذٍ. وخامسها، عبّر عنه بالخلل الّذي عمّ الوقت، من قبيل التّناحر بين الفرق، وما وقع من أحداث وثورات. وأخيرًا ضروب الخلاف التي تسبّبت في مماته وتشويه سمعته بعد مماته.
من ثمّ، تسقط تهمة التشتت والاضطراب عن كتاب البصائر وتظهر وحدته، ومن مظاهر هذه الوحدة أنّ الكتاب هو حكاية لمثالٍ، وقد تأثّر التّوحيدي بالفلسفات التي كانت تربط بين أشياء أو كيانات لا رابطة ظاهرة بينها، وتجلّيات هذه الفلسفات تتّضح في تراتبيّة العالم وتطابقاتها، وتراتبيّة العلوم وأهدافها، وتراتبيّة الكائنات ومراميها وأخيرًا التراتب والحقّ في الوجود.
زيادةً على ما تقدّم ذكره يفترض "مفتاح" أنّ "البصائر مسرح لواقع إنسانيّ عميق ولواقع نصّي سطحي". أوّل دليلٍ على هذا الواقع العميق يتمثّل في الإواليّات الأنتروبولوجية مثل الشّراب والطّعام والجنس... وهي متحقّقة في الكتاب بالفعل أو بالقوّة. والدّليل الثّاني حاصل في الإواليّات الثّقافية، وهي الّتي تعبر بالفرد من مرحلة الآدمية إلى مرحلة الإنسانية، ومثالها الأجلى الفضائل، ونسقية كتاب البصائر تحقّقت من خلال أجناس الفضائل الأربع (الحكمة والعفّة والشّجاعة والعدالة) وبطرفيها. وثالثا نجد الإواليّات التّعبيرية، وهي من جهة حقّقت الالتحام والانتظام، ومن جهة أخرى عزّزت الاختلاف والتّباين، حتّى لا يكون الخطاب تحصيل حاصلٍ.
وإذ يقف الكاتب عند الواقع النّصي السّطحي، فإنّه يرتكز على آليّتيْن يسمّي الأولى "الانضباط الذّاتي" أي أنّ النصّ متوفّر على آليات تضمن ثباته، ويسمّي الثانية "التّفاعل" وهي نتيجة مفادها أنّ الإواليّات  والآليّات برهنت على انتظام كتاب البصائر خطّيًا، كما برهنت آليّات أخرى على انتظامه  موضوعيًّا.
الفصل الثّالث: التّوازي
بعد اطّلاعه على بعض المعاجم المختصّة، تبيّن مفتاح أنّ التّعريفات الّتي تقدّمها للتّوازي ترتكز على خاصّة التّشابه بين المتوازيين في الشكل، والتّسلسل في الزّمن، والتّرادف في المعنى أو التّضادّ فيه، أو الجمع بين التّرادف والتّضاد.
ودراسات التّوازي في جملتها دارت حول الشّعر فيما أهملت النّثر، هذا بالإضافة إلى أنها لم تصغ مفاهيم إجرائيّة تكفل دراسة التّوازي في نصوص شعريّة كاملة. لذلك بادر المؤلّف باقتراح مفاهيم وصفيّة ترصد طبيعة التّوازي، ودرجاته، وعلائقه، منطلقًا من التّوازي المقطعيّ الطّباعي إلى شبه التّوازي الخفيّ وإلى ما بينهما، بناءً على معايير لغويّة ومفاهيم وسيطة.
وتتمّةً لهذه المهمّة انطلق من "نحو الحالات"، إذ أبانت هذه المقاربة عن شموليّة التّوازي بين البنيات التّعبيرية المتوالية في النصّ جميعه، ولكنّ درجاته تختلف تبعًا لضرورة آليّات نموّ النصّ وتناسله المحكومة بسيرورة الجذب والإبعاد، والاشتباه والاختلاف.
وليختبر هذه المفاهيم، خصّص الكاتب حيّزًا إجرائيًا ممثّلا في نصّ شعري للشّابي. وللتّدليل على شموليّة التّوازي السّطحي في شعره، أقرّ مفاهيم لإثبات التّوازي في المقاطع المتوازية الّتي استطالت وتولّدت منها توازيات فرعية.
الخلاصة من تحليله أنّ التّوازي ليس اختيارًا، بل إكراه يُلزم المتخاطب بالانضواء تحت سلطانه، إذ توجد مفردات يستدعي بعضها بعضًا بالمشابهة أو المقابلة. وإنّ وجود بنيات نامية، وأخرى مكتفية بذاتها، لا يعدم التّفاعل بين الحركة والاستقرار المفضي إلى توازن النصّ، وترابطه، وتماسكه.
إلى جانب مقولة التّوازي المذكورة الّتي أبان التّحليل أنّها خاصّة جوهرية وتنظيمية في الخطاب الشّعري، يقترح مفتاح مقولة التّماسك ليفرّعها إلى مفاهيم خاصّة هي: التّنضيد والاتّساق والتّشاكل والتّرادف. والهدف من ذلك هو النّظر في مستويات الخطاب المختلفة من حروف وأدوات ومعجم وتركيب ومعنى.
ويعني بـالتّنضيد الرّبط سواء بين الكلمات أو بين الجمل وهذه المهمّة توكل إلى حروف المعاني وبعض الأدوات الحرفية والاسمية. وثمّة منضّدات أخرى وسمها بـالتّنسيق، تتمثّل في المحيلات، وهي "الإشارة" و"الضّمير" و"أل التعريف". وتنقسم إلى إحالة خارج نصيّة وإحالة من داخل النصّ.
كما أنّ "جهات الأفعال" بدورها تنضّد وتنسّق بين أحداث النصّ وأوضاعه. ينضاف إلى ذلك التّنسيق بالمعجم متمثّلاً في مقولات التّكرار والاشتقاق والتّرادف والتّضاد والعامّ والخاصّ والكناية والمجاز المرسل.
ولأنّ التّرابط مفهوم واسع فإنّ محمّد مفتاح اقترح مفهوم التّشاكل الّذي تبنّته اللّسانيات لإثبات انسجام الرّسالة، وإذ يطبّقه على الخطاب الشّعري للشّابي، فإنّه اكتشف تشاكل الإنسان/الكون، وتشاكل الإنسان/الطبيعة، وأخيرًا تشاكل الإنسان/الأرض.
ولتجذير ذلك المفهوم اقترح مفهوم التّرادف اللّغوي، الّذي هو نتيجة الكلّيات التّجريبانية العابرة للأعصار والأمصار.
وإذا استطاعت المفاهيم السّابقة التوغّل في أعماق النصّ، إلى أن وصلنا إلى منبعه ثمّ إلى الثّوابت الإنسانية الكونية، فلعلّ مقولة التّفاعل الّتي يقترحها صاحب الكتاب ستبرهن على هذه الثّوابت الكونية،   وتبرز تجلّياتها. وقد فرّعها فرعين: تفاعلًا مذهبيًا وتفاعلًا ذاتيًا.
عمومًا، تمكّن من بلوغ إمكانيّة شرح البنية الشّعرية في جميع اتّجاهاتها، أفقيًّا وعموديًّا وسطحيًّا وعمقيًّا،  وهو ما يكشف عن أبعادها الجماليّة والذّاتية والقوميّة والوطنيّة والكونيّة.
الفصل الرّابع: التّحقيب
في هذا الفصل تصدّى المؤلّف لمسألة تحقيب الأدب المغربي، فألمح في البداية إلى الآراء المتهافتة الّتي تقول بأنّ الأدب المغربي لا يعدو كونه تنويعًا على الآداب المشرقيّة. ولتجاوز الانشطار والنّظرة المجهريّة تبنّى مفتاح المنهاجيّة النّسقية. ولئن كان النّسق عصيًّا عن التّحديد الجامع المانع، فإنّ ما يستخلص من جملة التّحديدات أنّ هناك أنساقًا فرعيةً تتناسل من نسق عامٍّ، والأنساق الفرعيّة تقتضي صفتين اثنتين: التّراتبيّة والاستقلاليّة.
حسب المؤلّف يمكن اعتبار مجتمع من المجتمعات نسقًا عامًّا يتولّد عنه نسق سياسيّ، ونسق اقتصاديّ  ونسق علمي، ونسق ثقافي، وهي متساوية العلاقة والمسافة ومستقلّ بعضها عن بعض، وهذا يعني أنّ النّسق الثّقافي أو الأدبيّ لا علاقة له بالنّسق السّياسي، إذ قد يتوقّف نموّ النّسق السّياسي ويستمرّ نموّ النّسق الأدبيّ، والأمر ينعكس.
وفي بحثه عن الجامع بين الأنساق المختلفة يقرّ بـالجامع الأنطولوجي الّذي هو المجتمع ومنه تتولّد الأنساق الاجتماعيّة. وثاني الجوامع هو الجامع الوظيفيّ فبما أنّه تبنّى نظرية الأنساق العاّمة فهو يسلّم بأنّ الوظيفة تحدّد الشّكل، ومن ثمّ فهي الّتي حدّدت مسارات الأدب المغربي وروحه وأنواعه الفصيحة والزّجلية والملحونة.
ثالثها، العامل الجامع والمقصود به القوّة المادّية والمعنويّة المنشئة للبنيات وللوظائف وللأنساق المجتمعيّة والسّياسية والثّقافية، وتلك القوّة هي السّلطة الحاكمة ومن ساعدها. فتمايز الأنساق حسب الكاتب لم يتمّ إلّا بأخرةٍ خاصّة لدى الأمم الّتي شهدت ثورات علميّة وأدبيّة.
في نفس المسار اقترح "المنهاجيّة النّسبية الإيقاعيّة"، وفيها تصدّى للتّحقيب ودوره في إنشاء المؤسّسة الثقافية العربيّة. والتّحقيب المتداول كما اقترحه السّابقون يرتدّ إلى فكرة قوامها وحدة الأمّة للقيام بالجهاد إذ ثمّة أحداث كبرى لها سند واقعيّ في إحداث مؤسّسة للثّقافة العربيّة الإسلامية منها:
1.  تعاليم الإسلام بما فيها من حرصٍ على توحيد صفوف الأمّة والخضوع لخليفةٍ واحدٍ، ونشر الإسلام بين الأمم متى ساعدت الظروف.
2.  فتح الأندلس سنة 92هـ تحت قيادة طارق بن زياد الّذي خطب خطبته الشّهيرة، والّتي كانت نواةً للأدب المغربي الّذي يفترض أنّ روحه هو الاتّحاد والجهاد.
3.  دخول عبد الرّحمان الأمويّ إلى لأندلس، وتأسيسه خلافةً أمويّةً بها سنة 138هـ. وغير خافٍ أنّ أهمّ الأطر الفكريّة، الأندلسيّة، المغربيّة صيغت في عهد الدّولة الأمويّة.
بعد عرضه هذا التّحقيب الّذي رآه مفتاح محاكاةً لما هو رائج في الأدبيّات المشرقيّة، اقترح المؤلّف تحقيبًا مخالفًا انطلاقًا من أطروحة تزعم أنّ الرّوح النّاظم للأدب المغربي هو الدّعوة إلى الاتّحاد للقيام بالجهاد، وتحقيبه هذا يستند إلى مفهوم الأمد البعيد الّذي تكون نقطة بدايته ونهايته حادثًا أعظم متكرّرًا يتسبّب في خلخلة اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ وثقافيّة، والأحداث العظمى المتردّدة هي:
1.     فتح العرب للأندلس وسقوطها: حقبة الاتّحاد للجهاد لتحقيق هيمنة الإسلام في الغرب الإسلامي.
2.     من سقوط الأندلس إلى الانتصار في وقعة وادي المخازن: وهي حقبة الاتّحاد للجهاد تحصينًا للذّات ودفاعًا عن الوطن.
3.     من وقعة وادي المخازن إلى فرض الحماية: حقبة الاتّحاد للجهاد بعثًا لهيمنة الإسلام ومجده.
4.  من فرض الحماية إلى وقتنا هذا: وهي حقبة الاتّحاد للجهاد الأصغر والأكبر، استكمالًا لتحرير الوطن وبناء الدّولة العصريّة.
هذا التّحقيب المقترح من الدّكتور محمّد مفتاح كان للحديث عن سجلّات الأدب، وكيفيّات دعوته إلى الاتّحاد للجهاد في هذه المراحل الأربع، شعرًا ونثرًا. وقد قدّم حججًا على ذلك، ففي المرحلة الأولى ذكر بخصوصها ثلاث قصائد من ديوان الأعمى التّطيلي في مدح العاهل المرابطي علي بن يوسف، وقصيدة من ديوان ابن خفاجة بمناسبة استرداد بلنسيّة.
أمّا في المرحلة الثّانية فتعزّز أدب الاتّحاد للجهاد، وبدأت أنواع أخرى من الأدب في البروز والتّدوين والتّداول كالأدب الفصيح، والشّعر الملحون، وتداخل الفصيح بالعامّي.
أمّا المرحلة الثّالثة، فقد توفّرت فيها عوامل كثيرة تجمع بين السّياسي والثّقافي والدّيني، ساعدت على ازدهار الأنواع الأدبيّة المذكورة سابقًا، وحفّزت على ظهور أنواعٍ أخرى لم تكن من قبلُ. فإلى جانب الأدب الفصيح والشّعر الملحون ظهر شعر المدائح النّبوية والتوسّلات، وأدب الذّخائر والنّوادر.
وفي حقبة استكمال التّحرير وبناء الدّولة العصرية، كان الشّعر والنّثر دعوةً إلى الوحدة والجهاد           والإصلاح، وفي هذه الأشعار متن كبير يعبّر عن روح الأدب المغربي حتّى وإن تأثّر ببعض المدارس الوافدة من الشّرق مثل مدرسة البعث، والمدرسة الرّومانسية وغيرها.
هذا التّحقيب، كما هو واضح، راشح عن النّظر في الأحداث الخطيرة، لا عن النّظر في أحداثٍ ثانويّةٍ كما يفعل بعضهم. وإذ يتّكئ صاحبنا على نظرية الإبدال فإنّه يقسّم التّحقيب إلى حقبتين: من البدايات إلى الحصول على الاستقلال حقبة، ومن ذلك الوقت إلى يوم النّاس هذا حقبة أخرى. ويبقى الخلاف الجوهريّ كامنًا في التّوجيهات الجماليّة والوظيفيّة للأدب لا غير.
الفصل الخامس: التّشابه
تحت هذا العنوان أثار مؤلّف "التّشابه والاختلاف" إشكالية التّرجمة، خاصّة أنّ التّرجمة المعاصرة تأثّرت بالنّظريات المتعلّقة بفلسفة اللّغة وباللّسانيات وبالدّليليات وبالسّيميائيات وبالتّاريخ المقارن والإناسة.
هذا الإشكال اضطرّه إلى توظيف بعض المفاهيم الدّليلية (السّميوطيقية) وخاصّة مفهوم "الأيقون"، فعرّف الأيقون، وأثبت ارتباطه بالمقدّس، وأردف ذلك بالحديث عن درجات الأيقون، فإذا الأيقون حسب برّس ينمّط نمطيْن: أحدهما أصليّ، والثّاني فرعيّ. وأقرّ بعد التّحليل أيقونيّة اللّغة الأدبيّة وخاصّةً عندما يتعلّق الأمر بالخطاب الشّعري.
وفي طرحه لموضوع الشّعر المجسّم بين الأصالة والاصطناع أكّد أنّ الشّعر المجسّم عبارة عن امتزاج الكلام والرّسم أو بين اللّغة والتّشكيل، وقد وقع نقل الشّعر المجسّم من اللّغة والتّعبير البصري إلى أشكالٍ تعبيريّة أخرى.
والأيقون منذ القدم، حسب المؤلّف، التحم بالحروف اللّغوية لتكوين بنيةٍ واحدةٍ تؤدّي رسالةً معيّنةً، ومثل هذا التّلاحم تفطّن إليه أصحاب الشّعر المجسّم.
ولكنّ بعض الباحثين الّذين غاب عنهم مفهوم الأيقون وخلفيّاته، اعتبروه (الأيقون) جسمًا غريبًا على الشّعر. في المقابل، كشف آخرون عن مغزى التحامه باللّغة وتجلّياته في أشعار لحظةٍ تاريخيّةٍ بعينها فـ"الشّعر المجسّم تعبير مركّب مستقاة عناصره من أنساقٍ متداخلةٍ، متجلّية في حروف اللّغة الطّبيعية، وفي خائص الرّسم، يهدف إلى إقناعٍ بليغٍ بالمقدّس، أو بالدّنيوي، أو يسعى إلى السّخرية منهما" (4)
ثمّ فصّل الكلام في بنية قصيدة الشّعر المجسّم وشكله، وأضاف عنصرًا لاحقًا تطرّق فيه إلى طرق ومبادئ ترجمة الشّعر المجسّم ذاهبًا إلى أنّ أغلب التّنظيرات في التّرجمة اعتمدت الثّنائية الحدّية:
-         التّرجمة العاديّة/ التّرجمة الحرّة.
-         التّرجمة الحرفيّة/ التّرجمة الحرّة.
-         التّرجمة المتكافئة/ ترجمة نقل معنى.
-         التّرجمة الدّلالية / التّرجمة التّواصلية الّتي اعتمدها السّيميائيّون والتّداوليّون.
ولأنّه لا يرى فروقًا كافيةً، مميّزة بين الأزواج المقدّمة فإنّه يؤسّس على ما قام به "برّس" لينمذج الأيقون إلى عدّة أنواع :
1.     الأيقون المثالي: ما يتطابق تطابقا تامًّا مع أصله مثل مستنسخات أصلٍ واحدٍ.
2.     الأيقون المتماثل: ما يشترك مع أصله في كثيرٍ من الصّفات مثل الإنسان وصورته.
3.     الأيقون المتشابه: أي ما تكون علاقته بأصله علاقةَ مشابهةٍ.
4.  الأيقون المتوازي: أي ما تطابقت بنيته ولكن العناصر الّتي تتكوّن منها مختلفة كليًّا أو جزئيا. أو توازى مضمونه مع اختلافٍ في البنية.
5.     الأيقون المتناظر: ما يشترك في العناصر، أو في الصّفات ما يناظره.
ومن ثمّ وجب على المترجم معرفة نوع النصّ الّذي يريد ترجمته، وخصوصًا ترجمة نصّ الشّعر الفضائي، الّذي يفرض على مترجمه مراعاة المضمون والبنية والشّكل والصّورة والرّموز والأصوات، وخاصّة ترجمة الشّكل لأنّه في الشّعر المجسّم شكل من أشكال الأيقون.
النّتائج:
أدرك الباحث جملةً من النّتائج المهمّة، وتفصيلها البرهنة على ديناميّة النّسق، بما أنّه متفاعل مع محيطه. من ثم تأدّى له الإقرار بأنّ كتاب البصائر وديوان الشابّي والثقافة المغربيّة أنساق ديناميّة ممتدّة في أمدٍ بعيدٍ، وكلّ نسقٍ ذي أمدٍ بعيدٍ يحوي حقبًا.
كما كشف عن تهافت الرّأي الشّائع القائم على وهم الظّاهر. ومفاده أنّ البنية المنظّمة ذات أبعادٍ انتظاميةٍ بالضّرورة، والبنية الفوضوية ذات أبعادٍ فوضويّةٍ بالضّرورة. وهكذا دفع أطروحات الفوضى والتّشتّت،    وأثبت النّظام والانتظام والتّوازي والتّحقيب والتّشابه، وفي ضوء ذلك كان تأويله لكتاب البصائر الّذي اتّخذ تشتّته واختلاطه دليلًا على انتظامه. وكذا استنتج أنّ الثّقافة المغربيّة ليست وقائع مشتّتة، وإنّما هي نابعة من وقائع متتاليةٍ في الزّمن ناتجة عن صراعٍ مع النّصارى، وأنّ درجات الانتماء تحكم التطوّر والانشطار.
على أنّ نتيجةً أخرى ألمح إليها في ختام بحثه وعلّها أمّ النتائج وهي أنّ الباحث العربي المعاصر مطالبًا بقراءة تراثه ناسجًا على منوال الأمم الرّاقية في تعاملها مع تراثها، حتّى يعيش في وئامٍ مع كينونته ووجوده وصيرورته.
الخاتمة:                      
في ختام النّظر في كتاب "التشابه والاختلاف: نحو منهاجيّة شموليّة" يمكننا القول إنّ محمّد مفتاح آمن بمشروع نقديّ، فذهب إلى التّأسيس له متسلّحًا بترسانة من الآليات، والنّظريات، والمناهج، حتّى لا يسقط في التّعميم واللاّجدوى.
جوهر هذا المشروع، أنّ التّشابه قاعدة تحكم الكون، وفي الحقيقة إنّ الكتاب كما أشار المؤلّف، يحوي بين دفّتيه جملةً من الإيضاحات بشأن بعض القضايا المطروقة في كتابٍ سابق لنفس المؤلف، يبدو أنّها حازت اهتمام القرّاء، بيد أنّ لبوس الغموض حال دون فكّ رموزها، فتراءت للقرّاء زئبقيّةً وعصيّةً عن المسك.
وعليه فإنّ هذا المنجز النّقدي هو ضرب من التّواصل العلمي، لأنّه في عمقه تعرية لما تحصّن بالظلّ، ودليل لمن أنهكته المتاهة وأعيته الحيلة. فبعد الإشارة إلى المفاهيم المؤسّسة للمنهاجيّة الشّموليّة، بلغ عدّة نقاطٍ ذات بالٍ منها: تكوين رؤيا توحيديّة للثّقافة دشّنها الفلاسفة العرب والمسلمون مثل التّوحيدي وابن خلدون. بالإضافة إلى أنّه أسهم في حلّ بعض الإشكاليّات العالقة مثل تمييزه بين النصّ والخطاب، ومقاربة تجربة الشّابّي الشّعرية من مدخل يعتبر بدعةً في تاريخ النّقد العربي، إذ أنّه أخضعها لمقولة التّوازي فأضحى الفعل النّقدي فعلًا إبداعيًّا.
وعندما قارب كتاب البصائر فإنّه نبش في بناه العميقة وأقرّ انتظامه وتوازنه، وهو بذلك يفنّد أطروحة التّشتّت والفوضى. ثمّ حلّل مقولة التّشابه فبسط طرائق ترجمته، ومكانة الأيقون فيه، وسبل ترجمته.
بناءً على الإشارات السّابقة ليس من عجبٍ أن نعتبر كتاب "التّشابه والاختلاف" علامةً فارقةً في المسار النّقدي العربي، وهذا ليس إطراءً ملقًى على عواهنه، وإنّما إقرار بقيمة الكتاب العلميّة، وهو لذلك يمثّل مرجعًا متينًا للنقّاد، لما قدّم من مفاهيم ومصطلحات، ولما طرح من رؤى كانت في حكم المعدومة.

الهوامش:
1-    محمّد مفتاح، التّشابه والاختلاف: نحو منهاجيّة شموليّة، المركز الثّقافيّ العربيّ، الدّار البيضاء، ط. 1، 1996، ص. 10.
2-    المصدر نفسه، ص. 13.
3-    المصدر نفسه، صص. 34 – 35.

4-    المصدر نفسه، ص. 209.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق