السبت، أكتوبر 01، 2016

على شاهين يكتب: ملخص رواية الكهف للأديب البرتغالي جوزيه ساراماجو


أحد أكثر الروايات إثارة لأكبر قدر من المشاعر والقادرة على استثارة مراكز التأويل داخل عصبونات العقل النقدي، أتحدث عن رواية (الكهف) التى ولِدت من أنامل البرتغالي جوزيه ساراماجو ( 1922 – 2010 )، الذى اقتنص بقلمه نوبل للأدب عام 1998، وبأسلوبه عقول القُراء، فلم يكن فقط شيوعي فى رؤيته السياسية، ولكن كان هناك (فائض) من العبقرية في رواياته عبر تغذية فن الأُمثولات (بمواد خام) صافية من (مصنع) قريحته، جعل كل قارئ ينهل من (إنتاجه) وعلى عكس قانون العرض والطلب تُرجمت مُنتجاته إلى 25 لغة دون أن يحدث خسارة فى سهم واحد من أسهم الحب المبثوث فى سوق بورصة القراء فهل ثمة حاجة بعد ذلك إلى حساب (مُعدل الإهلاك) والرباح قد فاق الحدود؟
دون حرق أحداث الرواية ودون الوقوف موقف المدح والتهليل للرواية فقط ومن خلال هذه الرؤية أقول أن الرواية تستلهم من فكرة (الكهف الأفلاطونى) الفلك الذى تدور حوله أحداث الرواية ولمن لا يعرف كهف ابن آثينا هو فى الحقيقة مثال ضربه لأشياعه لتوضيح فكرة المُثُل ومُفاده أن أفلاطون أفترض أن ثمة كهف بداخله أشخاص مقيدون من إيديهم وأرجلهم وحول أعناقهم أغلال تحول دون إستدارة رأسهم ولايملكون ترف النظر لجميع الزوايا اللهم الحائط المواجه لهم ، ولنفترض أن ثمة نار موقدة وخلف النار يمر الأشخاص والناس والحيوانات ومن ثم فسيرى الأشخاص المُقيدون فى الكهف ظلال هؤلاء المارون ويحسبون أنهم يرون الحقيقة فى حين أنهم يرون ظلالها أما المارون والأشخاص فهم لايعلمون شيئا عنهم باستثناء الظلال ولو خرج واحد من المُقيدين مثلا من الكهف ونظر للعالم الخارجي ثم عاد ليُقنع الأخرين بتشوش رؤيتهم للمارين فلن يقتنعوا ومن ثم يستخلص أفلاطون رؤيته عبر هذا المثال أننا فى عالمنا هذا لا نعرف حقائق الأشياء كما هي وإنما مايلوح لنا منها فمعرفتنا قاصرة عاجزة ومن ثم على الإنسان أن لايعول كثيرا على المادة وما تُظهره لنا من حالاتها المختلفة ومن هنا أستطيع أن أدخل إلى لحم وسُدى الرواية.
رجل يصنع الفخار خرج من الدنيا بابنة زوجها يقوم بمساعدته فى حمل الأواني الفخارية والذهاب بها للسوق، تدور الدوائر وتضيق الأرزاق وتستأسد التكنولوجيا والمصانع الحديثة فى صناعة صِنعة عامل الفخار فتضيق به الدنيا حتى تمنحه الأخيرة فرصة أخيرة تظهر فى شكل شُحنة تطلبها إحدى المحلات المهتمة بالفلكلور والأعمال الفخارية والخزفية فيناضل عامل الفخار فى تلبية الدُفعة المطلوبة لأن الرقم كبير يصمد أمامه مصنع فخار وليس رجل بسيط ترتعش يداه حين يُداعب الطين الواهن فكيف بشُحنة حتى وإن أتمها سيحتاج إلي سيارات نقل، فهل حقا تلك الشُحنة هى ما ستجعل الرجل يُدرك أهمية عمله أم يا تُري ستجعله يكتشف عبثية عمله؟ وهل الحقيقة تكمن فى السعي للبحث عن محلات ومصانع تحتاج الخزف أم أن هذا وهم والأجدى أن يخرج الإنسان من كهف هذه الفكرة ليبحث عن حقيقته وحقيقة قدراته؟ وهل ستكتمل الشُحنة أم ستكون أكثر من مجرد شحنة عادية؟ ولأنه من الحماقة حرق الرواية بإشعال نار الوصف فى ختام أحداثها فسأتناول عدسة نقد أدبية مقعرة الجوانب عسى أن نُكثف شعاع الجمال الفني على سطح رواية مصقولة الحواف محبوكة الصنعة.
أسلوب كتابة ساراماجوا أكثر من مجرد شئ يمكن وصفه بكلمة (رائع) الهزيلة و أقوى من أن تصمد أمامه عبارة (غريب) وإن كان أقل شئ درءا للعجز من جهتنا هو أن نقول (خارق) حيث أن الرجل لايكتب مثلا حوار بين الأب وإبنته تخترقه الفواصل والسطور بل هو سطر واحد يضم سؤال ورد الأب وابنته تتقاطع أساليب الحوار مع السرد وكأن سارماجوا هاهنا يريد القول بأنه من المستحيل أن نفصل الحوار بين الشخصيات عن حوار الأحداث لنفسها الأمر الذي سبب شئ من الحيرة لبعض القراء حيث وجد البعض محاولته تلك كمحاولة دمج الزيت بالماء فى حين إن كان سارماجوا هاهنا لم يحاول أصلا دمجهم وإنما قام بتعريف خصائصهم ومن التنافر يولد التضافر!
سارامجوا يُتقن بشكل مذهل فن الإحالات ويُجيد اللعب بأوتار الإسقاط ويمكن القول أن فن الأمثولات قد إنشق عن قبر التاريخ وأعاده سارماجوا لعرش الرواية، وفن الأمثولات لمن لايعلمه هو تجسيد الرمزيات والمُثُل الفلسفية فى الرواية وتحويل الأفكار المجرد إلى شخصيات مجسده فمثلا يقوم الكاتب بتصوير الشيطان شئ يمشي على الأرض ويقابل الضحية ليعقد معاه عقد يلبي رغباته مقابل أن يسلب روحة وهاهنا يجسد الشيطان فكرة شهوة الإنسان التى تطمع فى كل شئ وعواقب هذا الشره والشهوة المستعرة ، وكأن يقوم ساراماجوا فى أحدى رواياته بتصوير قرية ذهب عنها ملك الموت وأصبح أهلها مخلدين لا يموتون فما النتائج المترتبة على ذلك؟ ساراماجوا يُتقن فن تجسيد الأفكار المجردة والفلسفية وداهية فى توظيفها فى رواياته.
يعتمد ساراماجوا على أسلوب التكثيف فى سرده والإيجاز فى بعض مواطن القصة فاتحاً المجال للتأويل، وهناك الكثير من الحِكَم القوية المتناثرة فى حبر الرواية مثل قوله (فالشباب لايعرف مايمكنه تحقيقه والشيخوخة لا تتمكن من تحقيق ماتعرفه) والحوار القصير الذى قال فيه أبطاله (لا تحزن فالزمن يشفي كل شئ/ عفوا أنا لن أعيش بما فيه الكفاية لكي أتأكد من هذا) يعتمد ساراماجوا على أسلوب (التبئير) فى روايته أى أن يركز بؤرة الوصف الداخلي للشخصية وملامحها ومزاجها وماتراه حتى تشعر بأنه لاشئ فى الرواية غير هذا الشخص، ثم يخرج بسرعة إلى التبئير الخارجي ليصف الجو العام المحيط للشخصية و الأحداث المؤثرة فيه، ومابين الداخل والخارج نجد وصف سارماجوا يحتاج لتركيز شديد فبعض الأوصاف المقتضبة والحوارات المحددة نقطة الوقف فيها قبل إستهلال الكلام تحتاج لشخص متفرغ لقراءتها، وليس قارئ السرير الباحث عن أى رواية تبعث النوم فى عينيه عند الدخول للنوم!
من أجمل المقاطع المذهلة فى الراوية الإسقاط الذى يلقي بشباكه على فكرة (الخلق) فيُسقط هذا البرتغالي صناعة عامل الفخار للأطباق الفخارية على فكرة الخلق من حيث إشتراكهم فى الطين و(النفخ) المتواصل لصانع الفخار لفخاره ونفخ الله من روحه للبشر والصلصال الذى يغدو تحت وطئة الفرن (خلق جديد) وكالأنسان يواجه هذا الفخار أخطار المطر والأهمال والإنكسار وكالإنسان يواجه خطر الفناء والانقراض أمام التكنولوجيا الحديثة وارتفاع زئير الآلة أمام ابتهلات بنى آدم.
على القارئ فى حضرة ساراماجوا أن ينسى جميع أشكال الكتابة وأغلب عمليات السرد التى قرأها من قبل وهذا ضروري وصحي لأن الذهاب إلى المتنزهات شئ مفيد للصحة لكن لايعنى هذا الضجّر من هدير أمواج البحر فالأول ليست فقط لشم الورود كما الثاني ليس للسباحة فقط، ولهذا فسارماجوا ضروري كضرورة البستان للبحر حتى وإن لم نستطع التجاوب معه فالرجل يمنح القارئ زاوية جديدة للتأمل و لحن جديد لعزف سيمفونية عبر أدوات اللغة والتعبير، أحد أكثر الأشياء التى فتنتني فى الرواية كانت النهاية وهذا شئ طبيعى فرجل يبدء روايته عبر وصف جرح فى يد سائق محطما كل الأعراف التى تبدأ بها أغلب الروايات فتأمل !
 فهذا روائي يحتال على النقد لينقد النقد نفسه، وهذا طبيعى إن عرفنا أن الرجل بعد أن كتب روايته الأولى ظل 20 عاما يعكف على القراءة بكل مستوياتها وفروعها وعمل فى أكثر من وظيفة من عامل بريد إلى ناقد أدبي ثم حمّال فى محطة سكة حديد ثم ميكانيكي ثم صانع أقفال ثم مترجم وغيرها من الوظائف والمهن حتى آمن أنه قد (حطم) الطوق وأهل لإن يكتب شئ يستحق القراءة ومن ثم فمن أجتمعت له خبرات الحياة على مستوى الاحتكاك بالبشر والتغذية برحيق المعرفة عبر أزهار لابد أن يُنتج (عسل) فريد فى وفرته و فعّال فى فترته!
إقرأو الكهف.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق